أهمية دور المهرج
يؤدي المهرج وظيفة اجتماعية بالغة الأهمية في تفاصيل الحياة الاجتماعية للناس عامة، ولغة التهريج هي لغة عالمية يفهمها الناس جميعاً، ورسالة التهريج لا تلقى أي عائق لغوي، أو فكري، أو ثقافي لتصل إلى المتلقي.
نتحدث في هذا المقام عن شخصية المهرج، عن دوره في حياة المجتمعات.
المهرج الذي يحقق شيئاً من التوازن في تفاصيل الحياة اليومية للناس.
في رأي للفيلسوف الوجودي زورن كيركغور يرى فيه أن أهمية المهرج تكمن في الدور الذي يلعبه بطريقة غير مباشرة للتخفيف من المآسي التي يعاني منها الناس.
يصور الفيلسوف رأيه على شكل مقطع أدبي يقول فيه: حدث ذلك في مسرح حيث شبّت النار في أجنحته، فخرج المهرج ليحذّر النظـّارة من الكارثة المحدقة بهم، وضج الجمهور بالضحك والتصفيق استحساناً لنكتته، وكلما زاد المهرج في تعنيفهم وتحذيرهم، زاد الضجيج والضحك.
يتضح من هذا المقطع أهمية وجود شخص يحمل روح النكتة حتى عند وقوع الويلات والمآسي، وهذه النكتة التي تخفف عن الناس، وتروّح عنهم بعض الشيء، فالتغلب على ما هو مأساوي في الحياة لا يتم إلا بوسيلتين فقط هما: الدين، والسخرية كما يرى أحد الفلاسفة.
إذا نظرنا إلى مشهد مروّع يقوم فيه المهرج بالتخفيف عن الناس من خلال إضفاء روح السخرية، فينتابنا إحساس أن هذا الشخص المهرج يمتلك عيناً ثالثة يرى بها ما لا يراه غيره.
بناء على هذا الاستقراء، يمكنني القول بأن الملاّ نصر الدين / جحا / لم يكن أقل شأناً من الحكيم / أحيقار / من خلال أهمية وجوده في الناس، ذلك أن الثاني كان يقول حكمة، والأول يقول نكتة، وكانت النكتة أحياناً تجلو في روح الحكمة لدى أحيقار، كما كانت الحكمة تجلو أحياناً في روح النكتة لدى جحا، ولذلك يقال إن لكل مجتمع جحاه، ولكل مجتمع أحيقاره.
يمكن أيضاً ملاحظة سمات مشتركة بين ملامح وجه المهرج، وملامح وجه الفيلسوف.
لننظر إلى: الجاحظ.. توفيق الحكيم.. شوبنهور.. جحا.. شارلي شابلن.. إسماعيل ياسين، ولعلّي أذكر أن بعض نقاد السينما أطلق على شارلي شابلن لقب: / المهرج الكوني /1
يتمتع المهرج بهذه الخصوصية في امتلاك وجه ضاحك باكي في آن، فيمكن أن تضحك حدّ القهقهة، وأنت تنظر إليه، ويمكنك أن تبكي حدّ النحيب، وأنت ترنو إلى تلك القسمات.
إن ما يضفي على المهرج روح التهريج، امتلاكه لهذه الخصوصية في الوجه، فإن فقد هذه الميزة، استعان بوجه صناعي جعله وجهاً مستعاراً له، وهنا يحاول أن يعوّض ذلك بدقة الحركات البهلوانية، والتلاعب بحركات الألفاظ.
مكانة التهريج في الأدب
استفاد الأدب بصفة عامة من فكرة التهريج، ووظّفه خير توظيف في الكثير من الأعمال الإبداعية.
كما تعرض الأدب في مختلف أجناسه لشخصية المهرج، وكانت هذه الشخصية بالغة الأهمية في تلك الإبداعات.
كان المهرج يظهر بأشكال وألوان وهيئات مختلفة، يظهر تارة على أنه بهلول، وتارة على أنه معتوه يفلسف الأحداث والوقائع، أو مجذوب، وأحياناً يميل البطل في مراحل وقوع المآسي البالغة عليه إلى شيء من التهريج كما الأمر في مسرحيات شكسبير 2.
كذلك استعان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة بشخصية المهرج في عمله الكبير / هكذا تكلم زرادشت / عندما ظهر ذاك الشخص المهرج من الجبال وغدا ينذر الناس قائلاً: / الحياة في خطــر/.
كما استعان الفنان السوريالي سلفادور دالي بشخصية المهرج في الكثير من أعماله التشكيلية، بل كان دالي نفسه يتقمّص في كثير من الأوقات شخصية المهرج، ويتزيّا بزيه حتى عند افتتاح معارضه، أو زياراته إلى أماكن عامة، أو في بعض تصرفاته، وحتى أحاديثه.
كما أن مذهب السوريالية استفاد كثيراً من لعبة التهريج، إن لم يكن التهريج أحد أهم دعائمه ويؤكد أندريه بريتون - واضع بيانات السوريالية - مثل هذا التأثر بقوله: الكل يعرف جيداً ما هو الإلهام ولا سبيل إلى إخطائه، فهو الذي زوّد حاجات التعبير السامية في كل زمان ومكان، ويقال في العادة إنه موجود (في) أو غير موجود، وإذا لم يوجد فإن شيئاً مما يصدر عن الحذق الإنساني المشاب بالمصلحة وبالحيلة المنطقية وبالتمكن المكتسب من الجهد لا يمكن أ ن يسلّينا غيابه، إن هذه الثمار هي الكتابة الآلية ورواية الأحلام، تتميز في وقت معاً بأنها الوحيدة التي توفر مواد تقديرية رفيعة للنقد الذي يبدي في الميدان الفني حيرة غريبة، وبأنها تمكّن من إعادة تصنيف عام للقيم الشعرية، وبأنها تزود بمفتاح قادر أن يفتح إلى ما لانهاية ذلك الصندوق المتعدد الأعماق الذي يسمّى الإنسان.
وفي كتابه /أمام الستار/ يرى أن التاريخ سيحكم وحده إذا كانت البيانات التي جعلتها الوجودية تظهر حديثاً في المقدمة قادرة على القيام بمثل هذا الدور، أو إذا كان نجمها لا يضيء سوى حقبة انتقالية قصيرة.. ليس هنا مجال البت في المسألة الشائكة التي هي معرفة ما إذا كان انعدام الأسطورة هو أيضاً أسطورة وإذا وجب أن يرى فيه أسطورة اليوم. فعلى رغم الاحتجاجات العقلانية كل شيء يجري اليوم كما لوأن أعمالا شعرية وتشكيلية معينة، حديثة نسبياً تتمتع على الأذهان بقدرة تفوق من كل جانب تأثير العمل الفني.
أما جيمس جويس، صاحب رواية / عوليس / الذائعة الصيت فكان يردد: / لست إلا مهرجاً أيرلندياً، أو جوكراً كبيراً في هذا العالم /.
كان اللجوء إلى ظاهرة التهريج حالة يحاول من خلالها الأدباء التعبير عن المآسي التي تصيب العالم بصفة عامة، أو تصيبهم بصفة خاصة.
يقول المركيز دي ساد معبراً عن قوة تشاؤمه وسوداويته: إنني أمقت الطبيعة، أود لو أفسد عليها مخططاتها، لو أعاكس سيرها، لو أوقف دوران الكوكب، لو أنشر البلبلة في الأفلاك السابحة في الفضاء، لو أحطم ما يفيدها، وأحمي ما يؤذيها، وبكلمة موجزة أتمنى أن أهينها في أعمالها، ولكنني لا أستطيع النجاح في هذه المهمة.
وفي هذا التشاؤم يرى صاموئيل بيكيت: يولد الإنسان من ظلام الرحم، إلى ظلام القبر ماراً بظلام الحياة .
وكان فرانز كافكا يقول: كل شيء وهم، الأسرة، المكتب، الشارع، الأصدقاء، بعيدين كانوا، أم قريبين. الحقيقة التي هي أقرب من أي شيء هي فقط أنك تضرب رأسك بجدار زنزانة لانافذة فيها، ولاباب.
ولذلك يلجأ كافكا إلى الكتابة من أجل أن تخفف عنه وطأة هذه المعاناة، فيقول: أريد اليوم أن أنزع عن نفسي بالكتابة كل حالة القلق، فأنقلها من أعماقي إلى أعماق الورق. أنا أكتب بالرغم من كل شيء، وبأي ثمن، فالكتابة كفاحي من أجل البقاء.
وتحضرني من أندريه بريتون الحادثة التالية: لايزال لويس آراغون يذكر معي مرور صبي جاء يبيع زهوراً في مقهى كنا فيه ذات مساء برفقة شريكو. يولي ظهره للباب، فلم يبصر الصبي داخلاً، وكان علي أن أسأل آراغون، وقد أخذته مشيئة الوافد إن لم يكن شبحاً، فأخرج شريكو دون أن يلتفت إلى الباب مرآة صغيرة من جيبه، وأجاب بعد تفرّس في وجه الصبي الصغير: إنه شبح بالتأكيد.
إنها المعاناة التي تدفع إلى التعبير عن هولها من خلال اللجوء إلى أحد أشكال التهريج، وهنا علينا ألاّ ننسى تلك المعاناة الشديدة، وتلك الأهوال التي وقفت خلف كل تلك الإبداعات الأدبية الكبرى التي تقدمت للبشرية.
أبولينير كان يعاني طوال حياته من عقدة أنه ابن غير شرعي، حتى أنه كان يرغب في أن يخرج عن جلده، كما لم يسبق لرامبو أن تلقّى قبلة حنان واحدة من فم أمه، فاضطر إلى كل تلك الأسفار بحثاً عن قبلة تعوضه عن تلك القبلة، وكان ذلك خلف بعض سلوكياته الانحرافية، وشوبنهور الذي لاقى الأهوال على يدي عشيق أمه، دفعه ذلك لأخذ ذاك الموقف السوداوي من المرأة، ومن الحياة بصفة عامة، فأبدع كل ذاك التعبير عن فلسفة التشاؤم. وأمضى المركيز دي ساد خمساً وعشرين سنة في السجن مما أدى على إبداعه لنزعة السادية، وانتهى نيتشه بالجنون، وسويفت بالوهن العقلي، بينما فقد أبو لينير القدرة على الكلام.
أما دستويفسكي فكان يقول: لدي مشروع، أن أفقد عقلي، ويسطـّر إلى أخيه قائلاً: وما تبقى لي سوى هذا القلم، والدم واللحم، هذا الذي يعاني ويشفق ويتذكر، ويبدع الحياة رغم كل شيء، لم أشعر مطلقاً بهذه الخواص الملأى بالقوى، والغنى الفكري من قبل كما أشعر بها الآن.
وبلغت المعاناة بأدغار آلن بو مرحلة لم يعد فيها قادراً على المشي في الشارع، وانعزل كلايست عن العالم والأهل قائلاً: لقد أصاب الجرح روحي حتى لأكاد أقول حين أُخرج أنفي من النافذة، يؤلمني ضوء النهار الذي يلتمع في وجهي.
سأقتطف هنا مقطعاً من رواية / المسخ / لفرانز كافكا لنرى تفاصيل السخرية التي يتحدث بها هذا الكاتب، وهو يحوّل شخصاً إلى حشرة، وعندذاك يقْدم هذا الشخص على الانتحار مفضلاً ذلك على أن يعيش حشرة بعد أن كان إنساناً.
يستيقظ البطل غريغوار سمسا فجراً، فيرى نفسه وقد تحول إلى حشرة في فراشه: فكر غريغور وعاد لمتابعة عمله. لم يستطع قمع لهاثه من الجهد، ومن وقت لآخر كان عليه أن يستريح، ومن ناحية أخرى لم يقنعه أحد، إذ ترك وشأنه تماماً.. وحين أنهى الاستدارة، بدأ الزحف فوراً ولم يستطع أن يفهم البتة، نظراً لضعفه كيف قطع ذات المسافة بهنيهة قصيرة سابقاً دون أن يدرك ذلك لم تقاطعه كلمة أو هتاف من عائلته. أدار رأسه حين كان في المدخل فقط - ليس بشكل كامل، فقد أحس برقبته متيبسة، ومع ذلك ظل يرى أن لا شيء تبدل خلفه غير أن أخته نهضت. طافت نظرته الأخيرة بأمه، التي كانت مستغرقة في نوم عميق الآن.. والآن ؟.. سأل غريغور نفسه وهو ينظر في الظلمة حوله.. وللحال اكتشف أنه لم يعد بإمكانه التحرك إطلاقاً لم يفاجئه ذلك بل بدا من غير الطبيعي أنه كان قادراً حتى الآن فعلاً على دفع نفسه على هذه السيقان الصغيرة الرفيعة. وأحسَّ من جهة ثانية بارتياح نسبي كان يشعر بالألم في كل أنحاء جسده، لكن بداله أنه كان يذوي ويذوي تدريجياً وسوف يذهب في النهاية كلياً. قد تكون قناعته بضرورة اختفائه أرسخ حتى من قناعته بضرورة اختفائه أرسخ حتى من قناعة أخته، وظل في هذه الحالة من التفكير الفارغ والآمن حتى دقت ساعة البرج معلنة الثالثة صباحاً وظل يرى أن كل شيء خارج النافذة كان قد بدأ يزداد ضوءاً ثم، دون موافقته، غطس رأسه على الأرض وتجدلت من منخزيه آخر أنفاسه الضعيفة " / 3.
مكانة التهريج في التراث العربي
كما حفل التراث العربي بأسماء عديدة لمهرجين كانوا يترددون إلى أولي الأمر، فيحيلون الآلام، وحتى المصائب إلى نكات كما الأمر مع أبي دلامة، وأبي الشمقمق، وأبي العبر الهاشمي وغيرهم.
مع أبي العبر الهاشمي(**) الذي نتوقف عنده قليلاً، نرى شكلاً من أشكالا التهريج الذي يجمع بين الفطنة، والتحامق، والسخرية.
ومن المفيد هنا ذكر حادثة يرويها أبو العبر بنفسه، يمكننا من خلالها التعرف على شيء من هذا النزوع لديه. يقول: كنا نختلف ونحن أحداث إلى رجل يعلمنا الهزل، فكان يقول: أول ما تريدون رفع وقلب الأشياء. فكنا نقول: إذا أصبح، كيف أمسيت، وإذا أمسى، كيف أصبحت؟.
وإذا قال: تعال. نتأخر إلى الخلف. وكانت له أرزاق تعمل كتابتها في كل سنة، فعمل مرة وأنا معه الكتاب، فلما فرغ من التوقيع، وبقي الختم، قال: أتربه. وجئتني به، فصببت عليه الماء، فبطل فقال: ويحك لاتصحبني، فأنت أستاذ الأستاذين.
يتجول أبو العبر في الناس وينشر أفكاره فيهم عن قرب حتى غدا شخصية شعبية شبيهة بالمهرج الذي يبطن المعاني العميقة خلف عباراته الساخرة الهزلية.
قال له شخص ذات مرة: يا أبا العبر لِم صار دجلة أعرض من الفرات، والقطن أبيض من الكمأة ؟ فقال: لأن الشاة ليس لها منقار، وذنب الطاووس أربعة أشبار.
ومن مواقفه الغامضة الطريفة أنه يجيب على سؤال لرجل قال له: يا أبا العبر لِم صار العطار يبيع اللبد، وصاحب السقط يبيع اللبن؟ فأجابه: لأن المطر يجيء في الشتاء، والمنخل لا يقوم به الماء.
وقال له شخص: لِم صار كل خصي أمرد، والماء في حزيران لايبرد؟ فقال: لأن السفينة تجنح، والحمار يرمح.
يتحدث أبو العبر عن بعض وقائع حياته الشخصية، وكذلك التي وقعت مع المقربين له.
ومن ذلك روايته: خرج أخي الصغير إلى أحمد بن أبي داوُد، فشكا إليه خلة، فأمر له بألفي درهم، فمضى أبي بعده، فشكا مثل ذلك، فلم يعطه شيئاً، وعرفت سرّ من رأى فعرّفني أبي خبره، فقلت له: قف معي عند باب ابن ابي داوُد، وكل الكلام إلي، فوقف معي وقال: شأنك.
فلما خرج قلت: أصلح الله القاضي. هذا محمد بن عبد الله بن عبد الصمد الهاشمي، يسأل القاضي أن يلحقه بالأصاغر من ولده. فضحك، ولعنني أبي، وانصرف، فوجه إليه ابن داوُد بثلاثة آلاف درهم، فقلت له: أعطني منها ألفاً، فوالله لولا ما لفتني إليه، ما أخذت شيئاً.
كلُّ عصر له مهرجه، كل دولة لها مهرجها، كل مدينة لها مهرجها، كل قرية لها مهرجها، وقد ورد المهرج في التراث العربي في الكثير من المؤلفات 4.
أثر المظهر على شخصية المهرج
إذا كان التهريج يعتمد على فلسفة الفكرة التي يرسلها المهرج إلى متلقيه، إلا أن مظهر الإنسان المهرج لايقل أهمية في أداء هذه الوظيفة، فالمنظر عليه أن يبعث على الضحك كما لدى شارلي شابلن على سبيل المثال.
الوجـه بصفة عامة هو نبض الباطن، لايقتصر ذلك على وجه الإنسان فحسب، بل يشمل كل كائن على وجه الأرض.
الحيوان الأليف المسالم له وجه وديع يبعث على الطمأنينة، والحيوان الشرس العدواني، يتقدمه وجه يبث الذعر والشر.
كذلك نرى معالم الذكاء، أو الغباء، أو المكر في وجوه بعض الحيوانات مثل: الثعلب - بنات آوى - الحمار.
في عالم النبات أيضاً تلعب صفحة الظاهر هذا الدور، فنرى الشجرة الطيبة من أوراقها وهيئتها، ونرى الشجرة الخبيثة من مظهرها، ويأتي هذا على أنواع الورود المتفاوتة الجودة، ثم يمكن أن نرى السنبلة المريضة من مظهرها، ونرى السنبلة المكتملة من هذا المنظر.
حديثنا في هذا المقام عن وجه الإنسان، هذا الوجه الذي هو قنديل الباطن، قنديل النفس، قنديل العقل.
لننظر إلى عدة وجوه: وجه إنسان مفكـّر، وجه بستاني، وجه مطرب، وجه عتال، وجه صعلوك، وجه مهرج.
ثم ننظر إلى وجه إنسان مستقر في سكينة الإيمان، إلى وجه مشتت بموجات الاضطراب، إلى وجه إنسان فضيل، إلى وجه إنسان رذيل ؟
على هذا النحو تنفرز الوجوه أمام أنظارنا وتمنحنا إشارات أولى عن أصحابها، فيكون من الطبيعي أن نرى وجوهاً معينة تنتمي إلى أحزاب معينة منسجمة مع معالم تلك الوجوه، تنتمي إلى عقائد، إلى إيديولوجيات، سواء كان هذا انتماء عن قـُرب، أم كان ولاءً عن بـُعد، فيمكن لك أن ترى شخصاً يميل إلى طاغية، يدافع عنه، وترى جماعة تؤيده في ذلك، ثم ترى شخصاً يذمّ الطاغية، وينتقد سلوكه، وترى جماعة تنضم إليه.
هنا سوف ترى تشابهاً في وجوه كل فريق إلى جانب تشابه في الأفكار، فتدرك أن كل شخص يميل إلى مَن هو على شاكلته، ويمكن له أن يمثله.
عندذاك تدرك أن الأمر يمضي على نحو طبيعي، فثمة خير، وثمة شر، وكما أن للخير أهل، فللشر أهل، وهذا كل ما في الأمر ببساطة شديدة.
الوجه الآخر من لغة الوجوه، هو أن صفحة الوجه تـُظهر الحيوية والنشاط، كما تـُظهر الخمول والمرض، تـُظهر الفرح، كما تـُظهر الاحتقان، وعندذاك يمكنك أن تقدر حال الشخص من صفحة وجهه فترى إن كان في حالة تسمح أن تطلب منه مطلبك، أو تؤجل ذلك إلى حين آخر، هذا يكون حتى بالنسبة للأسرة في بيت واحد بين الآباء، والأبناء، بين الأزواج، والزوجات، بين الإخوة.
فانظر إلى وجه شخص سعيد في حالة فرح، ثم انظر إليه وهو يتلقى اتصالاً ينبئه خبراً تعيساً، ولذلك نرى كثيراً من الأطباء يتكهّنون بالمرض من خلال إلقاء نظرة أولية إلى وجه المريض.
للوجه أهمية بالغة في معرفة صاحبه، وهو خير دليل إلى إعطاء لمحة عن معدن صاحبه، وهذا يغني عن كثير من الجهد، والوقت، والتجارب.
الخاتمـة
الذي يقدّم عملاً من أجل تقديم سعادة للناس، لا يخطر في باله أن سوف ينال مقابلاً نتيجة عمله الذي يجهد لتقديمه، لأن المقابل الأثمن الذي يناله هو رؤيته لمظاهر هذه السعادة البادية على هؤلاء الناس كتفاعل مع ما قدم، وبالمقابل تراه يكون أبأس شخص في العالم أمام مظاهر البؤس والآلام والكوارث التي يلحقها غيره بهؤلاء الناس وهو يعجز من أن يتدخّل ليخفّف عن هؤلاء معاناتهم، أو يمنع مصدر الأذى.
إنها ثنائية متوازية،: هؤلاء قدموا شيئاً مجدياً للناس،
إلى جانب: هؤلاء قدموا الويلات للناس.
الأشخاص الذين تسببوا في كوارث كبرى وصغرى بحق الناس,
ألحقوا بهم الويلات والدمار,
أحرقوا الياسمين.
إنهم بالفعل ألحقوا الشقاء بالناس، وأظن أن هذه المقارنة وحدها تكون كافية، لأنها تضع حدّ التمييز الذي يبيّن بأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض ويذهب ما دون ذلك جفاء، فيدخل الطيبون مدخلاً طيباً إلى الحياة ويخرجوا منها مخرجاً طيباً،
ويدخل الشريرون مدخل شر إلى الحياة، ويخرجوا منها مخرج شر.
وكما أننا نرى أناساً يكافئون الذين أسعدوا الناس،
فإننا نجد أناسا يؤازرون الذين أشقوا الناس من أجل أن تستمر الحياة على جناحَي الخير والشر في هذا الصراع التاريخي الذي يفرز هؤلاء، ويفرز هؤلاء على رأس كل قرن.
وهنا، فإن الذي يقدر عمل الخير ويؤازره، لايقل شأناً عن فاعله حتى لو كان فاعل هذا الخير يمضي وفق الحكمة السائرة / افعل الخير وارم في البحر/.
يبقى التهريج من الأفكار الفلسفية الكبرى التي اكتشفها الإنسان، ويبقى متجدداً يحظى بشرائح هائلة من الناس، وقد تفرع التهريج في عالمنا المعاصر مع ثورة التقنيات الهائلة، فأخذ التهريج أشكالاً جديدة مثل / الكاميرا الخفية / التي تعتمد على فكرة التهريج بالنسبة للمذيع الذي يعتمد في مهمته على روح التهريج.
يحتاج الإنسان إلى مَن يُضحكه كما يحتاج إلى مَن يبكيه، ويكفي المهرج فضلاً أنه قبـِل أن يكون مهرجاً، وقبـِل لا أن يلعب دور المهرج فقط، بل أن يكونه، وفي جميع الأحوال، فإن الذي لايحب الناس حباً جماً لايتطوع من أجل أن يضحكهم، في حين دموعه تتساقط في أعماقه، بيده يبتسم عندما يرى الابتسامات ترتسم على شفاه أولئك الذين ينظرون إليه، وهكذا فكما أنهم يستمدون ابتساماتهم من حركاته، فإنه يستمد ابتسامته، وكذلك حيويته من تلك الابتسامات التي تزيده تألقاً، تزيده بهجة، وهو في غمرة عمله الذي هو في جوهره إسعاد الناس.
هوامش:
* السوريالية اسم مذكر في الفرنسية، تعني آلية نفسانية صرفة يُقصد بها التعبير شفاهاً أو كتابة أو بأية طريقة أخرى عن سير الذهن الحقيقي. إنها إملاء الفكر في غياب أية رقابة، يجريها العقل خارج كل اهتمام جمالي وأخلاقي، وهي في التعريف الفلسفي موسوعياً: تقوم على الإيمان بالحقيقة الفوقية لبعض أشكال التداعي المهملة قبلاً وبقدرة المنام الكلية وفي حركة الفكر غير الهادفة وتهدف إلى القضاء نهائياً على ما سواها من آليات نفسانية وإلى تولي حل مشاكل الحياة الرئيسية بدلاً منها.
** هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد من بني العباس. وقد عُرف بأبي العبر الهاشمي، وينتمي إلى أسرة تتمتع بمكانة اجتماعية وأدبية، وقد تأثر بشخصية أبيه الذي كان أديباً.
المراجـع
1 - من أفلامه: دكان الربى 1916 - شارع اليسر 1917 - المهاجر 1917
2 - كما في مسرحيات: كوريولانس - تيمون الأثيني - فولستاف السكـّير – الملك لير – هاملت.
3 - المسخ – رواية - فرانز كافكا - ترجمة منير بعلبكي - بيروت
4 - مثل كتاب: من المستطرف في كل فن مستظرف - لمؤلفه شهاب الدين أبي الفتح
محمد بن أحمد الأبشيهي - منشورات وزارة الثقافة السورية.
المصدر : الباحثون العدد 44 شباط 2011