يحدث لحظة تجمّع الذرّات المرئية بالمجهر، وحركاتها السريعة اللامرئية في المظهر، يحوّلها التكثيف إلى شكل مادي، ويعيدها التلطيف إلى اللامادي، فتغدو بحثاً يستحق إنجاز سؤالٍ على نحو: هل يستطيع الإنسان أن يحلّل المادي إلى لطافة، أي إلى أسُسه وأساسه الذرّي، فينتقل من عالم أعلم إلى عالم أتبصّر؟ والغاية أن يدرك ما يدور حوله، أي أنه حالة المتحلل الذرّي، يدور حوله المتكثف، صاحب الشكل النحتي، الثابت في الجوهر، السائر في المظهر، والغاية فهم آلية وجودنا، فما معنى أن تمضي وتبقى، أو تبقى ولا تبقى؟.
الروح تتكاثف في الجوهر الإنساني، نطلق عليها "الذات"، فإذا تحلّلت إلى ذرّات انتهى المادي، بمعنى أنها تخرج من حالة الانضغاط إلى حالة الانفلات، فبعد أن كانت سائلة في الجسد المادي أو قُمقمها الشكلي؛ الذي يفتحه الكلّي لحظة حدوث التعب النهائي والحاجة الماسّة للاستراحة الأبدية، يفتح صمّامها لتعود إلى حالتها الذرّية وهو عالم لطافتها، فحينما نضغط الغاز يتحوّل إلى سائل نراه ونستفيد منه، وحينما نُفلته نفقد شكله ولونه ورائحته، فلا يضيع في الفراغ؛ إنما ينتشر فيه، كما الصوت الإنساني حينما يصدر عن المتكلم يتحوّل إلى كتلة حجمية، فإذا عرفتَ تردّداته استطعتَ أن تعيده، كما ينبغي أن نعلم أن الكائن الحيّ- وأخصّ الإنسان- يستبدل يوماً ما يقرب من خمسين بليون خلية حيّة، يستقبلها وينتجها في جسده، بعد أن يكثّفها ويمنحها أماكنها من أجل استمراره، وتغادر منه أيضاً ما يعادلها، لتتنشط خارجاً ومن ثمّ تعود إليه، بما يقودنا للقول: إن الإنسان لا يستقرّ إلا عند تمتّعه بحالتي التكثيف والتلطيف، فإذا اختلفا ولم يتجانسا فقَدَ مصداقية حضوره، واهتزّت صورته، فحينما ندعوه للتصالح نقصد تحوّله إلى شفّاف أي فيض الجوهر على المظهر، فالجوهر هو اللطافة، والمظهر هو الكثافة، وحينما تُجرح الكثافة تهتزّ اللطافة، وتظهر ألوانها على وجوهنا ألماً وحزناً، أو تعباً ومرضاً، تعيدنا إلى حالتها فيتأثر المحيط الذي يتفاعل معها .
هل تستطيع أن تتلطّف بأن تنفلت من كثافتك، تتجوّل، ترى ما ترى، ومن ثم تعود إلى طبيعتك المادية؟، أيضاً، أليست العملية الفكرية والتفكرية قادمة من عملية تكثيف كبرى، يقودها الخيال اللطيف، وهو الذرّي، تتحد معه من انطلاقها في حالة انتشار بعد أن تكثّفت وتجمعت داخل الفكر بعدها تعود إليه ككتلة حجمية. هل الروح حالة لطافة، والجسد حالة كثافة؟، وكثافته قريبة جداً من كثافة الماء اللطيف، لذلك نراه يستطيع السباحة عليه والغوص فيه، كتلة حجمية كثيفة تحمل لطافة داخلية خفيفة، تتشابه مع السفن الفولاذية المظهر والمملوءة بالهواء في الجوهر.
انظر إلى إنجازك بعد أن يتكاثف منك وفي أعماقك، يتحوّل إلى نواة أو بذرة أو نطفة، تنشئ حبة يظهر منها زهرة أو شجرة أو إنسان، إنه استمرارك، حيث تحوي هذه النطفة كامل تكاثفك، وجلّ لطافتك تخرج منك إلى الحياة، لتنثرك بعد تكاملها ذرّات تظهر في أشعة الشمس، وضمن تجوال الهواء، تتذكرك كلّما استنشقتك، تتحدث عنك بلطافتها، وأنك تلطّفت بعد أن انتهى تكاثفك في جوهرها .
وبما أن الكون ظهر من خلال إرادة الكلّي المحيط، وعلمية المخلوق العقلي الرئيس في هذه الحياة، وأخصّ جنس الإنسان صاحب عملية فهم التكاثف، نتاج الانفجار الكوني العظيم، أو الانفطار من الرتق، وتحوّله إلى طاقة غبار ذرّي ودخاني، واحتياجه لزمن أدى إلى ظهوره، وانبلاج النور ما بين السماء والأرض، ممّا يدلنا على أن حالة التكثيف والتلطيف تسكن بصيرة وبصر الإنسان، المتطلّع والناظر إلى مسيرة حياته، وقناعته بأنه قادم من كثافة تسكن بها اللطافة، فإذا لم يفهم تكثيفه فقَدَ لطافته، وظهر بمظهر البشري الحامل للغة الشرِّ لا لغة الخير.
هلّا تأملنا حياتنا المكثفة جداً، فشكلها كشكل مادة الحديد الصلد، يخدش قوّته الزجاج الرقيق، والذي تكسره حصاة صغيرة جداً، ويخدشه الألماس الكربوني الذي يحترق؛ بكونه لا يمتلك الكثافة بمستصغر الشرر، بالتالي حينما يتّجه إلينا ينهي تكثيفنا، فأين نحن من كلِّ ذلك؟! .
د.نبيل طعمة
المصدر : الباحثون العدد 47 تاريخ أيار 2011