يعرف الجميع أن الجزيرة العربية ما هي إلا شبه جزيرة، يحيط البحر بها من ثلاثة جوانب، وأن شواطئها الطويلة الممتدة من خليج العقبة إلى ميناء البصرة، قد شهدت قبل الإسلام تلاقي حضارات كثيرة متنوعة كالفارسية واليونانية والفرعونية والهندية والرومانية والحبشة وغيرها من الحضارات الأخرى.
وأن هذه الحضارات كانت تتوافد وتتواجد عليها على شكل غزوات أو حملات عسكرية، أو مبادلات تجارية، أو كمحطات توقف للسفن التي كانت تمخر عباب البحر الأحمر أو المحيط الهندي أو الخليج العربي، بالإضافة إلى عمل سكان هذه الشواطئ في الصيد البحري أو في الغوص بحثا ًعن اللآلئ الثمينة، أو في التجارة ما بين الساحل وداخل الجزيرة العربية. كما كان بعضهم يعمل في الزراعة في السهول الساحلية الخصبة أو منحدرات الجبال أو الأودية ذات المياه والأمطار الغزيرة.
وقد نشأت نتيجة لذلك مدن ومراكز تجارية هامة على طول هذه السواحل، وخاصة على سواحل اليمن السعيد والخليج العربي والبحر الأحمر. أما داخل الجزيرة العربية الواسع والمترامي الأطراف، حيث يقيم سكانه على شكل قبائل وعشائر بدوية متنقلة، فإن حظ الحضارة كان قليلاً بينهم، وذلك بسبب ابتعادهم عن مراكز الحضارة على سواحل الجزيرة العربية أو عن مراكز الحضارة في بلاد الشام والعراق، طبعاً يستثنى سكان المدن الداخلية كيثرب (المدينة المنورة) ومكة والطائف وغيرها.
ومن الطبيعي جداً، أن تكون معرفة سكان الداخل بالبحر قليلة أو سطحية أو حتى معدومة، بل أن الكثرة الكثيرة منهم لم تر البحر أبداً، ما عدا التجار الذين كانوا يسافرون ما بين الداخل وبين المراكز التجارية على سواحل الجزيرة العربية، أو ما بين الشام واليمن (رحلة الشتاء والصيف).
وقد يزيد عجبنا إذا عرفنا أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم ير البحر في حياته أبداً. لذلك عندما أنزل القرآن الكريم عليه كان للبحر ذكر هام فيه، وتعريف مفصل لمزاياه ومنافعه وثرواته ودوره في الحياة، كما عرض لمخاطره وأهواله وعواصفه من جانب آخر.
البحر ذلك السر العظيم
البحر بالنسبة للإنسان عالم ثان، يثير في نفسه المشاعر والأحاسيس المختلفة، فهو يثير في نفسه الخوف والرهبة والاضطراب والقلق، كما يبعث من ناحية أخرى على الارتياح والاطمئنان والسلام. ورغم جبروت البحر وهياجه أحياناً، فهو هادئ مسالم مريح أحياناً أخرى. والعجيب أن النفس البشرية تعشق النظر إلى البحر في جميع أحواله، وهذا يذكرنا بقول لطبيب عالم :{ثلاثة تريح النفس، النظر إلى الكعبة المشرفة والنظر إلى الطبيعة والنظر إلى البحر}.
والبحر، بالنسبة للإنسان أيضاً، مخزن للأسرار، فهو يبعث على الحيرة والتساؤل دائماً، ويثير فيه الفضول لمعرفة ما يحويه من عجائب وكنوز وثروات دفينة ومخلوقات عجيبة. وكم من أناس غامروا من أجل ذلك، وأبحروا في مجاهل البحار، فمنهم مـن غـرق ومات، ومنهم من ضـاع في متاهاته، ولم يُعرف مصيره، ومنهم من عاد سالماً ليقصّ على الناس ما مرّ به من أخطار، وما رآه من عجائب في رحلته، منها ما هو حقيقي ومنها ما هو خيال.
إن الإنسان ليقف مبهوراً حائراً، معترفاً بضعفه وعجزه أمام عظمة البحر وجبروته، لاسيما وأن البحر هو من آيات الخالق المبدع العظمى، ففي خضم هذا الملكوت البحري العظيم، تجد هذا الإنسان المغتر بقوته، وبسعة حيلته، وحدة ذكائه، وتدفق أفكاره، تجده يستحيل هو وأمثاله إلى ذرة من الهباء لا تكاد تذكر. وللنظر إلى قوله تعالى عن سفينة نوح {وهي تجري بهم في موج كالجبال} "الآية 42-هود" لنلمس بعضاً من ملامح الصورة المهولة والعظيمة التي يستحيل إليها الإنسان هو ووسائله في خضم ذلك الملكوت الهائل". وفي ذلك يقول الشاعر:
ما له في عظم الشأن قرين كل جبار يدانيه مهين
لقد أعطى القرآن الكريم صورة البحر الحقيقية للناس، خاصة أولئك الذين لم يعرفوا البحر ولم يروه. فأظهر لهم الوجه المظلم والمكفهر والعاصف للبحر، كما أظهر لهم الوجه الهادئ والمسالم والمريح له.
أسماء البحر في القرآن
هناك أسماء مباشرة للبحر، في القرآن الكريم، مثل كلمة (بحر) و( يم) والتي اعتاد الناس عليها. وهناك أسماء غير مباشرة، أو ذات صلة بالبحر، أو دالة ومؤشرة عليه، وسنذكرها بالترتيب، مع العلم أن بعض الأسماء يختلف معناها من موقع لآخر حسب الآية وموقعها والمناسبة التي أنزلت فيها. فقد أطلق العرب كلمة بحر على كل مجمع مائي كبير وواسع كالمحيطات والبحار والأنهار والبحيرات، وقد ثبّت القرآن الكريم هذه التسمية على كل من البحر والنهر في قوله تعالى:
{وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً} "الآية 53 الفرقان": لقد أجرى الله البحار والأنهار في مجاريها ومساربها بعيدة عن بعضها، ولكنها غالباً ما تلتقي معاً عند مصبات الأنهار في البحار. ورغم أن الأنهار العذبة تصب في البحر المالح باستمرار، فالبحر لا تتغير ملوحته، وهو في الوقت نفسه لا يمتلئ أبداً، وهذا من آيات الله ومعجزاته العظيمة.
وكلمة (يم) أيضاً تطلق على كل من البحر والنهر، وهذا ما نجده في القرآن الكريم أيضاً، حيث يطلق اسم (يم) على نهر النيل في قوله تعالى:
{ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني} الآية 7 القصص. كما أطلق كلمة (يم) على البحر بقوله تعالى عند غرق فرعون وجنوده {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم} الآية 40 القصص. وهناك كلمة (ماء) تدل على البحر في قوله تعالى عند حدوث الطوفان في عهد نوح {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} الآية 11 الحاقة. وتوجد في القرآن الكريم أيضاً كلمات ذات صلة بالبحر مباشرة، وتدل عليه بمجرد ذكرها مثل كلمة (سفينة) في قوله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} الآية 79 الكهف. وكذلك مرادفات كلمة (سفينة) مثل كلمة (فلك) في قوله تعالى مخاطباً نوح:
{واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} الآية 37 هود، ومثل كلمة (جارية) وجمعها (جوار) و(جاريات) في قوله تعالى: { إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} الآية 11 الحاقة. وقوله : { ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام} الآية 32 الشورى وقوله {فالجاريات يسرا} الآية 3 الحاقة. وهناك تعبير لغوي يدل على السفينة هو: (ذات ألواح ودسر) في قوله تعالى عن النبي نوح : {وحملناه على ذات ألواح ودسر} الآية 13 القمر. كما توجد في القرآن الكريم كلمات ذات دلالة خاصة تدل على البحر أو الطوفان أو الغرق مثل كلمة (تنور) في قوله تعالى عند بدء الطوفان في زمن النبي نوح: {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} الآية 40 هود. ومن الأسماء ذات الصلة بالبحر الأسماك والحيتان، وخاصة حوت النبي يونس، حيث يقول الله تعالى عنه: { فالتقمه الحوت وهو مليم} الآية 142 الصافات، وكذلك حوت النبي موسى الذي جاء ذكره في سورة الكهف الآية 63: { قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا}، وكذلك أسماك بني إسرائيل التي يطلق عليها اسم حيتان أيضاً، في قوله تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم} الآية 163 الأعراف. وهناك اسم آخر للحوت هو (النون)، ومن هنا جاء لقب النبي يونس (ذو النون) أي صاحب الحوت في قوله تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضباً} الآية 87 الأنبياء.
وهناك كلمة (سبت) التي لها إشارة للبحر والتي تشير إلى بني إسرائيل وصيدهم للأسماك يوم السبت، كما مر معنا في آية سابقة، وقوله تعالى: {وقلنا لهم لا تعدوا في السبت} الآية 154 النساء. وكلمة (يغوصون) في الآية 82 من سورة الأنبياء: {ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك}. أي يغوصون في البحر لاستخراج نفائسه من أجل النبي سليمان.
البحر ومنافعه
أوجد الله سبحانه وتعالى الأرض وما عليها من يابسة وبحار وأنهار وجبال ونباتات وحيوانات وثروات ظاهرة وباطنة وأشياء كثيرة لا تعد ولا تحصى، أوجدها وسخّرها لخدمة بني آدم الذي هو خليفة الله في الأرض «ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر» الآية 70 الإسراء. ومن هذه النعم الكثيرة، التي أنعم الله بها على بني آدم نعمة البحر، والتي هي من أعظم نعم الله على الإنسان {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} الآية 12 الجاثية، والبحر هو مطية الإنسان يركبه بسفنه ومراكبه حيث يشاء، فيه يجد السهولة واليسر في السفر، ويختصر به الطرق الطويلة، ويحمل عليه أحماله وأثقاله، ويلقى فيه المتعة والراحة وجلاء النظر. وقد جعل الله مخلوقات البحر طعاماً حلالاً لبني آدم «أُحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة» الآية: (96) المائدة.
والله رحيم بعباده فهو معهم أينما كانوا، يدلهم ويهديهم، وينـزل عليهم الغيث والرحمة «أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته» الآية 63. النمل. ومن رحمته تعالى بالعباد أن جعل لهم النجوم ليهتدوا بها في البر والبحر «هو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر« الآية 97 الأنعام. ويجمل الله سبحانه وتعالى نعمه على الإنسان في الآية التالية قائلاً: «وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون» الآية 14 النحل. وفي قوله: «لتبتغوا من فضله» إشارة واضحة للمنافع الكثيرة في البحر، غير التي ذكرها أولاً. وهذه المنافع لم تكن معروفة للناس وقت نزول القرآن، وإنما عرفها الناس فيما بعد. فالبحر مصدر الغيوم والأمطار، والبحر ملطف للبيئة صيفاً وشتاءً، والبحر مكان للاستشفاء بمائه ورمله واستنشاق هوائه، والبحر مصدر للغذاء الرئيسي والنافع للناس، منه يستخرج الدواء النافع من طحالبه وإشنياته ومخلوقاته، ومنه الإسفنج والعنبر واللؤلؤ والمرجان، ومنه يستخرج الآن البترول وربما سيعرف الإنسان في المستقبل أشياء جديدة عن البحر ويستخرج منه المعادن المتنوعة والأحجار الثمينة المختلفة وأشياء أخرى جديدة «ويعلم ما في البر والبحر» الآية 59 الأنعام.
البحر وسيلة للعقاب
مثلما جعل الله الزلازل والبراكين والرياح العاتية والصواعق والخسف والمسخ وسيلة عقاب للأقوام الكافرة السابقة، التي كفرت بالله وآذت أنبياءه، كقوم عاد وثمود ولوط وشعيب.. وغيرهم، كذلك جعل الله البحر وسيلة عقاب مماثلة بقوله تعالى: «فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون» الآية 40 العنكبوت. وقد بدأ العقاب بالغرق من قوم نوح، الذين تمادوا بالكفر والغي والضلال رغم تحذيرات نبيهم نوح المتواصلة لهم، والذي لبث في دعوته معهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولكنهم..«فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا» الآية 73 يونس. حتى ابن نوح، الذي أبى أن يكون مع والده، وآثر أن يكون مع الكافرين، كان مصيره الغرق أيضاً: «وحال بينهما الموج فكان من المغرقين» الآية 43 هود.
أما فرعون، فكلنا يعرف قصته مع النبي موسى، وكيف تجبّر وطغى واستبد بقوم موسى وأنكر دعوة النبي موسى لعبادة الله الواحد، بل ادّعى الألوهية لنفسه وسانده بذلك قادة جيشه وعلية القوم وأغنياؤهم، فكان عاقبته الغرق مع كل من سانده من قادته وجنوده: «كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين» الآية 54 الأنفال. وعرف فرعون وتأكد وهو يعاني الغرق والهلاك من صدق دعوة النبي موسى، وأن موسى كان على حق وهدى في حين كان هو على ضلال وجهالة، أو إنه كان يعرف صدق دعوة موسى، ولكنه كابر واستكبر وأخذته العزة بالإثم: «حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت إنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل» الآية 90 يونس.
وهكذا يُري الله الناس إنه بالمرصاد لكل كافر متكبر ينكر آيات الله الخالق ويكذب بها، وأن الإنسان مهما كان قوياً متجبراً، ومهما كان يملك من سطوة وسلطان فهو ضعيف وعاجز أمام جبروت الله: «قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر..» الآية 13 الأنعام.
أهوال البحر وأخطاره
مثلما يكون البحر، أحياناً، ساكناً وادعاً، مريحاً للنفس والنظر، ومصدراً للرزق والكسب، وطريقاً آمناً للسفر والنقل والسياحة، ومنبعاً للخيرات والمنافع، فإنه يكون أحياناً، هائجاً ثائراً متلاطم الأمواج، ويصير مصدراً للخطر والهلاك والغرق، وفيه من الأهوال والعواصف والأنواء ما تشيب له الرؤوس، وترتعد له الفرائص، وتبلغ به القلوب الحناجر. ذلك أن قدرة الله وعظمته وجبروته تتجلى للعباد دائماً في غضبة البحر وهياجه واضطرابه، وبتغير أحواله من حال إلى حال، وبظلماته الدامسة، وسحبه الكثيفة، وأمطاره الغزيرة، حتى إذا رأى الناس كل هذا عرفوا إنه لا ملجأ لهم ولا منقذ لهم إلا الله سبحانه وتعالى، فتراهم دائماً يلتجئون إليه بالدعاء والتضرع والاستغاثة وكثرة الصلاة: «حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين..» الآية22 يونس. ويقول سبحانه وتعالى في موضع آخر: «وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين..» الآية32 لقمان. وأي إنسان لا يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى وهو يرى الموج وقد علاه وغطاه كالسحاب أو كالجبال المظلمة؟! أليس في هذا الموقف العصيب يتذكر الإنسان ربه ويلجأ إليه ويستغيثه ويطلب منه الرحمة؟ ومصداقاً على هذا الوصف القرآني، ما كتبه العالم الأندلسي محمد بن أحمد بن جبير الكناني المتوفى عام(614) هجري في وصفه المؤثر لعاصفة تعرضت لها سفينته التي كان يسافر عليها، ويستعير بعض ألفاظه وكلماته من القرآن الكريم فيقول: «وجاءت الريح عاصفة فأخذت بنا جهة الشمال، وأصبحنا والهول يزيد، والبحر قد هاج هائجة، وماج مائجه، فرمى بموج كالجبال، يصدم المركب صدمات يتقلب لها على عظمه تقلب الغصن الرطيب، وكان كالسور علواً، فيرتفع له الموج ارتفاعاً يرمي في وسطه بشآبيب كالوابل المنسكب. فلما جنّ الليل اشتد تلاطمه، وصكت الآذان غماغمه، واستشرى عصوف الريح فحطت الشرع، واقتصر على الدلالين الصغار دون أنصاف الصواري، ووقع اليأس من الدنيا، وودعنا الحياة بسلام، وجاءنا الموج من كل مكان وظننا أنا قد أحيط بنا، فيا لها ليلة يشيب لها سود الذوائب، مذكورة في ليالي الشوائب، مقدمة في تعداد الحوادث والنوائب». أليس هذا الوصف من ابن جبير وكأنه مصداق للوصف القرآني؟
وللنظر إلى هذه الصورة الرائعة والدقيقة والواضحة والتي تشبه الصورة الفوتوغرافية في جلائها ووضوحها، التي صوّرها القرآن الكريم للبحر في حالة الهياج والاضطراب وقد اختلطت السماء بغيومها الكثيفة الشديدة السواد مع أمواج البحر المتعاقبة فوق بعضها بعضاً وإلى الظلام الدامس الناتج عن ظلمة البحر العميق وظلمة الأمواج التي تغطي بعضها بعضاً، وإلى ظلمة الغيوم السوداء في الأعلى والتي تحجب الضوء وتغطي الأمواج تحتها: «أو كظلمات في بحر لجيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها« الآية 40 النور. ألا تبعث فينا، هذه الصورة، الرهبة والخوف، وتجعل أطرافنا ترتجف، وقلوبنا تخفق بسرعة، وعقولنا تتجمد مشدوهة مصدومة، من هول هذا الموقف، وكأننا نرى ذلك يحدث أمامنا حقيقة؟ وللنظر أيضاً إلى قوله تعالى: «هي تجري بهم في موج كالجبال» الآية 42 هود أليس هذا ما نسميه في عصرنا الآن «تسونامي» المدمر والمهلك، الذي لا يقف في وجهه مانع أو حاجز مما يقدر عليه الإنسان؟ أليست هذه العواصف والحركات البحرية، كما يقول العلماء، نتيجة لزلازل واضطرابات بركانية شديدة الحرارة تؤثر في قشرة الأرض تحت البحر؟ أليست هي مصداقاً لقوله تعالى: «وإذا البحار سُجرت» الآية 6 التكوير. وكأن صهارة البركان تحت قشرة الأرض في البحر نار، والبحر يضطرم ويفور فوقها؟ إنها عظمة الله تتجلى لخلقه في البحر، لعلهم يتعظون ويرجعون إلى الله سبحانه وتعالى.
عظمة البحر واتساعه
إنه البحر الواسع والعميق، والذي لا يمكن أن يحيط به العقل البشري، ولعظمته واتساعه بالنسبة للإنسان، ضرب الله مثلاً به عن قصوره عن الإحاطة بكلمات الله، لو إنه كان حبراً، بقوله تعالى: «قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً» الآية109 الكهف. بل ويقول تأكيداً لذلك، من موضع آخر، متحدياً البشر، ودالاً على قدرته وعظمته: «ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله» الآية 27 لقمان. وهو، أي البحر، من كبر الحجم وضخامته لو أنه انفلق في بحر صغير كالبحر الأحمر، وليس كالمحيطات، لكان كل فرق فيه كالجبل العظيم وذلك في قوله تعالى: «فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم» الآية 63 الشعراء.
هذا هو البحر، عالم مستقل بذاته، عالم مليء بمخلوقات كثيرة وعجيبة لا تحصى ولا تعد منها ما يعرفه الإنسان، ومنها ما لم يعرفه بعد، وربما سيعرف أشياء وأشياء عن أسراره المجهولة وعن ثرواته وكنوزه الدفينة في المستقبل.
المصدر : الباحثون العدد 67 كانون الثاني 2013