بعد عين، والعين هي مسافة زمنية وبصرية غير محددة ومحدودة، تلتقط شكل الإنسان أي حياته المشاهدة من المحيط بين نقطتين، يبحث خلالها عن إنجاز بقائه كأثرٍ في لحظة لا تدرك، بكون النقطة الأخيرة أو ما نسمّيه نهاية ما تختطفه على غفلة منه، أي: أنه ينتهي بقاؤه المادي ضمن الظهور في معناه الحي، فإذا تفكّر قبل رحيله الخاطف، وأدرك أنه سيبقى أثراً بعد عين، وأقصد حين زوال صورته من أمام الرؤية المحيطة، وتحوّله إلى ذاكرة، جاهد للبحث ضمن مسيرة حياته، كيف عمل من أجل الأثر الذي سينظر إليه المستمرّون والقادمون، بعد اختطافه من ذلك التكاثر الذي حوّله إلى شكل مادي، منشئاً الهوس بترك شيء ما يبقيه ضمن مسيرة الحياة مثلاً عبر الفنون السبعة، أو ابتكار أشكال وأشياء يتمّ تداولها زمنياً أي تحتاجها الحياة .
والأثر ذرات تسكن شعاع الشمس الذي يخترق حضور الحياة الحيّة، يراها المتبصّرون فيعلمون بكمية الولادة المطلوب إنجابها من ذلك البقاء أثراً إيجابياً لا سلبياً، والذي انتشر فيه متحولاً إلى ذرات، فطبيعة الحال تدعو كلّ فرد يحيى بين الزمان والمكان بالخلود الذي يتصوره بالتناسل، ولعلّ علم الوراثة يكشف ذلك بدلائل علمية، تشير إلى انتقال الصفات عبر الجينات ضمن صيرورة وجودنا على هذا الكوكب وسيرورتنا، ليظهر ذلك شكلاً من أشكال الأثر المنشود سلباً أم إيجاباً؛ وإلاّ إلى فناء.. إلى اللاوجود.
حالة من التفكّر أعتقد أنه من الضروري المرور بها والتوقف عندها، وإنشاء أسئلة صغيرة وكبيرة على نحو: ماذا أريدُ من الحياة، وماذا تريد الحياة مني، ما هو المطلوب، ما هي آلياته، من المسؤول عن وجودي حتى لحظة امتلاكي لقراره، وبداية القبض على زمام الأمور من أجل السير في رحلة التكوين؛ التي تتجسد في محاورها من لحظة التفكير به إلى الوصول إليه، حيث يتحقق، والطلبات مستمرة، فهل تأخذ هذه المكونات جلَّ حياتنا وهل نخلص لها، أي نخدمها بأمانة وقناعة الرسالة التي تحملها، أم أنها تتزايد وتتراكم لتتحول إلى أعباء تنمِّي شرَّ الإنسان، أي أنها تستلب قناعاته ليتحول إلى شرِهٍ وجشعٍ ويتناسى أنه مغادر في لحظة ما منها.
جميع من مرَّ على وجه البسيطة الساكن رحل وغدا أثراً بعد عين، على الرغم من محاولات البقاء خلوداً مادياً، والغاية الحفاظ على الجسد والممتلك، والأملاك التي جُنيت ضمن مساحة البقاء المقدرة؛ لكنَّ نظرية الرحيل إلى العالم الافتراضي هي التي تنتصر دون حمل أي شيء، حيث لا يذهب معه إلا قيمة عمله اللامادي، إذ يبقى أو لا يبقى أثراً بعد عين، والذي يحاول الجميع البحث عنها من بعد أيام جلجامش قبل آلاف السنين، وحتى اللحظة المعاشة التي نتداول فيها حواريتنا هذه، بحيث امتلك الوعي الإنساني تطوراً علمياً سكن العقل الإنساني حديثاً، ليعرف أن لا خلود مادياً إلاّ لذاك الكلّي المحيط اللامادي السرمدي الأزلي. فإلامَ نسعى ضمن مفهوم الخلود والبقاء أثر بعد عين، أو حين، فالحين زمنٌ أي: حينٌ من الدهر، والعين مساحة التفتح والمتابعة إلى أن تغلق، لكنهما يتحولان إلى لامادي فيبقيا في الذاكرة الإنسانية طالما الإنسان مستمر مثله مثل سباق التتابع، يسلّم بعضه بعضاً رسالة الحياة، فإن لم يستطع سقط إلى هاوية تمنع استذكاره، بكون التتابع ضمن حركة التسارع لا تُسجِّل إلاّ من يجيد التسليم، وهو الذي يبقى أثراً بعد عين أو حين.
ما هي القيمة التي نرمي وننشد الوصول إليها في هذه المعاني، ونحن نتداول المسير الإنساني، أي: البقاء أثر بعد عين، هل قدّر أحد من هذه الكثرة والتكاثر الإنساني حوارية بقائه أو بقاء إنسان؛ على الرغم من البحث المديد ومذّاك التاريخ الموغل في القدم، من تلك النشأة الأولى، وآدم الذي طلب أن يكون عمره ألف عام، وحين اختُصر منه أربعون عاماً سأل عنها، فأجيب أنك منتهٍ لا محالة .
إذاً، هي الحياة مقدّرة، قادمة من أنّ كل شيء خُلق بقدر، حيث تعني لنا أنها مسافة تقاس بين نقطتين، أو شعاع يبدأ بالشين وينتهي بالعين، فلا محالة أننا منتهون، والإشكال: هل نتفهّم ماذا تعني لنا النقطتان، أو شين التي أصلها سين، وعين المتطورة إلى عين المتولّد منهما مفهوم شغل الحياة بالإيجاب، أي ملأها بالحبِّ والعمل الإنتاجي والتكوين، وبدون ذلك يعني أننا ذاهبون إلى نهاية الهاوية التي لا تُبقي ولا تذر، وأننا لن نكون أثراً بعد عين، ولن نعيش في فكر الآخر القادم بعدنا، فلا تهمّه رسالتنا ولا يهتمّ بذكرنا.
ماذا يجدي نفعاً أن نستخلص الحليب من ضرع مهمّ للحياة، ومن ثمّ نرميه بالأوساخ، أو أن نشرب من بئر ونرمي فيه الأحجار، هل سنبقى بعد كل ذلك أثراً بعد عين، أم تذرونا الرياح لنضيع ولا يبقى لنا أثر؟!.
د.نبيل طعمة
المصدر : الباحثون العدد 46 نيسان 2011