الحوار الإيجابي والبنَّاء هو نقاش عقلاني جاد وهادف بين طرفين، بحيث يحاول كل طرف منهما إقناع الآخر بوجهة نظر معينة، حول أمر معين، أو الوصول إلى تفاهم أو اتفاق حول هذا الأمر، بما يحقق الهدف والغاية من إجراء الحوار. ولا يمكن للحوار أن يكون ناجحاً مع وجود العصبية والتشنج والتمسك بالرأي، بل يحتاج إلى الهدوء والروية والتحلي بالصبر، مع استخدام الحكمة والعقل والمنطق خلال الحوار، وعدم نسيان الهدف الرئيس من إقامة الحوار، والإتيان بالحجج والبراهين والحقائق الداعمة لهذا الهدف في الوقت المناسب.
وقد شجع القرآن الكريم مثل هذه الحوارات الإيجابية والبنّاءة، وأعطى لها أهمية عظيمة، بحيث أورد الكثير من الأمثلة حولها، في كثير من مواضعه، وبحيث لا تمر صفحة منه إلا وفيها حوار، أو ما يدل على ذلك، ونرى ذلك واضحاً جلياً في حوار الأنبياء والرسل مع أقوامهم، مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والرسل، أو في حوارهم مع الملوك والحكام، كحوار النبي إبراهيم مع النمرود، أو حوار النبي موسى مع فرعون، أو حوار الأفراد مع بعضهم، كحوار النبي موسى مع الرجل الصالح، أو حوار أهل الكهف أبطال هذه القصة مع بعضهم في سورة الكهف، أو حوار صاحب الجنّتين مع صاحبه في سورة الكهف أيضاً، وحوار أصحاب الجنة في سورة القلم، وحوار الرجل المؤمن الآتي من أقصى المدينة مع قومه في سورة (يس)، وحوار الرجل المؤمن من آل فرعون مع قومه أيضاً في سورة غافر، وغيرها الكثير والكثير في القرآن الكريم. وهناك حوار خاص مع الله سبحانه وتعالى، كحوار الملائكة مع الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة وهذا الحوار الذي بنى عليه البروفيسور الأمريكي المسلم جيفري لانغ كتابه "حتى الملائكة تسأل Even Angels Ask"، وحوار الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى ونوح وآدم وغيرهم مع رب العالمين في كثير من السور، وحوار الأفراد مع الله عزّ وجلّ كالعُزير في سورة البقرة، حتى حوار إبليس مع الله ومع البشر نجده في مواضع كثيرة في القرآن، بل ونجد نوعاً خاصاً آخر مع الحيوانات كحوار النبي سليمان مع الهدهد والنملة في سورة النمل، وكذلك الإشارة إلى الحوار الذي يتم بين الإنسان وأعضائه يوم القيامة.
وكما قلنا سابقاً، إن مواضع الحوار كثيرة في القرآن الكريم لا نستطيع أن نحصيها كلها في هذه المقالة القصيرة، وإنما اكتفينا بالإشارة إلى بعضها. وكلمة حوار ذكرت في القرآن الكريم في ثلاث آيات، اثنتان منها في سورة الكهف، وهما الآية (34) «وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا» والآية (37) «قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا» أما الآية الثالثة فقد وردت أول سورة المجادلة «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ»ورغم أن كلمة حوار قليلة في القرآن إلا أن استعمالها ومدلولها واسع.
إن الهدف الأساسي للقرآن من إيراد الحوار هو تعميق الإيمان في قلوب الناس وتقريبهم من الحق، بالشكل الذي يشرح صدورهم، وينوّر بصيرتهم، ويزيدهم هدى ومعرفة، وكثيراً ما يستعمل القرآن في الحوار طريقة السؤال والجواب، والذي يعطي فهماً أوسع وشرحاً أشمل، لأن الإنسان يتميز عن باقي المخلوقات بالعقل الذي يعتبره القرآن قوة صالحة للحكم على الأشياء، وميزاناً لمعرفة الصحيح من الفاسد. وقد أورد التاريخ الإسلامي الكثير من الدعوات التي كانت تدعو إلى الحوار بين علماء المسلمين بعضهم مع بعض أو مع غيرهم من علماء الأديان الأخرى، بغية الوصول إلى الحقيقة. فالإسلام يريد من الإنسان أن يحصل على القناعة الذاتية المرتكزة على الحجة والبرهان في إطار الحوار. ولأن الحوار هو أفضل وسيلة للتواصل والتعارف يقول الله سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»الآية (13- الحجرات).
والتعارف بين الناس والأمم لا يتم إلا بالحوار، والذي قلنا إنه أفضل وسيلة للتواصل والتعارف. ولكي يكون الحوار ناجحاً ومثمراً، يحب أن يكون المتحاور حكيماً عاقلاً وملماً الموضوع الذي يحاور فيه، ولديه من الحجج والبراهين والحقائق ما يدعم به حواره، وأن يتصف بالحلم وسعة الصدر فلا تنتابه العصبية وسرعة الغضب، ومظاهر التوتر والقلق والاضطراب، وأن لا يتمسّك برأيه عناداً ومكابرة، وأن يكون أميناً وصادقاً في حواره، فلا يستعمل الغش والخداع والمداورة. وتزييف الحقائق لأن كل ذلك سيؤدي إلى تهديم الحوار وخرابه.
وسنعطي الآن مثالاً عن أدب الحوار القرآني وأصوله في حوار النبي موسى مع رب العالمين عندما كلفه بمحاورة فرعون ودعوته للإيمان، ومن ثم في حوار النبي موسى مع فرعون. فالله سبحانه وتعالى عندما أمر موسى بالذهاب إلى فرعون قائلاً له: « اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى » الآية (24- طه) لم يرسله إلا بعد أن توفرت فيه الشروط المثالية للحوار. ولكن موسى رأى في هذا التكليف ما يزعجه ويقلقه، خاصة الحوار مع فرعون المتكبر المتجبر، والمعروف بالبطش والتعسف والتهور، والحوار في هذه الحالة، مع فرعون، سينجم عنه القلق والاضطراب والتوتر، ولن يكون ناجحاً، لذلك قال: « رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي» الآية (25- طه) وذلك حتى يستطيع أن يؤدي الرسالة باطمئنان وعلى خير وجه، وطبعاً، لو لم يكن موسى جديراً بهذه المهمة لما قال له الله « وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى» الآية (13- طه). ويتابع موسى فيقول: « وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي » (الآية 26- طه) أي أعنّي يارب على تبليغ الرسالة وتجاوز الصعاب والعراقيل. وهنا ندرك أن تأدية الرسالة والقيام بالحوار لا يمكن تأديتهما بوجود المصاعب والمشاكل والعراقيل. ويضيف موسى قائلاً: « وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي»الآيتان (27-28 طه). وكان في كلام موسى حبْسة تمنعه من إعطاء بعض الحروف حقها في النطق. وهذا يدل تماماً على أن الحوار يحتاج إلى طلاقة في اللسان وسلامة في النطق وتوضيح للكلمات والجمل، حتى لا يكون فيها غموض أو سوء فهم، وللتغلب على هذه المشكلة يقول موسى: «وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي»الآيتان (29-30 طه)، أي اجعل أخي هارون معيناً ومساعداً لي في رسالتي، ويضيف أيضاً قائلاً :
«اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي »الآيتان (31-32 طه). فموسى هنا يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يجعل أخاه خير معين وسند له في مهمته ويطلب منه كذلك أن يشركه في تبليغ الرسالة وفي النبوة أيضاً، ويبيّن السبب قائلاً: «وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي»الآية (34- القصص). وهنا نعرف أن المحاور ربما يحتاج إلى من يساعده ويقدم له يد العون في حواره، إذا نسي شيئاً ما، أو أخطأ في التعبير أو التوضيح أو في طرح الفكرة، أو ابتعد عن هدف الحوار، وربما يشاركه في الحوار أيضاً. ويجيبه رب العالمين إلى طلبه قائلاً: «قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ»الآية (35 القصص).
ولكن الذهاب إلى فرعون فيه من المخاطر ما فيه، وربما يأمر بقتلهما، لذلك يتوجهان إلى الله سبحانه وتعالى مستنجدين طالبين العون منه «قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى» الآية (45- طه). ويطمئنهما رب العالمين: «قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى» الآية (46- طه) وهنا نعرف أيضاً أن الحوار لا يمكن أن ينجح مع الخوف والخطر، أو الترهيب والإكراه، وإنما ينجح بوجود الأمن والسلام والاطمئنان.
ويذكِّرهما الله سبحانه وتعالى، بعد ذلك، بأن يكونا مؤدبين ولطيفين في حوارهما مع فرعون:«فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»الآية (44- طه) لأنه بإظهار الأدب والاحترام مع الطرف الآخر، ربما يؤثران فيه، ويجعلانه يميل إليهما ويستمع لما يقولانه، وربما يقنعانه بما يريدان. وهذه كانت حال كل الأنبياء والرسل في كل حواراتهم مع الآخرين، وكان كل نبي يقول دائماً: « فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ..»الآية (72- يونس) وهذا يذكرنا أيضاً بأدب وأخلاق النبي محمد صلى الله عليه وسلم الرفيعة مع الآخرين «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ»الآية (159- آل عمران) مما يدلنا على وجوب احترام الطرف الذي نتحاور معه حتى ولو كنا على اختلاف معه في أفكاره وآرائه ومواقفه، فالحوار هو الاعتراف بالآخر كحقيقة مستقلة، وأن يمتلك كل طرف حرية فكرية كاملة، لأنه في الحوار يجب أن يفهم المتحاوران أحدهما الآخر فهماً جيداً وإلا انقلب الحوار إلى مجرد نقاش عقيم.
ويقف موسى وهارون أمام فرعون أخيراً، بكل شجاعة وثقة بالنفس، من أجل محاورته. وقد تم هذا بتأييد وتسيير من الله سبحانه وتعالى. فالوصول إلى فرعون والمثول أمامه، في بلاطه الواسع، بعد تجاوز كل الحرس المدججين بالأسلحة، ليس بالأمر السهل أبداً. وكان فرعون جالساً على عرشه وسط جنوده وحرسه، وحوله اصطف، كل حسب مركزه وأهميته، الوزراء وقادة الجيش والكهنة والأعيان وغيرهم، وكان فرعون معروفاً، آنذاك بالظلم والطغيان والجبروت. كما كان معجباً بنفسه وبغناه وقوته، وأنه فوق كل البشر إلى حد أنه ادّعى الألوهية: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ » (الآية 4- القصص) ومن الطبيعي أن يغترّ الإنسان إن كان ضعيف النفس، بمظاهر الغنى الفاحش حوله، وبلزوم الخدم والحشم بين يديه، وبخضوع الناس له، وهذا كله يؤدي إلى التكبر والتجبر « كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى »الآيتان (6-7 العلق). ومما يزيد في طغيان المرء وتجبره تملق الآخرين له وإيهامه بأنه الحاكم المطلق والمتحكم بالجميع، لأنهم يستغلونه بذلك، ويستفيدون من سلطته في جمع الأموال والأرباح على حساب الناس المساكين وإلى درجة جعلت فرعون يعتقد أنه الإله لكل الناس «وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ »الآية (51 الزخرف). ومن الطبيعي، في هذه الحالة، أن ينقاد الناس إليه «فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ»الآية (97- هود).
ويسأل فرعون موسى باستخفاف عن سبب مجيئه إليه، «وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» الآية (104- الأعراف) وكان وقْع هذه الجملة كالصاعقة على رؤوس الجميع في البلاط، وخاصة فرعون الذي تسمَّر من الدهشة. أيّ ربٍّ هذا الذي يقول عنه موسى أنه رسوله؟! ولأول مرة يشعر بالحرج والخوف. لقد جاءه من يكذبه ويفضحه أمام الناس. وبحركة لا إرادية يلتفت إلى من حوله. «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي» الآية (38- القصص) وهنا يثور أنصار فرعون من المتملقين والمستفيدين من سلطتهم المستمدة من ولائهم وخضوعهم لفرعون، فقد رأوا في موسى خطراً يهدد مصالحهم ويقوض بنيانهم، ويأتي لهم بربٍّ بدلاً من الرب فرعون الذي يدرّ عليهم الخير والمنفعة «قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ »الآية (78- يونس). ويتشجع فرعون قليلاً عندما يرى أنصاره يدافعون عنه «قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ »الآية (29– غافر) ، لقد ظل فرعون مكابراً، وهو يرى الناس وكأنهم عبيد أمامه لا يجرؤون على اعتراضه ولو بكلمة واحدة «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ» الآية (54- الزخرف). ولكن موسى لا يسكت ويرفع صوته متصدياً لفرعون «وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ»الآية (37- القصص). ويشعر فرعون مرة أخرى بالحرج والخوف. لماذا يصرّ موسى على إحراجه هكذا أمام قومه ولا يسكت؟ إن شيئاً ما في داخله يمنعه من التعرض لموسى وأخيه بأي أذى. فما العمل؟ إنها المرة الأولى في حياته التي يقف فيها عاجزاً أمام شخصين عاديين في رأيه، ومن عامة الناس، ولا يستطيع أن يقوم بأي عمل ضدهما.
ويستفيق فرعون من هول الصدمة، ويسترد رباطة جأشه، ويهدئ من نفسه محاولاً ألّا يظهر أي أثر للخوف والاضطراب لمن حوله، ثم يغير من أسلوبه محاولاً استمالة موسى وإبعاده عن أمر الرب الذي جاء رسولاً من قبله، فيشير إليه معاتباً وكأنه قد عفا عنه وسامحه عما اقترفه سابقاً «قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ»الآيتان (18-19 الشعراء) ويجيبه موسى بهدوء دون أن ينكر ذلك « قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ» الآيتان (20-21 الشعراء). وهنا يتريث فرعون قليلاً ثم يسأله فجأة بخبث ومكر «قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ» الآية (23- الشعراء) ويجيبه موسى بنفس الثقة والقوة «قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ»الآية (24- الشعراء) ويضيف في موقع آخر «قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى» الآية (50- طه) ويسأل فرعون مستخفاً بما بقوله موسى:
«قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى» (الآية 51- طه) ويجيبه موسى بنفس القوة والثقة، ولكنه يوجه الكلام لكل من في البلاط « قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى » (الآية 52- طه) ثم يعدد له بعض نعم الله سبحانه وتعالى على الناس وقدراته في السموات والأرض، وهي كلها ما يفتقر إليها فرعون ولا يملكها رغم ادِّعائه الألوهية، ويلتفت فرعون إلى وزرائه وقادة جيشه وكهنته وأنصاره ليرى تأثير كلمات موسى عليهم. لقد خشي أن يتأثروا بكلمات موسى وشخصيته، لذلك نظر إليهم بحدة ليُظهر لهم أنه غير مهتم بما يقول موسى، وفي نفس الوقت يحذرهم بشكل غير مباشر من الاستماع لموسى والتأثر به، كما يذكِّرهم بواجب الولاء له « قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ » (الآية 25- الشعراء). و لكن موسى لا يترك له فرصة ليسمع إجاباتهم بل يستمر في الكلام مستغلاً استماع القوم له واهتمامهم بما يقول، وهو كلام جديد وغريب ومقنع لم يسمعوا بمثله من قبل « قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ » (الآية 26- الشعراء) ويصيح فرعون بعصبية عندما يرى اهتمام الناس من حوله بما يقول موسى « قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ » (الآية 27- الشعراء) ويتابع موسى بقوة أكثر « قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ » (الآية 28- الشعراء).
وهنا تثور ثائرة فرعون، ويفقد أعصابه، ويعود إلى صلفه وكبريائه، ويصرخ مهدداً موسى « قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ » (الآية 29- الشعراء). ولحكمة ربانية لم يجرؤ فرعون، رغم قوته وسلطته وادّعائه الألوهية، أن يأمر بقتل موسى فوراً، وإنما قال له « لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ » كما لم يأمر جنوده بأخذه إلى السجن فوراً، أو بطرده من البلاط. فقد عرف بشكل ما أن هناك قوة خفية تحمي موسى، وأن الخطر يتربص به إن هو أوقع الأذى بموسى، ولكن كيف يتخلص من موسى؟ الذي سيظهر للناس زيف ألوهيته، وسيهدد سلطته وسيصبح مصدر تهديد دائم له بهذا الدين الجديد، فقد أخذ الناس يتأثرون بموسى وبدعوته الجديدة ويعجبون بكلامه المقنع وبشخصيته القوية وثقته القوية بنفسه، وبشجاعته الفائقة أمام فرعون، بل وبدأ الإيمان برسالته يغزو قلوب بعضهم. حتى فرعون نفسه، كان يعرف في أعماق ذاته، أن موسى على حق، ولكن أخذته العزة بالإثم، فشهوة الملك، وإغراء السلطة، والتمتع بالغنى والتلذذ بإخضاع الناس وإذلالهم، كل ذلك أخذ بمجامع قلبه، وسدّ عليه عقله، وأغلق عينيه، فلم يبق في أعماقه إلا بصيص إيمان ضئيل، وهو الذي جعله يفيق، بعد فوات الأوان، وعندما أحسّ بالموت، جعله يفيق من ضلاله وغيِّه، ويرى حقيقة الإيمان بالله تعالى «حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ » (الآية 90- يونس).
ولما أحس موسى أن فرعون قد فقد سيطرته على نفسه، خشي أن يأمر بقتله وأخيه، أو أن ينفذ تهديده، على الأقل ويسجنهما، فوجد أن الفرصة قد حانت لإظهار ما يملك من حجج دامغة تؤيد كلامه « قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ » (الآية 30- الشعراء). ولم يقل موسى هذا إلا عندما وجد أن الأمور قد سُدّت أمامه، وأنه لا فائدة من إقناع فرعون إلا بحجة دامغة لا يمكن دحضها أبداً. وهذا يدلنا على أن نأتي بالبراهين والأدلة والحقائق الثابتة في وقتها المناسب أثناء الحوار، حتى تكون أبلغ وأعمق في إقناع الطرف الآخر. وهذا يذكرنا بقصة النبي إبراهيم مع النمرود في حواره الشهير عندما قال له في النهاية، مقنعاً إياه بالحجة الدامغة« قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » (الآية 258- البقرة). وموسى؛ ما قال عن إتيان الحجة الدامغة إلا ليمتص ثورة فرعون وغضبه ويعيده إلى الهدوء وجوِّ المحاورة، بل ولكي يري جميع الحاضرين البراهين والحجج التي سيقدمها لعلهم يقتنعون بها ويهتدون. وفعلاً هدأ فرعون وانتابه الفضول ليعرف ما هو هذا (الشيء المبين) وأشار إلى موسى « قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ » (الآية 31- الشعراء). كان فرعون يعتقد أن موسى سيفشل في الإتيان بالبراهين الدامغة، وأنه بذلك سيهزمه ويحقق عليه انتصاراً ساحقاً.
وكانت المفاجأة المذهلة، التي لا تخطر على بال أحد من الموجودين، ولم يكن يتوقعها حتى الذين آمنوا برسالة موسى، ووقف موسى أمام مرأى الجميع « فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ » (الآيتان 32-33 – الشعراء)
ولما أفاق فرعون من هول هذين البرهانين الصاعقين، عرف أن الأمر قد أفلت من بين يديه، وأنه قد انكشف أمام الجميع، وأن موسى قد انتصر عليه، وأن دينه سيعم وينتشر بين الناس، لذلك أخذ يفكر بطريقة يبعد بها موسى عن طريقه، وأخيراً التفت إلى من حوله فجأة « قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ . يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ » الآيتان (34-35- الشعراء). وطبعاً كان الملأ من حوله أغلبهم من الخائفين من بطش فرعون وظلمه، فلم ينطقوا بكلمة، وظلوا سكوتاً، بينما كان الآخرون من أنصار فرعون ومريديه، وممن يستفيدون من ولائهم له ويستغلون وظائفهم لمصالحهم ومنفعتهم فهؤلاء أجابوا فرعون « قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ. يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ » الآيتان (36-37- الشعراء). وأعجب هذا الرأي فرعون فقال لموسى: « فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ »الآية(58- طه).
وطبعاً جميعنا يعرف ماذا حدث بعد ذلك، وما هو الحوار الذي دار بين السحرة، ثم الحوار الذي دار بين السحرة وموسى. ولكن الذي يهمنا هو الحوار الذي دار بين موسى وفرعون وكيف تعامل معه القرآن الكريم، وبيّن ما هي آداب الحوار البنّاء والإيجابي. ونرجو أن نكون قد وفقنا في هذا الأمر، والذي كنا نود أن نتوسع فيه، ونأتي بأمثلة أخرى من القرآن الكريم ولكن المجال في هذه المقالة القصيرة لا يتسع لأكثر مما ذكرنا.
المصدر : الباحثون العدد 71 أيار 2013