من الطبيعي أن يكون أيُّ مجتمع متكوناً من الأسرة؛ الخلية الأولى له، وبالتكاثر والانقسام تغدو كبيرة، وحينما تعود لتجتمع مع بعضها بعد أن تزاوجت وتوالدت وتداخلت مع أسر متنوعة تكوِّن مجتمعات أهلية، وحينما يُسأل المرء منهم: أين كنت؟ تراه يقول عند أهلي، وفي حال ذهابه إليهم، إلى أين: إلى عند أهلي..
فالمجتمع في حقيقته البنائية يبدأ من الأهل، بعد أن يصبحوا أهلاً، وتواصلُ الأهل مع الأهل يؤدي إلى تشكيل مجتمعٍ أهليٍّ مؤلفٍ من كبير العائلة الواحدة، أو الأكثر فهماً أو علماً، وتكون له الاستجابة حين الطلب على أهله أي (الموانة) وخير مثال نمرّ عليه ( كبير الحي أو العكيد) الذي كان يقوم بأدوار الجمع، وتوزيع الخير على المحتاجين، وكانت علاقته مع السلطة الرئاسية قوية، لدرجة أنه يذهب في المناسبات ويطلب حلولاً لمشاكل الناس/ مجموع الأهالي في الحي الواحد، حيث يجتمع الكبار، ويقوِّمون ما يجري في مدينتهم أو بلداتهم، مستعينين بالمخاتير ورجال الدين، فيحلّون الخلافات العائلية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية، وقد وصل الأمر بهم إلى إنشاء محاكم أهلية، فمثلاً: محكمة الموتى في زقاق المحكمة ضمن منطقة الحريقة؛ والتي يؤتى بالميّت إليها ولا يدفن حتى تُبرّأ ذمته، وكذلك كانت هناك محكمة للكلاب خلف القصر العدلي حالياً؛ التي تحاكم صاحب الكلب على أذيّة كلبه للآخرين، كما كان في كلِّ حيٍّ جرنٌ كبير، يقوم أهل الخير بوضع بعضٍ من منتجاتهم فيه، ليمرّ المحتاجون ويأخذوا حاجتهم منه فقط، مثلما كان في جرن (الشاويش) في الصالحية، وكذلك كانت الصالونات الأدبية والثقافية النسائية وجلسات السمر والطرب منها: صالون مريانا مراش. مي زيادة. نازلي فاضل. لبيبة هاشم .هدى شعراوي. ماري عجمي. فضيلة فتال. ابتسام صمادي. وجورجيت عطية.. وحتى المقاهي كمقهى: الهافانا ومقهى الرشيد ومقهى الروضة؛ كانت منابر جميلة تحضّ على وحدة سورية ونصرة مجتمعها.. من خلال التقاء المجموع المكون للمجتمع من مفكرين ومثقفين ورجالات الفهم العام، أجل كانت مراكز إشعاع فكري وثقافي وعلمي؛ تأسست من على طاولاتها أحزاب، ومن اجتماعاتها حكومات وقوى سياسية واقتصادية واجتماعية، ودور العبادة أيضاً حملت همّ الوعي في التكافل الاجتماعي والتعاون والتعاضد..
المخاتير والأعيان
فأين نحن الآن من ذلك المجتمع الأهلي؟!!، وعلى الرغم من وجود بعضِ صوَر ذلك المجتمع التي تظهر حالياً ضمن التنظيم الأهلي المدني؛ إلّا أن تلك الأفكار لم تستطع وصل الماضي بالحاضر، فلقد غدا هذا الوصل والتواصل غائباً كلياً، إذ لم يعد هناك حضور للمخاتير أو الشخصيات العلمية إلا فيما ندر، بل اقتصر دورهم على المعاملات الخدمية والاجتماعات، ضمن لجان الأحياء، ولجان الأبنية، ولجان البلديات ومجالس المحافظات.
المجتمع الأهلي هدفه الأول والأخير الحفاظ على السلم الأهلي، فما الذي حصل مع مجتمعنا حتى صرنا على ما نحن عليه؟ ورغم انتشار التعليم وتوفير الكثير من عناصر الإسهام الثقافي؛ الذي ومن المفترض أن يرفع مستوى الوعي ويطور الذائقة الجمالية، ويسهم في ارتقاء الفرد والأسرة والمجتمع.. غير أننا نرى تراجعاً مخيفاً في العلاقات الاجتماعية، فلم يعد الجار يعرف جاره، ولا أبناء الحي على تواصل، فقد حلّت الفرقة بين الأسر محل التوادد والتراحم، وأكثر من ذلك بدت واضحة في الأسرة الواحدة، حيث لم يعد باستطاعة أحد أن (يمون على أحد) لنجد أن مجتمعنا يعود إلى مفاهيم جاهلية، تسودها لغة العصور الوسطى الشوفينية والعنصرية والعشائرية والعصبية الدينية، وغدا شعار الأهل والمجتمع "ربي أسألك نفسي" وأنا ومن بعدي الطوفان" و"إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب"... ووجدنا أنفسنا غارقين في بحار من الظلمات، نبحث عن ضوء للخروج منها، ومن الأنفاق التي وضعنا أنفسنا ومجتمعنا وبلدنا فيها.
طبعاً، نعلم أن المجتمع الأهلي معرفي يعتمد لغة الفهم للواقع، ويختلف عن المجتمع المدني، فلا مجتمع مدنياً بدون تأسيس المجتمع الأهلي؛ الذي يغيِّر الأسَّ الرئيس في بناء أيِّ مجتمع: تقني. علمي. إيماني. منتج. مبدع. منسجم، أي: مجتمع حضاري قادر على الحفاظ على حضارته، وفي ذات الوقت هو مجتمع مطوِّرٌ لها ومضيفٌ إليها.. فما المعنى لوجود فلسفة: مجتمع أهلي؛ إن لم يكن له دور إيجابي، في بناء مجتمعه وتعزيز روابطه؟! أما المجتمع المدني فهو مجتمع تقني، وصورة متطورة للعقد الاجتماعي، يصهر في بوتقته جميع الانتماءات العقائدية الدينية، وخلافاتها المذهبية والطائفية، وكذلك لغة الأيدلوجيات المتشنجة، محولاً إياها إلى أفعال إنتاجية.. أين نحن من هذا أو ذاك؟
على من تقع المسؤولية؟!
لقد أضعنا مجتمعنا الأهلي، وفقدنا نواصي المجتمع المدني، وما أفرزته الأزمة التي نمرّ بها، بل اكتشفنا أننا جميعنا أسهم بالوصول إلى ما نحن فيه، على الرغم من وجود الجمعيات الأهلية: ومنها جمعية أصدقاء دمشق، وجمعية العاديات، وجمعيات حماية المستهلك، ومنظمات شعبية، واتحادات للعمال والفلاحين والنساء، وكل ذلك أساسه المجتمع الأهلي الذي تفرّق، ولم يعد لكل ذلك وجود؛ إلا على الورق وبعض الصور في الإعلام..علاوة على أننا نرى الفردية تتفوق بوضوح على صورة الجماعة.
بعيداً عن المحن والانزلاق
إذاً، المجتمع الأهلي لا يطلق عليه هذا الاسم، إلا إذا امتلك نواصي أخلاقية، تُظهر حقيقة ثقافته الإنسانية الاجتماعية: في التكافل والتعاون والبناء والوحدة، وينصهر كل ذلك في بوتقة نهضته الحضارية؛ التي تمنحه ديمومته ضمن دوراته الحياتية، وكذلك، إن لم يكن له حضور نوعي وإسهام في الانتقال بالمجتمع من الحميمية والفرقة العائلية والأسروية إلى الوحدة الإنسانية، إنني أعتبره تنظيماً أخلاقياً يمنع المجتمع من الانزلاق إلى المحن والأزمات، ومازال لدينا الوقت لمنع ذلك..
إن مسؤولية المجتمع الأهلي تكمن في بناء وإنماء ثقافة أمته، وتعزيز الارتباط بين جغرافيته، أي: لغتها. ثقافتها. حضارتها. تنوعها. والمؤسسات التي تدير هذا المجتمع، وحينما نمعن النظر في مجتمعنا نجد أنه عاش أزمات حضارية، اجتمعت جميعها في شخصيته، فلم يكن هكذا في أحلك ظروف الاستعمار!! فهل هي قادمة من عدم القدرة على استيعاب الحداثة والمدنية المتطورة، أم أنه تاه بين خصوصية ثقافته وأزمة شخصيته وهويته؟ فغدا كل ما يحكم حياتنا وأفكارنا ومشاعرنا عبارة عن قشور سطحية، وضعها وفرضها علينا مجتمعُنا مجتمِعاً فحدّد طريقة تفكيرنا وهمّش دور الأحكام المنطقية والعاقلة القادمة من الفكر الحر الذي انعدم تأثيره في حياتنا، لنكتشف أننا لم نتطور ولم نتحرر من جهلنا.
الإشكال الخطير الذي يعاني منه المجتمع الأهلي، وكما بدأتُ، هو تحوّله إلى الفردية، وحينما تتفرق المجتمعات تغدو هشة، وأفرادها أقرب إلى الخواء فيسهل تطعيمهم بأفكار ضارة تُفقد المجتمع، دوره كمجتمع، أي يسعى الفرد لمصالحه الشخصية لا للمصالح العامة، ومنها تتولد هوى كبيرة بين ما يُسمى "مجتمع" أي أفراده ومؤسساته المديرة أو التي تساعد على إدارته، لتتراكم الأخطاء، ومن ثم تتجه إلى ارتكاب الخطيئة الكبرى، ألا وهي: انهيار المجتمع ونشوء أزماته الاجتماعية والاقتصادية، ويغدو الإصلاح صعباً بعد تعميم فرديته.
المجتمع الأهلي الحقيقي، والذي يستحق هذا الاسم أو العنوان، هو الذي يُسهم في إعادة اللحمة الوطنية، وإسهامه يكون بالإصلاح الحقيقي، المرتبط بعملية التنمية الفكرية الثقافية أولاً، وثانياً بالتنمية الإنمائية في محاور الاقتصاد والسياسة والاجتماع؛ الذي يتقبل بل يؤمن بضرورة بناء مجتمع نتاج التعدد والتنوع الثقافي يكون هو أساسه.
وإذا كان المجتمع المدني مؤلفاً من مجموعة منظمات غير حكومية وغير ربحية، أي: تطوعية. أخلاقية. ثقافية. علمية. دينية. وسياسية؛ فإنه لن يقوم إلا إذا استند إلى فلسفة الجماعة، والجماعة مجتمع والمجتمع طبعاً أهليّ.
فالنتيجة توُصلنا إلى أن المجتمع الأهلي يؤسس لظهور المجتمع المدني، ويطور المجتمع السياسي المحكوم بالقانون تحت سلطة الدولة، فهذه السلطة تفقد هيبتها إن تدخلت مباشرة في حضور المجتمع الأهلي، وكذلك تفقد تشكيلات المجتمع الأهلي حضورَها؛ إن أخذت الطابع الرسمي وسُيِّرت من قبل سلطة الدولة، مما يفقد الناس ثقتهم بعملهم المجتمعي والأهلي.
بعد هذا الاستعراض، ما الذي نهدف إليه من عنواننا "مسؤولية المجتمع الأهلي في الأزمات" أليس هذا من أجل إعادة الناس إلى بعضهم، بعد إنماء شعور الارتباط الاجتماعي؛ الذي لا يحصل إلا من خلال الإسهام الفعال في تحسين ظروف الحياة، وتحفيزهم على تحقيق طموحاتهم البسيطة والمتوسطة، وكذلك تمكينهم من المعرفة؛ بتقديم مشاريع ثقافية ومناصرة لقضاياهم الحقة، وتوجيههم لأماكن رفع مهاراتهم الفردية المفيدة والمنتجة، وإكسابهم ثقتهم بأنفسهم مما يؤدي لظهور مجتمع متماسك يصعب اختراقه، ومشارك بفعالية في حماية أمْنِهِ وأمانِهِ.
ويبدأ كل ذلك في الحي أو المنطقة أو الدائرة، وصولاً إلى البلدة والمدينة، فهذه المسؤولية تقع على عاتق التجمعات غير الحكومية وغير المستفيدة من الحكومة، وتتمتع بلغة وطنية وأخلاقية، وأمانة موضوعية ومثقفة من الدرجة النوعية، تتحمل القدرة على الإسهام في تحليل مشكلة ما وطرح الحلول لها، وهذا يتطلب أشخاصاً موضوعيين من الجنسين، يمتلكون ثقة الآخرين بهم، والحجة على الإقناع، وكما من الضروري أيضاً أن يتمتعوا بالفهم والخبرة، وهؤلاء نُطلق عليهم الوجهاء أو رجالات الأحياء، حيث الشهامة والنخوة والموعظة الحسنة، يشاركون بشكل نوعي في صياغة الرؤى الأفضل لتطوير حيّهم أو منطقتهم، بالتشاركية مع أبناء الحي أو المنطقة، وكذلك مناصرة القضايا الوطنية، والتنبيه لمَواطن الخلل.
المجتمعات الأهلية المتنورة تحمل على كواهلها أعباءً جمة، من خلال اعتبارها كحضور أساس ورئيس في هيكلية أيِّ مجتمع يؤسس لدولة حضارية، وعدم نهوض الأهالي بدورهم الخلاق يؤدي إلى تفتيت المجتمع وانحداره وانزلاقه إلى متاهات الفرقة، والعودة إلى القبليّة والعشائرية والفوضى اللاّخلاقة.
أخيراً
إذا ما صرنا واحداً فسننتهي واحداً بعد الواحد، وإذا انتشر الجوع والفقر سنرى أن الجميع يتجهون إلى الإجرام، وما سقوطنا هذا إلاّ ليعلّمنا ويدلنا على آليات النهوض، وكيفية الصعود من جديد، لذلك الناس بحاجة دائمة لشخصيات مؤثرة ومثيرة وجذابة، لتخرجهم مما هم فيه من قلق وحيرة وارتباك، فالبلاد لا تعاني بشكل خاص من المطالب والخدمات، وإنما أَوْجُه المعاناة متأتية من أزمة ضمير، والفرق شاسع بين أمم تتغنى بمجد أجدادها، وأممٍ منشغلة بصناعة المجد لأبنائها وأحفادها.. ما أحوجنا للعودة إلى ثقافة اللقاء والحب والبناء وإنني لأشير أنه من الضروري امتلاك التفاؤل فمن لديه مريض يسعى لعلاجه وينظر إليه كمحب أنه يتحسن، كما علينا أن ننظر إلى بلدنا بعين التفاؤل والأمل مع العمل الصادق والجاد والحثيث من أجل الخلاص.
قالوا:
بدنا نموت كرمال الوطن ونسقيه بدمنا، ومن قال إن الوطن يحب أن يشرب الدم، ومن قال إن الوطن يريد موتاً؟؟ الوطن يريد أن نحيا لأجله، وبدلاً من أن نسقيه دماءنا؛ ينبغي علينا أن نسقيه من عرق جباهنا، حين نقوم ببنائه.. بلدنا يريدنا أن نلتقي بالحب ونلفظ كراهيتنا لبعضنا.
د.نبيل طعمة
المصدر : الباحثون العدد 70 نيسان 2013