تتقدمه لغة خطيرة، مدعوّون جميعنا لفهمها، من باب أن أهمّ مفرداتها ترتكز على الحرب النفسية المبرمجة، والقادمة من عالم الشمال، المتكون من أوروبا وشمال آسيا وأمريكا الشمالية واليابان، ومنها كانت الدول الخمس الدائمة العضوية: أمريكا. روسيا. فرنسا. بريطانيا. والصين ومعناها الخفي القبضة، بحكم أن في اليد خمسة أصابع، ففقدان إصبع منها يعني الفشل لحظة إجراء عملية القبض على الأشياء، أو الدول ومقدراتها، ومصادرة قراراتها، وبتمامها تمت السيطرة على القرار السياسي العالمي، ومن ذلك العالم أيضاً. تمّ تشكيل مجموعة الدول السبع، والتي تهدف لاكتمال عقد التكوين، أي: الجنين القيصري الذي يحيا بقوة الإنعاش، واختيار سبعة يستند إلى علم الروح صاحب حامل أسرار الحياة، والذي يضمّ محتواه النشأة الأولى والمستمرة ضمن حياة الشعوب، ولذلك يقولون: "الكل يربح إلا الرقم سبعة يخسر"، والقصد أن جميع العالم يخسر، إلاّ السبعة المكوِّنة لهذا التجمّع فهي تربح، ومن ثم كانت مجموعة السبع زائد واحد، أي: الثماني، وفيها تسكن أهداف السيطرة النهائية على العالم، ومن خلال لغة قف أوstop الموجود ضمن المثمّن المنتشر في جميع شوارع العالم وإشاراته كدلالة تنبيه ومراقبة، وبها أيضاً صورة عالم الشمال المتجلّية بلون الرجل الأبيض؛ الذي دخل عالم الجنوب من الشمال كإله وعلى جميع شعوب الجنوب الخضوع له. وكلّ ذلك من أجل استلاب كامل مقدّرات عوالمه اللاتينية والإفريقية والآسيوية، وعلى الرغم من أن هذه المجموعة والمؤلفة من الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وألمانيا وروسيا الاتحادية وإيطاليا والمملكة المتحدة البريطانية وفرنسا، وفي عام 1976 انضمت كندا، وبها غدا المجموع ثماني، ولا يساوي عدد سكانها مجتمعة أكثر من 14% من سكان العالم، غير أنها تعتبر مالكة لما يقرب من 70% من مجموع الاقتصاد العالمي.
إذاً، لماذا أدخل من باب الغزو الثقافي كعنوان ما نرِد إليه، وما معنى أن نشرح ونحلّل صورته الواضحة والجليّة، ولماذا نخوض غمار ما قدّمناه، هل من أجل فهم جوهر العلاقة بين معاني الغزو الساكنة كمفردة في عقولنا - حيث أدواتها الحربية ونتائجها القتل والدمار والخراب - أم من أجل الثقافة التي يحاول عالم الشمال تحويلها إلى استهلاك، إذ لا غاية له إلاّ تحقيق فلسفته القائمة على تدمير الفكر الخلاّق في العقل العربي؟، القضية في جلّها البحث عن مستويات امتلاكنا لمفاهيم الثقافة وآليات عملها، وهل نحن مؤهلون حقيقة لامتلاك نواصيها؟!.
إنّ ما يعملون عليه مبرمج ومخطط، وليس وليد اللحظة، أو الآنيّة التي يقول البعض إنها تفرض ظروفها؛ إنما هي أفعال هادفة وشديدة التركيز، وقد أمضوا الكثير من الزمن، وأنفقوا الباهظ من المال وبسخاء إلى أن وصلوا إلى إظهار نُظمها الخفيّة التي تُنفَّذ بهدوء عالٍ وتقتل بدمٍ بارد وتتقدم على جثث وأشلاء ضحاياها، فرويداً رويداً نجد أن الغزو الثقافي يُنجب الصراعات المحلية والإقليمية، بعد أن يخترق الأمان والخير، يحوِّل الأول اضطرابات وشكوك، والثاني إلى عداء وشرور، وبينهما لا يوجد خيار أو حلول وسطى، بمعنى أن العالم الثالث أو عالم الجنوب عليه الاستعداد الدائم لاستقبال كافة أنواع الغزو، بدءاً من الاستباحة الحربية والاحتلال والتغيير بالقوة، أو الاستجابة لتدمير الرؤى الفكرية عبر تفكيك الجمل الثقافية التي تنمو في جوهر الأفكار بما تحمله من حضارة وتاريخ وجماليات.
كلّ هذا يدعونا للتفكّر بالرقم خمسة، القابض الأوّل والأخير على ما يسمّى الأمم المتحدة، والتي تم إنشاؤها من أجل إخضاعها لقوة الخمسة بالقوة القابضة عليها، أي: فلسفة اليد، ومن ثم الانتباه للرقم سبعة ومجموعة الدول السبع، والنهب الهائل لاقتصاديات العالم أجمع، والرقم ثمانية الذي يوقف ويسيطر أيضاً على كامل العالم بقواه الهائلة. غزو ثقافي غايته إبقاء العالم الثالث مستهلكاً، وأيُّ ثقافة يمتلكها عليه أن يعنونها بثقافة الاستهلاك، أي أن هناك فتحاً يتكوّن من مجموعة السبع زائد واحد = ثماني، والقبضة تحمي تلك الأرقام.
والمطّلع على التكوين الفلسفي التي تقوم عليه أمريكا، يعلم كيف أن استجماع الفكر العالمي والجهود الفكرية الفردية الكبيرة القادمة من دول عالم الجنوب من خلال سفاراتها المنتشرة في العالم، تتجمع في مركز الدراسات القومي في واشنطن، ويعاد إنتاجها كإبداعات أمريكية، وهذا مالا تتنبه له دول عالم الجنوب، وأيضاً علينا أن نعترف إن لم نعمل على تطوير ثقافاتنا ذاتياً فسنبقى تحت فكرة الغزو الدائم، وهو المنظور الأول والأخير لعالم الشمال.
غزوٌ ثقافيٌّ يحمل في طيّاته إرادة واحدة "أن تبقى شعوب عالم الجنوب متمتعة بالدين العاطفي ونقد الواقع والاعتراض عليه"، كي لا ينمو ولا يتطور ولا يتقدم .
د.نبيل طعمة
المصدر : العدد 61 تموز 2012