وهدان وهدان
وسط تحذيرات متصاعدة من كارثة بيئية محتملة يمكن أن تحدث نتائج وبيلة على البشرية، انضمت مجلة Scientific Hroizons العلمية إلى فريق من العلماء الروس والأمريكيين والنرويجيين والكنديين والفرنسيين والبريطانيين على ظهر السفينة "آركتيك جنراير" التي توجهت منذ مطلع عام 2010 نحو القطب الشمالي في مهمة علمية تخصصية رفيعة المستوى.
وبينما كانت كسارة الجليد النرويجية الصنع تبحر في قلب المياه السيبيرية مؤخراً، كان الكابتن سورنسين يجلس في مقصورته على ارتفاع 50 قدماً فوق سطح السفينة يراوغ كرات الثلج، ويخطط طريقا آمناً عبر البحر الموحل.. فيما كانت الكتل الجليدية البيضاء تقترب، ودرجات الحرارة تصل إلى 20 تحت الصفر، والرياح الخانقة تهبّ عاصفة من القطب الشمالي مرسلة قطعاً ضخمة من الثلج تحدث فرقعات وهي تمر بالفتحات. وكل بضع دقائق، كانت قرقعة الثلج وتشققاته تميِّل السفينة الشديدة التماسك، والتي تزن ألف طن، على جنبها، قبل أن تدفعها بهدوء ثانية إلى المياه المفتوحة. وخلال ذلك، يبدو إنه من المعجزات تمكّن أي كائن حي من مواصلة العيش في مثل هذه البيئة الأشد قسوة وعدوانية.. لكن الثلج القطبي النقي، والصقيع والسهول الجرداء، والطبقة الجليدية السرمدية، تظل موئلاً للدببة والثعالب والذئاب القطبية والثدييات – مثل الفقمة – والحيتان والطيور المهاجرة.. وسواها من الحيوانات القطبية.. فيما تهاجر قطعان الحيتان عبر هذه المياه النقية، مستخدمة الموجات الصوتية للاتصال عبر الأميال الشاسعة.. كما أنها أرض خصبة لتكاثر الطيور المهاجرة، حيث أن 15 في المئة من أنواع طيور العالم تتزاوج شمال الدائرة القطبية.
وربما تبدو المياه الراكدة، والطوف الجليدي (الطبقة الرقيقة الضخمة من الجليد) ملاذاً طبيعياً، لكنها تخفي تحتها سراً.. فشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، يزداد دفء أبرد مكان فوق سطح الأرض، الأمر الذي يبعث الدفء في الحزام الجليدي الذي يدثر القطب الشمالي، ففي كل من ألاسكا وغرينلاند واسكندنافيا الشمالية وسيبيريا، والمحيط القطبي الشاسع، ارتفعت درجات الجرارة لأكثر من درجة ونصف خلال العقود الخمسة الماضية، أي بزيادة تقدر خمسة أضعاف الزيادة التي حدثت في أي مكان على سطح الكوكب.
ويمكن القول بهذا الصدد إن زيادة بضع درجات في درجة الحرارة ربما لا تبدو مهمة كثيراً في مكان يؤدي فيه هبوب رياح الشتاء إلى هبوط مؤشر مقياس الحرارة إلى مستوى متدنٍ، يصل إلى 75 درجة تحت الصفر.. ولكن بدءاً من العوالق النباتية وانتهاءً بالدببة القطبية، فإن الذوبان القطبي يهدد بكارثة بيئية وبشرية. فكل كائن حي في المحيط القطبي يعتمد على الثلج.. فالبشر والدببة القطبية يصطادون الحيتان والثدييات والفقمة التي تتغذى عليها.
والآن، بما أن الطبقات الجليدية تترقق وتتراجع شمالاً، فإن تلك السلسلة الحساسة من الطعام تنهار. ويشرح "لوري كواكينبوش"، وهو باحث في المنطقة القطبية يعمل في جامعة ألاسكا، الأمر بالقول: "إن الجو بارد ومظلم هنا طوال معظم أيام السنة، ومن الصعب تأمين الحياة.. وكل الأنواع تعتمد على سلسلة طعام قصيرة، وكل ارتباط بتلك السلسلة مهم للغاية وذلك لأنه، وبخلاف المناطق الحارة والمطرية، لا توجد بدائل للطعام ولو تغير شيء، فإن النتائج ستكون ضخمة.. والذوبان يهدد كل شيء".
خلل النظام البيئي
وقد راحت مجموعة من العلماء والباحثين في تغير المناخ من الولايات المتحدة وروسيا تمعن النظر في الأفق من خلال المناظير لمدة 24 ساعة يومياً وتسجل ملاحظاتها بأقلام الرصاص حيث أن زجاجات الحبر تتجمد في المنطقة القطبية. ويجري أفراد المجموعة بحثاً على قطيع الحيوانات لاختبار ما إذا كانت الأعداد تتناقص، وقد ثبت لديهم صحة أسوأ التوقعات حول السخونة الكونية. وخلال العام الماضي كانت دفاتر ملحوظاتهم تعطي معلومات كئيبة. فلا يوجد ما يكفي من الحيوانات، وبالذات الإناث، في حاضنة الثلج.
وقال الدكتور برينزن كيلي من مدرسة علوم المصائد والمحيطات في جامعة ألاسكا، والذي شارك في رحلات علمية سابقة، معلقا: "لقد شاهدنا وفرة في الذكور، لكن معدل الإناث أقل بكثير مما نحب أن نرى. فلقد انخفض المعدل بنسبة 5 في المائة في شريحة الإناث البالغات حيث كان يجب أن نرى حوالي 38 في المائة منها، كما أن عدد من يبلغن عاماً وعامين من العمر قد انخفض أيضاً". وأضاف: "إنه يوجد الكثير من الفوضى في النظام مما يحول دون معرفة الأسباب الحقيقية لانكماش الحياة البرية، لكنها لا تزال تشير بإصبع الاتهام إلى سخونة الجو، فليس بالإمكان ضخ هذا الحجم من ثاني أكسيد الكربون الذي يصبه العالم في الجو دون أن يكون لذلك أي أثر، فهناك سخونة ولكن السؤال هو فيما إذا كانت طارئة أم أنها ظاهرة. فلو ثبت أنها ظاهرة؛ إذاً، فإن بعض النماذج تظهر الأثر المترتب على ذلك من خلال النظام البيئي، وذوبان الثلج بسرعة شديدة، فالحيوانات هنا تعتمد على الثلج، ولو اختفى فإنها ستختفي معه أيضاً والمخاطر ستكون بلا شك كبيرة.
وكانت هذه المعلومات مثار دهشة أنصار البيئة الذين كانوا على متن السفينة. ويقول ميلاني دوشين خبير تغير المناخ الذي يزور بحر شوكشي كل عام: "إنه في كل مرة يصعب أكثر العثور على حيوانات، فالجليد يزداد بعداً عن الشاطئ ما يؤثر بشكل مباشر على الحياة البرية".
تدني أعداد الكائنات الحية
ومع تراجع الطبقات الثلجية الرقيقة شمالاً، يصعب على الحيوانات أكثر التكاثر وتربية الصغار. وتذيب السخونة الحظائر الثلجية للدب القطبي مما يتسبب في سحق الأمهات المرضعات وصغارها. وحتى ولو أن الصغار تعيش، فالحيوانات الكبيرة لا يمكنها دائماً إطعامها جراء التراجع المستمر للجليد، وازدياد عمق المياه وتزايد صعوبة الغطس إلى الأعماق نتيجة لذلك حيث تعيش الأسماك الصدفية وسمك القد القطبي. بل إن بعض الحيوانات تجد نفسها محاصرة فوق إبر لأن الجليد تراجع بعيداً بشكل لم يعد يمكنها من السباحة إليه.
أما الطيور البحرية مثل الغلمون (أحد طيور البحار الشمالية) التي هاجرت أبعد وأبعد شمالاً خلال فصل الصيف الماضي فإنها تموت الآن وذلك لأن السخونة التي جرّتها أولا نحو القطب الشمالي هي التي تدمّر موطنها في الطبقات الجليدية الرقيقة. ويتوقع العلماء، إنه فيما لو رقّت الطبقات الجليدية أكثر فإن أنواعاً كثيرة من ضمنها الدببة القطبية يمكن أن تنقرض في غضون 20 عاماً. وليس الحياة البرية وحدها هي التي تواجه الخطر. فعلى البر فإن الدببة المنقطة بالرمادي، والرنة، والثعالب القطبية التي تجوب الطبقة الجليدية السرمدية قد عدلت من عادات هجرتها عبر ملايين السنين لتتزامن مع موسم نمو الأعشاب، الطحالب، والنباتات الأخرى حتى يمكنها التزاوج وإطعام صغارها.
ولكن مع حلول الربيع في وقت مبكر، وجفاف السهول فإن قطعان الحيوانات وأسراب الطيور تجد من الصعب السفر من مناطق الشتاء في الوقت المحدد لإطعام نفسها. وقد مات 10 آلاف من غزلان الرنة فوق شبه جزيرة شوكونكا الروسية قبل عامين بسبب الجوع، كما أن دب ألاسكا القطبي مهدد بالانقراض. كما أن ارتفاع درجات الحرارة قد سرع من إيقاع دورة إعادة إنتاج الطفيليات البرية مثل الخنافس. كما دمرت الحشرات النهمة الغابات في شبه جزيرة كيناي في ألاسكا. وهناك عدد يقدر بحوالي 20 إلى 30 مليون شجرة صنوبرية تقتل كل عام. وحوالي 30 مليون منها ماتت في عام 2011 وحده. وتفشي الأمراض يغطي الآن ما يزيد على 3 ملايين دونم. وإذا كان العالم الطبيعي يواجه التهديد في أكثر الأمكنة عدائية فوق سطح الأرض، فإن الناس الذين يعتمدون عليه في عيشهم، هم أسرع من سيعاني.
وطوال قرون ظل صيادو الاسكيمو على الشاطئ الألاسكي وفي سافونغا وغامبل فوق جزيرة سانت لورانس يصطادون الحيتان، والثدييات والفقمة، ويجمعون النباتات لإطعام عائلاتهم وصناعة القوارب والملابس والأدوات الموسيقية، ولنحت العاج. وقد جرت العادة أن يكون الطعام وفيراً لدرجة إنه عندما تصطاد إحدى القرى حوتاً فإنها تشارك القرى المجاورة في لحمه ودهنه. لكن شعوب الاسكيمو تقول الآن إنها غير قادرة على إيجاد حتى ما يكفي لإطعام نفسها وتربية أطفالها. وأبلغ كلارينس واغلي – 67 عاماً – صائد حيتان يعيش في جزيرة سانت لورانس، طاقم صانراير قوله: "لقد اعتدنا أن نحيا حياة جيدة، وكنا نصطاد الحيتان والفقمة بكميات كبيرة. ولكن الآن لا يمكننا العثور على الحيوانات بسهولة. فنحن نخرج للصيد لبضعة أيام لكننا لا نعثر على أي شيء، فالصيادون لا يأخذون الطعام على ظهور قواربهم كالرجل الأبيض لذلك فإنهم يعودون إلى بيوتهم بعد بضعة أيام وقد أصابهم الهزال".
تغييرات بيئية جوهرية
ولا تعرف شعوب الاسكيمو شيئاً يذكر حول علم سخونة الكون، لكنهم مقتنعون بأن بيئتهم تتغير، فقد جرت العادة أن يكون شهر آذار هو بداية الربيع، لكن الآن فإن الشمس تبدأ منذ شباط في إذابة الطبقات الجليدية الرقيقة، وتقوية التيارات التي تجر الحافة الجليدية أكثر وتبعدها عن الشاطئ. وقد ازداد حجم الطيور والحشرات شيئاً فشيئاً. وبدأت أنواع من الفواكه والثمار اللبية مثل التوت لم يشاهدوها من قبل على الإطلاق في الظهور. ولو استمرت سخونة الأرض والمياه التي يعتمدون عليها، فإن شعوب المنطقة القطبية تخشى من تعرض ثقافتها القديمة للموت. وأضاف الصياد واغلي معلقاً: " إننا نريد التمسك بالتقاليد التي خلّفها لنا أجدادنا وآباؤنا وأمهاتنا، لكننا لا نستطيع". وأضاف واغلي الذي يعيش مع زوجته وأولاده السبعة في بيت مصنوع من خشب البليوود بجانب شاطئ البحر: "فنحن لا نعثر على أمعاء الفقمة، ولا على جلود الثعلب القطبي حتى نصنع منها ملابس خاصة. ولم يعد بإمكاننا الحصول على الأجهزة المعوية لصناعة الطبول للغناء والرقص فالناس لا يملكون ثياباً، ولا يغنون، ولا يرقصون إنني أفضّل الحياة التقليدية، لكننا نعاني، والناس البعيدون لا يهتمون".
الدول الصناعية هي السبب
إن الدول الصناعية التي تنفث ثاني أكسيد الكربون وغازات الحمامات الزراعية الأخرى من خلال حرق زيوت وقود الحفريات التي تشمل الفحم، الزيت، والغاز، هي السبب الأساسي لسخونة الجو. وهذه الغازات تعيق إشعاع الشمس عند مستويات منخفضة مما تحدث ارتفاعاً في درجات الحرارة. وبما أنهم لا يهتمون سوى بمصلحتهم، فإن عدداً قليلاً من الغربيين يشغلون نفسهم بالتفكير في تغير الجو أو بالمنطقة القطبية. ولكن ربما يضطرون قريباً للتفكير في هذه الأمور. فمياه المنطقة المثلجة هي مقياس درجة حرارة العالم. فذوبان الصيف وتجمّد الشتاء السنويين يدفعان تيارات المحيط الشاسع التي تنظم المناخ بعيداً آلاف الأميال. ولو أن الذوبان الضخم يستمر، فإنه سيبرد مياه شمال الأطلنطي، التي تشمل "الغلف ستريم" الذي يبقي بريطانيا وأوروبا دافئين. ويمكن أن يصبح جو بريطانيا المعتدل شديد التطرف ما بين الساخن والبارد. وسيرتفع عدد العواصف ويرتفع منسوب مياه البحر.
إن التهديد الذي تفرضه سخونة الكون في المنطقة القطبية وما بعدها اعترفت به كل دول العالم تقريباً عندما اجتمعت في قمة كوبنهاغن المناخية، لوضع معاهدة تغيير مناخ جديدة شاملة. ووافقت دول صناعية على تقليص الغازات المنبعثة من الحمامات الزراعية بمعدل متوسط 6 في المائة عن مستويات عام 2010، وباستكمال التقليصات خلال العقد الحالي، ولكن في معظم الدول لا تزال الغازات ترتفع.
وقالت عالمة المناخ الألمانية ميلاني دوشن، وعضوة في فريق البحث: "لقد قالوا ماذا هم فاعلون، ولكن ليس من الواضح ما إذا كانوا جديّين في تنفيذ ما تعهدوا به. وأضافت، بأنها تكره التفكير فيما سيحدث لأفق الجليد الشاسع لو أن سلسلة أخرى من الأهداف الخضراء رصدت لكنها نسيت بعد ذلك". وتعلق بالقول: " انظروا إلى هذا البحر، إلى هذا الثلج، إلى هذه الشمس: إنها آخر الأماكن على الأرض التي لا تزال الظروف الطبيعية تسود فيها. وذلك هو ما يعيدني إليها كل عام. فلا توجد صناعة، ولا سيارات، والقليل من الطائرات التي تحلق فوق الرؤوس، والقليل جداً من التلوث. ولكن يوماً بعد آخر، وسنة بعد أخرى، فإن قادة العالم، وديناصورات وقود الحفريات يشوهونها ويلطخونها. فبالنسبة لآخر برية شاسعة في العالم، وباقي الإنسانية فإن الحرارة ترتفع ولا بد من التحرك السريع قبل فوات الأوان.
المصدر : الباحثون العدد 70 نيسان 2013