نادية الغزي
الشمس غربت.. والسهول اتسعت.. والوقت وقت الصيف.
الشمس غربت.. والليل تمشّى الهوينا وعمر أشجار الفستق.
وفي الليل العميق ذاك.. مع البرودة والنداوة. بدأت ثمار الفستق بالتفتح.
يتكسّر فمها المخشوشب، ليصبح مستعداً متسعاً تتبيّن ثمرة الفستق عجائب الزمان:
اصفرت القشرة.. ثم احمرت والمحفظة أصبحت خشنة مشقوقة الطرف القريب.
وبرزت ثمرة اللب الفستقي، المحاطة بالمحفظة العاجية، برزت ثمرة اللب اللذيذ إلى الدنيا.
وطقطق الفستق في الليل الصيفي الحار النديّ.
قطفوه.. نزعوا قشره.. ملحوّه.. نشروه في الشمس.. حفظوه أو أكلوه.
وحين رآه الشاعر قال:
كأنما الفستق المملوح حين بدا
مُفَتّح القشرِ موضوعاً على طبق
وقد بدا لبّه للعين ألسنةً
للطير عطشى بها شيء من الرمق
(الحلبي):
يُسمّى الفستق في بلاد الشام بالفستق الحلبي لاشتهار مناطق حلب بزراعته.
وتمتد زراعته في مناطق حلب وإدلب وحارم ومعرّة النعمان ومورك حيث تكثر هناك بساتين الفستق.
والفستق هو الجدّ الأكبر وشيخ قبيلة المُكَسَّرات الشرقية، فهو أغلاها ثمناً وأكثرها قيمة وغذاء، وأعتقها تاريخاً.
الفستق في الممالك القديمة:
كتبت (ياتاريا) إلى شقيقتها (إيلتاني) ملكة مملكة (كارانا) التي كانت تقع إلى الغرب من (نينوى: الموصل) وإلى الشرق من نهر (الخابور).
وياتاريا، وإيلتاني هما شقيقتا الملك الشهير (زمري ليم) ملك مملكة ماري الذي عاش وحكم عام 1750 ق.م.
تقول يا تاريا لشقيقتها حسب ما ذكرت الرُقُم الصلصالية:
إني أرسل لك (الفستق) و(المكسرات) لأنها أولّ فاكهة الموسم فاكهة (نيسان - سيتيم).
وقد عنت ياتاريا بالمكسرات اللوز وغيره.. أمّا الموسم فلربما كان مختلفاً.. أو ربما كانت إيلتاني تعني بداية السنة التي كانت في الخريف، والفستق كما نعرف ينضج في آب وأيلول ويستمر حتى تشرين.
هذه الرسالة، تؤكد التذوق الفني التراثي لسكان بلاد الشام الذي، مازال مستمراً كما هو إلى اليوم بالرغم من آلاف السنين التي غيرت الكثير من معالم الحياة على وجه الأرض.
وبالتالي فقد أرسل (ايتيم - داغان) إلى أخيه (يا شماش حدّو) الفستق في أول الموسم أيضاً.. وكما قلنا فقد كانت السنة تبدأ في أوائل الخريف وهي فترة انتهاء نضوج الفستق.
أشجار الفستق
تبدو أشجار الفستق في الصيف ظليلة وارفة..
الكبير منها يعلو إلى ستة أمتار ويسميه أهل المنطقة (الصيوان) لأنَّ الشجرة الواحدة تُظل عدداً وافراً من الناس.
والصغير منها يُدعى (الجحش) لأنّ الإنسان يركب الظل الضئيل.
ولنور القمر الباهر، تأثير على ثمار الفستق فهو الذي يجعل الفستق (ضاحكاً) فمتى بلغت شجرة الفستق أولّ صباها، وذلك حين تبلغ الثلاثين عاماً من عمرها المديد الذي يُعَّد من مئتين إلى ثلاثمئة سنة، متى بلغت الثلاثين تبدأ في الإثمار الذي يستمر وهذا يدّل على الواقع الإنتاجي الاقتصادي لهذه الشجرة.
آلية تشقق الفستق
ينفجر الفستق في النقلة الحرورية فأثناء الأيام الحارة الصيفية التي تمر على صيف حلب والمعرة وإدلب ومورك وغيرها، (يفقش) الفستق تحت ضوء القمر. فعند وصول الليالي الصيفية إلى أقصى رطوبتها، وبعد أن تكون ثمار الفستق قد تشبعت بالحرارة لطول تعرضها أثناء النهار، للحر الشديد.
وأثناء الاحتكاك الرطب البارد لجوف اللب الحار للفستق، ومع جاذبية القمر، تحدث هذه الانفجارات، فتتشقق القشرة الصلبة وتفتح الفستقة فمها ليظهر اللب الذي التقط الكثير من حرارة الشمس فزكا..
ثلاثمئة سنة
يبزغ فيها القمر على أشجار الفستق فيجعل الفستق (ضاحكاً)، ومتى ظهر القمر، تبدأ الأعجوبة- تأخذ مداها العميق في البساتين، وتصدر تلك الأصوات الخالدة التي يتناقلها صمت الليل جيلاً بعد جيل..
يقول خير الدين الأسدي في موسوعة حلب:
القَمَرْ ضَحَّككْ يا فستقْ
شفتو بعيني كركركْ
صمغ أشجار الفستق
إذا تصمّغت جذوع أشجار الفستق، سرعان ما تمتّد الأيدي الخبيرة تقتلع الصمغ، لتصنع منه (العلك) (المستكة) وهو من أطيب أنواع العلك.
الفستق في كتاب تحفة النظّار لابن بطوطة
ذكر ابن بطوطة الفستق فقال: معرة النعمان مدينة كبيرة حسنة أكثر شجرها التين والفستق ومنها يُحمل إلى دمشق ومصر.
بهذه المعلومة أرّخ ابن بطوطة وجود الفستق عام 725هـ مع ثبات وجوده قبل ذلك بكثير كما ذكرت رُقم كارانا الأثرية وحسب ما جاء في كتاب: ماري مكارانا - مدينتان بابليتان عموريتان قديمتان.. ستيفاني داللي.
الفستقة
تبدو الفستقة الحلبية أصغر حجماً من مثيلاتها من أنواع الفستق.. لكنها ألذ طعماً وأكثر "زكاوة".
وقد ذكر الأسدي أنَّ حكومة شاه إيران السابقة، أرسلت بعثة خاصة لتبحث عن السرّ في حُسن طعم فستق بلاد الشام فتوصلت إلى نتيجة هي: توفّر البيئة الطبيعية المناسبة بشروطها، للفستق.
نقيس ثمرة الفستق من 1,5 – 2سم وهي مستديرة طولانية رقيقة، لبّها يتمتّع بلون (فستقيّ) محيّر، وهو مُهيأ للانقسام طولانياً إلى نصفين.
يحمي اللب القشرة الأولى الرقيقة الحمراء، الناعمة كالحرير وهي تؤكل مع اللب، أمّا لونها فنبيذيّ.
أما القشرة الثانية فهو محفظة الفستقة، تتخشب عند النضج، وهي التي تحمي حبّة الفستق وهي التي تتشقق في الليل.. أمّا لونها مفاجئ سميك كالدرع.
أمّا القشرة الثالثة فتغلّف المحفظة العاجية، وهي ذات ألياف مليئة بالماء، تحفظ النداوة والطراوة لحبة الفستق وتتجفف بعد القطاف.
هذه (المحافظ) الثلاث سحرت ابن المعتزّ، الشاعر العباسي، فبدا له الفستق جسداً خالص الجمال محروساً بثلاثة ثياب.. قال:
ثلاثة أثواب على جسد رطب
مخالفة الأشكال من صنعة الرّبِ
تقيه الردى في ليله ونهاره
وإن كان كالمسجون فيها، بلا ذنبِ
ويقول الأسدي باللغة العامية:
يالبلوب الحرمان.. ياما أودعتك الزمان
ويعود ابن المعتزّ ليصف الفستق مضيفاً السحر واللون وشكل الجواهر عليه فيقول:
زبرجدة ملفوفة في حريرة
مضمخة دُرّأ مُغشّى بياقوت
تتوهج الأحجار الكريمة معلنة التشابه بينها وبين الفستق، لوناً وقيمة؛ فالفستقة عند ابن المعتز زمردة.. وهي بقشرتها كالياقوتة الحمراء..
أمّا قيمتها فكقيمة (الدر) (الجوهر)
وملمس الحرير.. ولذة الطعم.. إنها لذةّ الشعر في تفسير الحواس.
الموطن الأصلي للفستق
موطن الفستق الأصلي في آسيا الوسطى وآسيا الصغرى وسورية، ويفوق النوع الموجود في سورية كل الأنواع الأخرى في طعمه وقيمته الغذائية، فشجر الفستق لا يحتاج إلى ماء كثير.
يقول الأسدي: لا يُثمر إلاّ وهو على عطش
وينادى عليه في حلب: (هذا الذي فقرو سرّ غِناه)
تركيب الفستق
يحتوي الفستق على الفوسفور - الكالسيوم - الحديد – النحاس، كما هو غني بالفيتامين (ب1) و(ب2).. وهذا ما يدعو الأمهات عبر التجربة التراثية الحضارية إلى الإسراع في إعطاء الفستق لأولادهن أثناء الفترة الدراسية لاحتوائه على الفوسفور المغذي لخلايا الدماغ، ومن المأثورات الشعبية في سورية أن تتناول الحامل الفستق الحلبي كي يحظى المولود الجديد بعينين جميلتين. وأن على المرضع أن تأكل الفستق الحلبي كي يزداد إدرار الحليب.
الضاحك
تعني كلمة الضاحك، الفستق المشقوق:
وضاحكٍ.. أجفانه
لم تكتحل بالوسن
لم أدرِ عن أفئدة
تبسم أم عن ألسنِ
كعاشقٍ كلّفه
الغرام كما كلفّني
إذا أخذت قلبه
لم يُنْتَفَعْ. بالبدنِ
اسم الفستق
اسم الفستق في السريانية: فستقا
أمّا في العربية فيُلفط: فُسْتُقْ أو فُسْتَق
والاسم مشتق من اللغة الفارسية حيث يُسمّى الفستق pistak ويعني ذلك (فم العشوق).
أما في اللغّة الإيرانية فيدعى: pista
وقد حُرِّف إلى الفرنسية فصار يُدعى pistache
وفي الإنكليزية يُدعى pistachio
وجمع الفستقة: فستقات
أما جمع الفستق فهو: فساتق
أغنية وموّال الفستق
مرّ خير الدين الأسدي ذات يوم على قرية في جبل الأكراد فشاهد امرأة كردية تقلي وتحمّص بالصاج فستقها وعيونها في شرود تام..
أنواع الفستق
العاشوري: وسُمّي باسم وظيفة مالك لكروم الفستق، الذي كان يشكل عِشر تحصيل الدولة وهو من أشهر أنواع الفستق.
المراوحي – البادوري – العليمي - الملاز وردي - العجمي (الفارسي) - ناب الجمل - لسان العصفور.
تشبيه فم الحبيب بالفستقة
وهي ظاهرة شهيرة في كل الآداب العربية والفارسية سواء كان هذا الأدب غَزَلاً شعرياً أو شعبياً.. ومثل ذلك قول الشاعر حين رأى حبيبته تتقدم وفي يدها طبق من الفستق:
ومُهْدٍ إلينا فستقاً غير مُطْبِقِ
به.. زاد حُسْناً على كلّ مُحْسنِ
كأنَّ انفتاحاً منه دلّ على الذي
به من كمينٍ في حشاه مُضَمَّخن
ظِماءٌ من الأطيار حامت فَفَتّحت
مناقيرها ثم استعانت بألسنِ
قطاف الفستق وتجفيفه تحت الشمس
تخرج الفلاّحة من كوخها المخروطي الشكل، متجّهة نحو كروم الفستق المتباعدة الأشجار لتجمع الفتسق من أغصانه كُوَشاً كُوَشاً أو فرادى فرادى، أو تتسلّمه من النواطير الذين سهروا طوال الليل مع أصوات تفتح وتشقّق قشور الفستق تحت ضوء القمر..
ظاهرة عجيبة!
التحميل: يحمّل الفستق ويوزّع على سائر المحافظات.. وتحظى دمشق العاصمة بانتشار باعة الفستق الذين يفرشونه أكواماً تحت القناديل على طول مدخل شارع: دمشق- بيروت المُتّجهْ نحو خانق الربوة، ليبدو المنظر غير قابل للنسيان.
حفظ الفستق
- العملية الأولى في حفظ الفستق هو نزع القشرة الليفيّة التي تسوّد في الهواء إذا لم تُنْزع..
- أمّا العملية الثانية فهي تقشير الفستق ونزع محفظته العاجية اليابسة وذلك بفقشها بسهولة بنتيجة تفتحها الأولي في الليل.
أكل الفستق: يؤكل الفستق نيئاً أو مُحَمَّصاً
تحميص الفستق ويكون التحميص سبباً في حفظه وإدخاله ضمن مجموعة المُكسّرات وتتم عملية التحميص بطريقتين.
1- التحميص بالشمس: ويكون بغمر الفساتق بالماء المملّح.. ثم توضع الأطباق وتنشّر تحت عين الشمس الحادّة وتترك لتصارع الحرارة الصيفية، وسرعان ما يتبخر الماء ويتعلق الملح بقشرة الفستق كما يعطيه طعماً مالحاً مقبولاً.. وعند جفافه تماماً.. يرفع ويحفظ في الأواني الزجاجية.
2- التحميص الآلي: تلجأ المحامص الآلية إلى الطريقة نفسها في التحميص الشمسي، لكن التحميص يكون سريعاً ويكون إمّا بتقليبه فوق الصاج، أو بوضعه في بوتقات المحامص الحديثة.. والمعروف أن الفستق المحمّص في الشمس ألذّ طعماً
أخيراً..
يتضاحك أهل بلاد الشام، وتقول الأمثال الشعبية
أحسنْ ما تشتري فستقْ وتطقّقي جيرانِكْ
روحي اشتري لِكْ توبْ وحَسّنْي هندامك
الشمس غربت والسهول اتسعت.. والوقتُ وقت الصيف..
الشمس غربت والليل تمشّى الهوينا.. وغمر نور القمر أشجار الفستق.
المصدر : الباحثون العدد 70 نيسان 2013