احتاجت الكلمة للصوت والمقارنة كي يكون لها صدى، فإن لم يكن لها ثنائية الصوت والصدى ذهبت أدراج الرياح، أي كان من الضروري أن يكون أمامها إنسان، وشجرة، وماء، وسماء، وجبال، وهضاب، ووديان، وحيوان، ونبات.. فحينما انطلقت صدمتهم، والتصقت بهم، فعرف بها وقعها، كما عرفت كامل الأشياء الحيّة- الجامدة- الساكنة- والمتحركة بتنوعها وأسمائها، من كل ذلك نجد أنها كانت البدء بذات عينه، ومن ثم قرأها الإنسان بعد أن عرف أنه كلمة نطق بها ودونها، ثم عاد ليقرأها من جديد، فكانت وجوده وموجوده، فهمه البصري المتحول إلى الصور العملية، لذلك رحل هو وبقيت هي، وبما أن الجسد مادي والكلمات روح تتشكل من مجموع معلومات العقل، وحركات اللسان والشفاه وما نطلق عليه الأوتار الصوتية؛ وجميعها تحتاج الهواء الطبيعي الموجود داخل الجسم وخارجه؛ بعد أن يتم استنشاقها ليدفع بها إلى المحيط علَّ أحداً يلتقطها ويتداولها، وبما أنها متشكلة من أوتار (الحبال الصوتية) فهي لا تفنى إلا إذا لم تستطع أن تدخل السطور، فاللامادي جوهر لا يفنى، ولا يُقدَّر بالمادي، ولحظة انتهاء المادي يتحول اللامادي الساكن في داخله إلى مادي لا مرئي ومرئي في آن، لذلك كانت حقيقة الحياة خالدة، حاول الإنسان فهم خلودها كي يخلد، لم يستطع الخلود بكونه مادياً، تفكر وامتلك بعضاً من قدرات فهم اللامادي، أي: سعى لخلوده بالأثر، والأثر مادي ولا مادي، كلمة حقيقية قوية علمية مبهرة، أو فنية جميلة لا مادية، تطلق على فعل مادي، مثل بناء تاريخي، أو حضارة قديمة مشيدة شاهدة، أو منطوقة مرسومة على السطور، أو منحوتة في الصخور، أو آبدة تشرئب لها العيون، وجميعها كلمات تشكلت من إنسان مادي خلدته لأنها لا مادي، وحينما نقول "من أقوال فلان الباقية" أي: اللامادي من بقائه، أو نطلق عليها الخالدة بعد فنائه، فهي خلوده، كأن نقول من أقوال يسوع السيد المسيح، أو محمد عليه السلام، أو ابن عربي، وابن خلدون، والرازي، والطوسي، وابن الهيثم، ونيتشه، وبودلير، وأرخميدس، " قال فلان" ونستشهد بقوله حياً أو ميتاً، فهي التي تعيش وتبقينا في الحياة خلوداً أثراً بعد عين سلباً أم إيجاباً، فالذي قتل أرسطو بالسمِّ خاطبه هذا الفيلسوف قائلاً: "سندخل أنا وإياك التاريخ والفرق بيننا أنني عالم وأنت قاتل مأجور". هي كلمة عاشت ليس لهذه اللحظة وإنما ستعيش إلى ما سيأتي من الزمن.
استشعرْ أيها الإنسان بقيمة وقوة كلمتك ومعناها، واعلمْ أن الكلمة مكعبٌ مادي منظور من عين الآخر وسمعه، نحاسب عليها بعد ظهورها من عمقه وعبر الشفاه، أي أنها مجسم إنساني روحه حقيقتها، تنمُّ عنه مثبتة أفعاله، والتي نقول عنها الأقوال التي تتألف من الكلمة، كما أننا ندعوها الإنسان، هي أصغر وحدة لغوية، وأول اللغة ونهايتها، فبها نبدأ؛ من نون والقلم وما يسطرون وبها نختم، أي النهاية: كل من عليها فان (Finish) (Fin) ( Fine)، لم يعرف البشر أنه جنس إنسان إلى أن نطق الكلمة الأولى، ومنها كان البدء، وبالاستعانة بالمقدس في البدء كانت الكلمة، ومن ثم اقرأ، أي أن الإنسان ما كان ليكون لو لم ينطق بها، لذلك هي لا مادي حولت الإنسان إلى وحدة فهم الوجود واستيعابه، ومن ثم الانطلاق إليه بعد إطلاقه تلك الكلمات على المسميات؛ التي عرفت بها فعرفها التسلسل الإنساني، وإلا لكان السكون، وما كان ليكون، وكن فيكون، إذاً هي تدل على كن ويكون، بكونها عُرفت في الجوهر، فخرجت إلى المظهر، ودلت على المفرد والبضع والجمع، وفي ذات الوقت هي فعل افعل، ومدخل للمعرفة والتعارف والعرف والأعراف، فلو لم تكن لما كان الإنسان، منها نستدل على أنها تشكل الكشف والصورة في عين الوقت عن الطبيعة البشرية والإنسانية، وبدونها لا ظهور لتلك الطبيعة، ولا بيان عن المبادئ التي تحدد سلامتها وقوتها وحضور شخصية الناطق بها، فهي العلم، والجهل، والعالم، والعارف والمتبصِّر، وفؤاد القلب، وعين العقل.
د.نبيل طعمة
المصدر : الباحثون - العدد 50 آب 2011