بالذنب فضيلة، ولكن أين، ومتى، وأمام من نعترف؟، هل يكفي أن نقف بين يدي الكلّي الأزلي، أم بيننا وبين ذاتنا ضمن عقلنا الباطن، أم لصاحب الحق علينا، أم نذهب إلى الجهات الوصائية على الماديات لنعترف أمامها بالاحترام أم قسراً بأننا فعلنا كذا وكذا، وأننا لن نعيد الكرَّة، أم نعترف لزوجاتنا أو لمن نحبُّ ونعشق؛ للاّتي يمضين عمرهن وهنَّ ينتظرن لحظة اعتراف واحدة من أزواجهن أو عاشقيهن؟ والعكس يفترض أيضاً أن يكون منتظراً، ولكن الرجل نادراً ما يطلب الاعتراف ممَّن يحب، والسؤال الأهم الذي يفرض نفسه: ما هو نوع الفعل المقترف ،وهل يستحقُّ الاعتراف وضدَّ مَن كي نعترف أمامه؟.
فلنستعدّ للاعتراف بأن كلّ واحد منّا ارتكب خطيئة ما في غفلة، أو صحوة، أو دون قصد، ولا أتحدث عن تلك الخطايا المنفَّذة عن سابق إصرار وترصّد، والتي يعاقب عليها القانون مباشرة؛ بل أتحدث عن الخطايا والذنوب غير المعلنة والتي تجري خلف الأنظار، نمارسها ونحن نسير ضمن مساحة عمرنا الزمني المقدَّر علينا دون إرادة منّا، وإلاّ لمَا قال السيد المسيح: من منكم بلا خطيئة فليرجُمْها بحجر، وأيضاً محمد عليه السلام غابت عنه الحكمة الإلهية لحظة (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأَعْمَى)، وفي المستند كلُّ ابن آدم خطّاء وخيرُ الخطائين التوابون، فكيف يتوب البشر والإغراءات المادية تلاحقهم؟ والإنسان اختصاص البشر، أي: متطور ومتحوّل من شريعة الغاب إلى جمال الأنس؛ الذي يحتاج وجود الأنيس، فما حالنا اليوم والخطيئة تتناهب عقولنا، وفعلنا، وأفعالنا، وبصرنا، وبصيرتنا، إلى أين نحن ذاهبون ضمن رحلة الدرب الطويل؛ التي يلتقي بها الخطان المتوازيان نظرياً؛ وكلما اقتربنا منها ابتعدت عنّا تحرِّك في عقلنا أسئلة الذهاب إلى من نعترف .
هيا بنا نعترف، ولربما يخفض الاعتراف جناح الذل، فتعلو الرحمة التي تظهر قدرة العفو من مالك القدرة والمقدرة على اختلاف أشكاله ومكانته، لم يسلم جميع الإنسان من الخطيئة، ولكن هناك الخطيئة المسلَّم بها وأعني: أن الإنسان بطبعه وتكوينه خطاء، بكونه مستعجلاً، والعامة أي الكثرة خُلقت من عجل مسرع على مسارات الحياة، لا تريد التوقف وغير ممتلكة للتأمل، ولا تمنح للعقل مساحة التفكر، لا تنتظر الوحي بين نقطتي البداية والنهاية مع أي أمر، أي: تتجاهل الماضي، وتحاول اقتناص المستقبل بسرعةِ ولهفةِ المتشوِّق الجاهل، من كل ذلك أدرك معكم أن الإنسان غير كامل، والخطيئة نقطة مهمة من تكوينه المثلثي، والدائري، فهو ثلاثي الأبعاد، ورباعي الطباع، سباعي التكوين، تساعي النشأة، وُلد وظهر، بلغ وشبَّ وتبلّغ الحكمة، بعد أن سعى إليها، وفعل كما يفعل جميع جنسه، بكون الجميع يمرُّ بما مرَّ، وحينما يصل الكهولة قبل أن يشيخ يشعر وهو في الطريق إلى النهاية أن الجميع واردوها، وفي سياق الحديث أقول: إن يقين الإنسان لا يحب أن يعترف، وبما أنه يحمل صندوقاً أسود في صدره ربما يعترف له، وكثيراً ما يحاول أن يتناسى خطاياه، فيضعها فيه، لا يريد أن يتذكرها أبداً. الإنسان يحبُّ الحب الذي يحبه الإله، بكونه الحب الذي يحب الاعتراف له وللآخر، فالهوى هو، وبدونه لا هو ولا هوى، أي لا أنا ولا هو. إذن، لم يكن الاعتراف إليك أيها المتسلسل مثلي، أفسِّر ما تريد أنت تفسيره، أراقبك وتراقبني، ولذلك أنت وأنا نرى خطايانا، ونحاسب بعضنا عليها، فتعال معي أينما كنت، ولندعو معنا الجمع للاعتراف، من أجل ماذا؟ من أجل أن يظهر بريق الروح وتجلياتها، والغاية من كلِّ ذلك ورود منهل النقاء والخلاص من حضرة العماء، والوصول إلى البصيرة؛ التي تخلِّصنا من بصر الرذيلة أي (الخطيئة) .
من أجل كلِّ ذلك؛ أسألكم لمن نعترف، وعلى أيِّ مذبح نقدِّم قرابين توبتنا، أي ختان شهواتنا وإسالة الدماء الفاسدة بالفصد، أو بالحجامة دون القضاء على أسباب وجودنا، والغاية الوصول إلى الاصطفاء، هل تعتقدون أننا سنصل إليه؟ ربما نصل إلى التوحُّد دون الكمال، فالكمال للإله، وطلب التوحّد ليس لقاء السالب بالموجب، وإلاّ لمَا حدث الانتقاء، ولكن الموجب بالموجب بالتداخل، أي ترميم النقص الحاصل بين الطرفين، هنا تظهر نظرية الكمال بعد الاعتراف الزائد والناقص، فما فاض لا حاجة له إن لم يجد متسعاً يحتويه، مرة ثانية وثالثة تعالوا نفيض بالاعتراف على بعضنا، ولبعضنا، ولكلِّنا، فالقصاص ينتظر الجميع، وفي ذات الوقت تكمن فيه العبرة كي يكتمل المشهد، وتظهر الصورة، وما نقص منك اعترف به كي يملأك الآخر المعترف بفضائلك، حيث تظهر وحدة الوجود من جودة الموجود، لماذا أعترف، ولمن، ومن أجل من؟، من أجل الأرض والإنسان واستمرار الحياة.
الاعتراف يحتاج استحضار الذاكرة، والبحث ضمنها عن الذنوب والخفايا، لا يتطلب الأمر إلا لحظات تغمض العينين فيها وتتأمّل، إن لم تستطع سردها للآخر، فيكفي أن تقوم بكسرها، أي كسر الاعتياد عليها، والغاية أن تحصل على الفضيلة .
د.نبيل طعمة
المصدر : الباحثون 35 - أيار 2010