ترجمة وإعداد الدكتورة ماري شهرستان
غابت الحرب عن أوروبا, لكننا نجدها حاضرة في كل مكان في يومنا هذا من عام 2012. غائبة, لأن الدول الغربية لم تعد تعيش في أفق الحرب كما كانت الحال خلال النصف الأول من القرن العشرين, كما خلال القسم الأعظم من القرون السابقة. ويبدو أن السلام قد انتصر بشكل مستدام لدرجة لم يعد باستطاعة الأوروبيين أن يتخيلوا مجتمعاً بحالة حرب لا كيف يكون ولا ماذا يشبه. غير أنَّ الحرب هي كلية الوجود لأنها تلازم الأرواح من جديد وتقلقها. استقرَّ مناخ محب للحرب على الساحة الدولية لمصلحة هجمات 11 أيلول 2001, التي دفعت القوة الأولى في العالم, الولايات المتحدة الأمريكية, إلى تبني موقف ميال للحرب.
هل ينبغي علينا أن نتحدث عن عودة الحرب؟ الجواب صعب, لأن الحرب قد اتخذت ألف وجه عبر الزمان والمكان. إنها تلك "الحِرباء" التي وصفها كارل فون كلاوزيفيتس Karl von Clausewitz معتبراً أنه من الصعب تحديدها وتعريفها. وكي نعرفها بوضوح أكثر, ينبغي أن نقوم برحلة طويلة عبر التاريخ: من اليونان إلى السودان, ومن روما إلى الولايات المتحدة, ومن الساموراي إلى المغول.. تاريخ عالمي للحرب, يعود إلى أصول البشرية ونشوئها, وهو غير محصور في المنطقة الغربية, ولا يقتصر على دراسة الاستراتيجيات ولا على فنون الاحتراب. فالحرب ليست ظاهرة عسكرية فقط, بل أكثر من ذلك حيث تحصل عبرها كبرى التطورات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي تصنع التاريخ الإنساني, وتتيح لنا دراستُها فهماً أفضل لتطور المجتمعات.
الحرب هي جزء من تلك الظواهر التي رافقت البشرية منذ نشوئها. لقد صنعت ودمرت الإمبراطوريات وأغنت وأفقرت الممالك, وألهمت بناء وتدمير النظم القضائية والأخلاقية والدينية, وساهمت بتطور الفنون والتقنيات, للأفضل أحياناً, لكن في أغلب الأحيان إلى الأسوأ.
هناك بدون أدنى شك استحالة في البرهنة على أن الطبيعة البشرية شرسة بحد ذاتها وميالة للحرب, لكن من الصعوبة بمكان الإنكار بأن الحرب تشكل الحدث الأكبر في تاريخ المجتمعات. لا يوجد أي مجال من العمل الإنساني غريب عنها, وبذلك يمكن اعتبارها على أنها "حدث اجتماعي شامل". لقد تمت صياغة هذا التعبير من قبل مارسيل موس Marcel Mauss, لتعريف بعض الظواهر الاجتماعية في الحرب.
الحرب: حدث اجتماعي شامل
لم يجازف أي باحث اجتماعي معاصر حتى الوقت الراهن, بإجراء دراسة عن المجتمعات البشرية متخذاً الحرب كموضوع محوري لها. مع ذلك, إن كان بالإمكان تعريف الحرب بدقة كشكل منظم للعنف المسلح بين متحدين متواجهين, فهو يطال بشكل أوسع كل ميادين العمل الإنساني, من السياسة إلى الحقوق, مروراً بالاقتصاد, والثقافة والفن. بهذا المعنى يتناغم الجواب مع التعريف الذي أوجده موس M. Mauss الحرب هي "حدث اجتماعي شامل". يُنظر إلى الحرب في أغلب الأحيان على أنها ظاهرة عسكرية فقط ولها قوانين صعب تفكيكها وفهمها, بينما الحرب بشكل أعم وأوسع, هي أيضاً حدث اجتماعي وأنتروبولوجي ورهن الفكرة ذاتها التي نبنيها عن الرابط الاجتماعي وبشكل أوسع عن المغامرة البشرية.
وهذا يبيّن لنا كيف أن الصراعات المسلحة تُفسَّر دوماً بطريقة مزدوجة من قبل الشهود والمراقبين والبحاثة: فمن جهة, هي تدمير للمنظمة الإنسانية, وشكل من أشكال التراجع والتدني الإنساني, ومن جهة أخرى, هي دليل للحقيقة التي فيها تعبر الإنسانية عن نفسها, طبيعياً وبدون تكلف, وبكامل عريها. قد تكون الحرب ربما مسرحاً لأفظع الجرائم كما قد تكون تجلياً لألمع مظاهر ذكاء الإنسانية وسموها.
ما هو عمر الحرب ومن بدأ بها؟
كيف تم الانتقال بالإنسان من محاربة وحوش الغابة ومن الصيد الذي كان مصدراً من مصادر الغذاء, إلى محاربة أخيه في الإنسانية بشراسة تفوَّق بها على سائر المخلوقات؟ يؤكد الباحث والمنقب في علم الآثار لورنسكيليLawrence H. Keeley أن الحرب كانت من الثوابت في تاريخ البشرية, كما يؤكد وجودها في عصور ما قبل التاريخ وقام بمقارنتها مع الحروب البدائية التي رصدها الأنتروبولوجيون.
وتوصل العلماء والباحثون عبر العلوم الإحاثية اللغوية التي هي حصيلة تحقيق عبر مناهجي إلى التقاط جمل وتعابير (في القارة الإفريقية) تم قولها قبل 150000 عام عندما كانت اللغة لا تزال تنطق من مقطعين اثنين واستطاعوا ترجمتها مثل: "غورا أوغآس", أي:"غورا يحب الصيد". والأهم منها: "ساما نيفا باسابا بارا", أي: "قرية ماني أعلنت الحرب على قرية بارا البعيدة". من الواضح أن الحرب في قرية ماني قد أخذت شكلاً منظماً ورسمياً بحيث وصل التطور إلى مرحلة متقدمة يتم فيها الإعلان عنها.
بات واضحاً أن هناك حروباً أقدم منها قد زالت آثارها أو بانتظار تقدير تاريخها من العلماء. وهذا ما يقودنا إلى اعتبار أن الأمر يعود إلى النزعة الغريزية في الإنسان ذاته التي تجعله عدواً بعضه لبعض. وهل تطورَّت هذه النزعة مع مجموعات الإنسان العاقل واحتدت عبر تاريخه وصولاً إلى يومنا هذا ليجد المجتمع البشري نفسه منغرساً في منظومة جعلت من الحرب قانوناً طبيعياً لا يناقش وملازماً للمجتمعات بكل أشكالها رغم استنكار العالم بأجمعه لها؟
أبعاد الحرب
ينبغي تصوّر الحرب بالنظر إلى تعدد أبعادها
- البعد العسكري: الحرب هي عالم منفرد بحد ذاته, يُلزِم جنوداً, مهنيين تارة و"مدنيين بلباس عسكري" تارة أخرى. ولها زمن خاص بها يتميز عن الزمن الدبلوماسي, بالأفعال, وبإعلان الهدنة, وهي أمور تحدّ من انتشارها وتزِن وتعيّن الأحداث في سياقها.
- البعد السياسي: الحرب لا تعمل من أجل ذاتها, إنها أداة عسكرية يتم تحريكها في سبيل مقاصد تتعلق بالعمل السياسي: الاستيلاء على أراضٍ أو حمايتها, أو فرض عقيدة ما.. فهي بهذا الاتجاه تكون "استمرار للسياسة بوسائل أخرى" وذلك وفق مقولة لـ"كارل فون كلاوزيفيتس Karl von Clausewitz".
- ثم يأتي البعد الاقتصادي: قد تكون الحرب إحدى عواقب الأزمة على الصعيد الاقتصادي؛ لكن يوجد أيضاً اقتصاد حرب يمكن أن ينشِّط النمو اصطناعياً نوعاً ما. والقوة الاقتصادية لدولة ما ترتبط غالباً بقوتها العسكرية, كما كان الحال بالنسبة إلى روما القديمة, وانكلترا والولايات المتحدة الأمريكية.
- ينبغي إلا نهمل البعد الثقافي. لقد كانت الحرب موضوعاً للعديد من العروض الفنية, التصويرية منها والسينمائية, بدءاً من إحترابيي الرومان وصولاً إلى بيكاسو. لكن الحرب قد أثرت أيضاً على الممارسات الاجتماعية والثقافية, لدرجة دفعت ببعض المؤرخين إلى صياغة التعبير "ثقافة الحرب" من أجل التفكير بالتفاعل بين الحرب والمجتمع أثناء الحرب العالمية الأولى 1914- 1918.
- البعد القانوني. ساهمت الحرب بقوة في اختراع قانون نوعي, القانون الدولي, الذي يتم مواجهته تقليدياً مع القانون الداخلي للدول. تثير الظاهرة الحربية اليوم الكثير من الملاحظات القانونية على الحدود بين الشأن العسكري والشأن الإنساني, وبين العنف والإنجاد والمساعفة.
- الحرب هي بالنتيجة منظار ممتاز يمكننا من خلاله أن نفهم تطور المجتمعات, وأن نفهم الاستمرارية والانفصال, الانكسارات والتطلعات.
الدول المحاربة Les Étatscombattants
"الحرب تصنع الدولة والدولة تصنع الحرب", هكذا شرحها المؤرخ والباحث الاجتماعي الأمريكي شارل تيي Charles Tilly. ويقدم فيليب كونتامين Philippe Contamine البراهين على أن نشوء الدول في العالم الغربي مرتبط بشكل وثيق بالصراعات المسلحة التي كانت تهب على ساحته خلال الألفية القروسطية. وكلما فرضت الدولة نفسها كمؤسسة, تزول الجيوش الخاصة لمصلحة الجيش القومي النظامي, سواء أتت الخاصة من الأديرة أم من الإقطاعيين. وبرأي تيموثي مي Timothy May : في الإطار الإمبراطوري, طبَّق جنكيز خان في القرن الثالث عشر هذا المنطق بحده الأقصى, فهو قد جدَّد الفن الحربي بشكل كبير لدرجة اكتسح بها المغول الجزء الأكبر من العالم المعروف آنذاك ولا يزالون يشكلون مصدر إلهام فيما يخص الخطط الحربية – الاستراتيجية حتى يومنا هذا. البارود وهو اختراع صيني, بينما نجد السامراي معزولين في الأرخبيل الياباني, قد ساهموا في تطور مجتمعهم.
شهد عصر النهضة تصادم القوى الأوروبية, وكان ذلك لمصلحة الحروب الإيطالية. ومع ماكيافيل Machiavel, وغيشاردان Guichardin, تم فرض المفهوم الحديث للدولة, بقلب القوانين السياسية والعسكرية رأساً على عقب. وفي الوقت نفسه, قامت مجموعة من المغامرين الإسبان بالاستيلاء على الإمبراطوريات الماقبل كولومبية؛ وهو حدث يشرحه فرانسوا جندرون François Gendron, في الحالة المكسيكية, على إنه ثورة شعوب مسحوقة من قبل الآزتك. يصف دوني كروزه Denis Crouzet كيف أدت الحروب الدينية في فرنسا إلى تقوية وتدعيم السلطة الملكية, وهي حروب قامت على أساس الخوف من نهاية العالم! وسجلت حرب الثلاثين عاماً مرحلة جديدة برأي غيوم لاكونجاريا Guillaume Lasconjarias, عندما وثقت معاهدة فيستفاليا توازن القوى الأوروبية.. بينما كانت القوى الفائقة في تلك الفترة هي آسيوية. لكن الأوروبيين استمروا بالتقدم للاستيلاء على المزيد من الكرة الأرضية, حيث قاموا بنزاعات على شكل قرصنة بالسخرة, وذلك وفق رواية آلان بربوش Alain Berbouche قبل أن تتمزق خلال حروب الثورة والإمبراطورية, التي قلبت الإرث الفيستفالي, وفق تحليل باتريس غينيفي Patrice Gueniffey.
كان المنظِّر العسكري كارل فون كلاوزيفيتس Karl von Clausewitz يرى الحرب على أنها استمرار للسياسة بوسائل أخرى. إنها إنتاج لـ"ذكاء الدولة المجسَّد" ضمن عبقرية المخططين الحربيين أمثال نابليون ولاحقاً بسمارك.
زمن الصراعات اللامتناسقة Le temps des conflitsasymétriques
من أجل سبر العالم الجديد للنزاعات اللامتناسقة, لا يوجد دليل أفضل من جيرار شاليان Gérard Chaliand. اختصاصي بحروب العصابات والإرهابيين, فهو يدخلنا في أطياف الحرب "اللانظامية" مواجهاً المتمردين ضد الجيوش النظامية.
على هذا الكوكب المضطرب جراء نزاعات يعتبرها الرأي العام العالمي غير مقبولة, ارتفعت أصوات للإشارة إلى ضرورة التصرف حيث تنتهك حقوق الإنسان. وضع جان- باتيست جانجين فيلمر Jean-Baptiste JeangèneVilmer حولية لهذه الكثافة من التدخلات الخارجية بدوافع إنسانية بدءاً من كوسوفو.
رغم ذلك هل يمكن لنا أن نأمل في الغد عالماً خالياً من الحرب؟
لا, بدون أدنى شك, يأسف بيير هاسنرPierre Hassner, طالما أن الحرب تبقى معطى ثابتاً في التاريخ الإنساني. لكن هنا وهناك, قد تتخذ أوجهاً جديدة: جنود مرتزقة, وأعتدة وإنسان آلي ضد نصيرين ومحاربين متطوعين, ميليشيات وإرهابيين... كان كارل فون كلاوزفيتس Karl von Clausewitz على حق عندما قال بأن "الحرب هي حرباء". وتستمر ألوان الحرباء بالتبدل وتظل البشرية منقسمة حتماً, رغم كل الآمال التي تثيرها الإدارة العالمية.
خمس وعشرون قرناً من الفكر الاستراتيجي
التاريخ والاستراتيجية في الفكر الغربي هما شأنان مرتبطان بشكل وثيق. فغالبية مفكري الحرب هم مؤرخون أمثال توسيديد Thucydide, مؤلف تاريخ الحرب البيلوبونيز في القرن الخامس قبل الميلاد. ويبدو ذلك مفهوماً تماماً: استنتاج العبر من الماضي, وعلى الأخص من الهزائم, هو أفضل وسيلة لربح الحروب الراهنة.
عبرة القدماء
في القرن الرابع قبل الميلاد, كتب كزينوفون Xénophon وإينه التاسيتي Énée le Tacticien, المؤلفات العسكرية الأولى المتخصصة, "مصنفات المناورات الحربية". وفيه تم تجميع الأعمال الباهرة لـ"القادة العسكريين الكبار" في الماضي كي يستمر ذكرهم بالكتابة الموثقة. وبذلك انتقلت مصنفات المناورات الحربية من جيل إلى جيل وتم إغناؤها, على غرار وصفات الطعام. وتشكل معاهدة فيجيز Végèce العسكرية, وهي وجه هام في الحياة الرومانية خلال نهاية الإمبراطورية, خلاصة لهذا التراكم من المعارف. وكانت في العصور الوسطى أكثر المعاهدات قراءة ثم أتت النهضة التي هي فترة اكتشاف الماضي.
الثورة الحديثة La révolutionmoderne
من بين مفكري النهضة من الذين قاموا بجمع المعرفة القديمة مع الحديثة, ماكيافيل Machiavel الذي يشكل الرمز لهذه المجموعة. يظهر إنتاجه احتراماً لعظمة الماضي (الروماني على الأخص) وتحريضاً على الثورة الحديثة التي أخذت كل شيء في طريقها.
لم تكن هذه الثورة سياسية فقط لبزوغ الدولة والجيوش القومية الكبيرة, بل كانت علمية أيضاً: حيث كانت إعادة نشوء الاستراتيجية لكن كعلم يختص بالحرب. في القرن الثامن عشر, قام العديد من المفكرين الذين تغذوا من فلسفة الأنوار, أمثال جولي دو ميزيروي Joly de Mayzeroy في فرنسا أو هاينريش فون بولو Heinrich von Bülow في المانيا, بتوسيع الطموح الموسوعي ليشمل ميدان الحرب، وأكدوا بأن المعرفة العسكرية يمكن أن تستند إلى قوانين عامة وبالتالي أن تصبح علمية بشكل رسمي وشرعي. ذهب هؤلاء المفكرون في طي النسيان, لكنهم حرّضوا كارل فون كلاوزفيتس Karl von Clausewitz الذي ذهب بعيداً بفكرة وضع نظرية للحرب مع إزالة مآزق العلموية scientisme في المادة العسكرية. بالنسبة إليه, الحرب تبقى فناً لا يدين بشيء إلى التبحّر ولا إلى المعرفة العلمية.
الاحترابيون الخبيرون بالخطط الحربية – الاستراتيجية, وعلماء الخطط الحربية
يمكن للحرب أن تكون أيضاً موضوعاً علمياً بالنسبة إلى البحاثة الذين لا يكون هدفهم الوصول إلى النصر بل مقاربة الحقيقة. ففي القرن العشرين, أجرى لوسيان بوارييه Lucien Poirier, وهو اختصاصي بالاستراتيجيات النووية, تميزاً أساسياً بين خبير بالخطط الحربية - الاستراتيجية وبين عالم بالخطط الاستراتيجية. الخبير يفكر بالحرب ليربحها, والعالم غايته فهمها. الأول هدفه عملي, والثاني يرضي طموحه العلمي. الحدود بين الاثنين نفوذة: ينبغي على منظِّر الاستراتيجيات أن يأخذ بعين الاعتبار ضغوط العمل كي يتمكن من إنتاج نظرياته, أما الخبير بالخطط الحربية فيسرع إلى قراءة إنتاج المنظر كي يستنير ويحسن اختياره.
في قلب المؤسسات العسكرية, يأخذ الفكر الاستراتيجي شكل "الكتب البيضاء" التي تحدد "مبادئ استخدام القوى". الفكر هنا يتجه بالكامل نحو تفعيل "استراتيجية دفاع وأمن قومي". وبشكل متوازٍ, في العالم الأكاديمي, نجد أن الدراسات الحربية آخذة بالتطور, بطريقة شبيهة بدراسة الجندر أو الدراسات الثقافية التي تفضل مقاربة موضوع لا مقاربة نهج. الفكرة هي في جمع المعارف حول الحرب بغية التوصل إلى معقولية ووضوح للظاهرة.
في إنكلترا, الـكينغ كوليدج في جامعة لندن أنشأ فرعاً للدراسات الحربية بإدارة لورنس فريدمان Lawrence Freedman, الذي جمع فلاسفة وعلماء اجتماع ومؤرخين وانتروبولوجيين.
تجدد الدراسات حول الحرب
تشكل إنكلترا وعلى الأخص الولايات المتحدة الأمريكية منارات الفكر الاستراتيجي في العالم المعاصر. طوَّر ميخائيل هوارد Michael Howard, أستاذ في جامعة كامريدج, منذ عام 1960 مقاربة تاريخية للفكر الاستراتيجي.
التاريخ الثقافي للحرب
علم الحرب اجتماعياً La polémologie
بعد عام 1945, أسَّس غاستون بوتول Gaston Bouthoul "علم الحرب" بصفته ظاهرة اجتماعية, مستنداً إلى نتائج علم الاجتماع وعلم الإحصاء البشري (الديمغرافيا) لتطوير "علم حربي" حقيقي. كان مقصد بوتول أخلاقياً وعلمياً في آن معاً: بالنسبة إليه, معرفة الحرب علمياً هي طريقة لمعالجة البشرية المريضة بها بغية شفائها. فيتلاقى هنا مع دراسات السلام المنغرسة بقوة في أوروبا الشمالية وتتجسد بـيوهان غالتونغ Johan Galtung, مؤسس علم السلام الدائم l’irénologie.
وبعكس هذا الميل إلى السلام الذي نشأ على أثر حروب القرن العشرين, كتب الباحث الجغرافي إيف لاكوست Yves Lacoste عام 1976 بحثاً شهيراً, يقول فيه إن الجغرافيا تفيد أولاً في المحاربة, ثم أنشأ مجلة هيرودوت Hérodote, مساهماً بذلك بتجدد جغرافيا – سياسية حرجة جداً. يجمع هذا العلم بين الجغرافيا والاستراتيجيا, وقد تم نبذه لفترة من الزمن لأنه اتفق مع الاحتراب والروح الحربية والعقائد الشمولية.
الفكر الاستراتيجي في تحول
وأخيراً, اليوم في عصر الحروب اللامتناسقة والإرهاب الدولي, تتحول شعلة الفكر الاستراتيجي: كان لزاماً بتداع حروب لا تشبه النزاعات التي جرت في القرن العشرين بين الدول وأن تتلاءم ضمن سياق العولمة. بيّن التاريخ إنه في فترة الأزمات والاضطرابات السياسية يتطور الفكر الاستراتيجي. وبالنظر للتجدد الحالي للاستراتيجيا, لا يبدو القرن الواحد والعشرون استثناءً للقاعدة.
هل نحن باتجاه نهاية العالم؟ Versl'Apocalypse
حرب الخنادق ومدرعات وبوارج, سلاح المدفعية ذو عيار كبير وخسائر كبيرة, اتصالات بعيدة المدى وفنون عسكرية ولوجستية تستعين بسكك القطار, وتحريك المدنيين وتأثير الصحافة.. بالنسبة إلى دونالد ستوكر Donald Stoker إن حرب الانفصال التي استمرت من عام 1861 إلى عام 1865 بين شمال الولايات المتحدة وجنوبها حول مسألة الرق, جسدت مقدماً نزاعات القرن العشرين ببعض السمات, والتي تسمى أحياناً بـ"الحروب الشاملة". وفي الفترة نفسها, سيطرت الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية على الجزء الأعظم من اليابسة. استنتج جاك فريمو Jacques Frémeaux, بعد أن عرض كيف استولت فرنسا على جزء من إفريقيا, بأن الصفقة كانت غير مجدية في المحصلة.
حصل بعد ذلك "انتحار أوروبا" في الحرب العالمية الأولى
في حرب 1914- 1918 بيّنَ فرانسوا كوشه François Cochet أن فرنسا مقسمة بين الجنود الذين يحاربون على مختلف الجبهات وبين المدنيين الذين شكلوا خلفية الجيش, لأنهم ساهموا في العمليات إذ كان واضحاً أن هذه الحرب قد تنتصر في المعامل. جوهان شابوتو. Johann Chapoutot ذكر لاحقاً أن الحرب العالمية الثانية التي هي امتداد للأولى, حصلت بمواجهة عقائدية. إن مشروع هتلر في خلق عالم جديد يسيطر عليه الألمان وحلفاؤهم, قد فشل في مواجهة تصميم أعدائه البريطانيين والأمريكان.. وعلى الأخص الروس, لكن بخسائر هائلة تفوق التصوّر. في الجانب الآخر من أوروبا الآسيوية, هناك قوة أخرى كبيرة غير ديمقراطية, وهي اليابان, جهدت لاقتطاع إمبراطورية استعمارية في الصين وفي جنوب شرق آسيا فسقطت أمام مدحلة الصناعة الحربية الأمريكية, التي صار يرمز إليها بالغارات الذرية على ناغازاكي وهيروشيما.
الحرب الباردة التي تلت ذلك بين الرابحين الكبيرين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية, رسمت السياسة العالمية, وذلك وفق جورج – هنري سوتو Georges-Henri Soutou. بالإضافة إلى النزاعات الخارجية (كوريا, فييتنام مثلاً), كل ذلك أضرَّ بشكل عميق عالماً تحوم حوله تهديدات الفناء النووي. وفي عام 1990 زال هذا العالم الثنائي القطب, وتصدعت الكتلة السوفييتية, وسقط جدار برلين.. ونهاية العالم لم تحصل, لكن الحروب أحدثت أضراراً على الأجساد والنفوس من الصعب محوها.
حصلت أوروبا عام 2012 على جائزة نوبل للسلام!؟ لأنها لم تعد تحارب بعضها بعضاً؟ لكنها تشارك في حروب خارجية, فما الفرق؟ الحرب هي الحرب سواء أكانت داخلية أم خارجية. فبعد الحروب المسماة حروب التحرير, في الهند الصينية عام 1945, في كوريا 1950, في مدغسكر 1947, وفي الجزائر 1954, والسويس 1956, أنغولا 1961, موزنبيك 1964... لم يمر عام واحد إلا ويتم فيه فتح جبهة جديدة لحرب خارجية تكون بالضرورة دولة أوروبية أو أخرى منخرطة فيها.
المصدر : الباحثون العدد 69 أذار 2013