معنىً سكنت به قيم المعاني جميعها، ليعيش بين المتداول من الشرائح الإنسانية؛ المتفردة بلغتها المنطوقة والمسموعة، والمتميِّزة أيضاً عن باقي المخلوقات الحيَّة؛ التي لم تمتلكه بحكم ظروف علاقات الغاب؛ التي تنفي شرعة الحق، حيث لا جاني ولا جُناة ولا معتدي على الحق، ولا آكل ولا متجاوز للحقوق، فكل شيء ينتهي في لحظة، والكل يذهب في طريقه، بينما عند الإنسان يعلو ولا يُعلى عليه، لماذا هو كذلك؟ وفي المنطق بعلمه الواسع يتجسَّد في الله والموت، بكونهما حقاً. وأيّ حق نتحدث عنه، ومن نحن جنس ومعشر الإنسان حتى نعرفه، وما معنى "حتى" التي بحث بها سيبويه، ولم يصل إلى مفهومها الحقيقي؟ منه نلاحظ المعنى الدقيق الذي نسعى إليه، والذي لا يمكن أن نطلق عليه كلمة "مصطلح"، بكونه أزلياً عرفه، وعرفه الجنس الإنساني لحظة حدوث التعدي على مكوناته الحقيقية، بدءاً من الجسد وانتهاءً بالمادة، أي: التكوين الحقيقي، أياً كان شكله، عليه نلحظ: أن فلسفة الضرورة تدعونا لفهم أسباب وجود هذا المعنى التكويني؛ الذي سكن الجوهر، وحمله ضمن مجرياته العقلية والقلبية وشرايينه الدموية، يطالب به المظهر لحظة شعوره بالانتقاص من حقه، وأنه لم يصل له، ولذلك يسعى إليه قائلاً : لا يموت الحق وخلفه مطالب، وقال السيد المسيح: " أنا هو الطريق والحق والحياة " .
حق الفرد بكامل أشكاله المعنوية والمادية، والأسرة، والمجتمع، والدولة، والأمة، والأمم، فكيف يموت وهو الحق الإله والمصير، كيف ينتهي، وهو الاستمرار اللامتناهي الأزلي السرمدي، وكيف يُقهر الإنسان به بما يوحي القول:( سبحان من قهر عباده بالموت ) أي ( بالحق )؟، كما تحدث عليٌ المكرم من العلي القدير: " الله حق وقوله حق وهو الحق المبين والموت حق". معادلة أضعها على مائدة علم التفكير والتفكُّر؛ القادم من التأمّل دون أدوات مادية، والغاية أن ندقق في المعنى الحامل لأسباب الوجود، وفهم الموجود ضمن لغة عالمية، خافت ممّا تجهل، فكرهت الموت المجهول بالنسبة لها، إلى أن يعلم جميعنا مرَّ ويمرُّ وسيمرُّ بخضوعه لمشيئتها؛ المتمتعة بلغة السيطرة على الوجود الذي لا مفرَّ منه، لأنه يسكننا ولا نسكنه، نتحادث عنه دون امتلاكه، فهو ما وقر في القلب وصدقه العقل ونفذه العمل، فإذا توافق مثلثه حدثت رؤيته في الجوهر الذي يتجلّى على المظهر، راسماً الهالة المنجبة للوقار، نتمتع به حين إيماننا بأنه حق لنا، وعلينا أن نعيده إن لم يكن لنا، فإذا انتفى زالت صورة الجوهر، لنتعرّى في المظهر، ونفقد قيمة وأسباب وجودنا، هذا يعني القهر والتقوقع لحظة عدم الحصول على الحق، أعطني حقي وخذ حقك، وأعد له حقه، فهو محرَّم عليك لأنه حق له ، ومن يؤمن بالحق لا يموت وإن فني جسده.
كيف تكون صاحب حق، وهل أنت، وأنا، وهو، ونحن حقيقة أصحاب حقوق، ماذا يعني لنا الحق، هل نكفّر حينما نطالب به، أم أننا نتعدّى عليه مجيرين إياه بالتعدي؛ ما معنى وقوف الحامل لشهوة الحسد، والغيرة، وحبِّ التملّك، والرؤى الوهمية أمامه، ومحاولة اغتصابه بالهيمنة، أو القوة المفرطة، أو القوة المدعومة من قوى لا تمتُّ لفهم الحق والحقوق بصلة، ولا تؤمن بها لا من قريب ولا من بعيد؟، فهي في الأساس قادمة من لغة التسلّط، وهذه اللغة لا تعرف الحق، لأنها لا تحب إدراك الحقيقة، ولا تتمتع بإرادة الوصول إليها، لماذا مرة ثالثة ؟ لأنه جوهرها .
ماهي الحقيقة التي لا جدل ولا شكَّ فيها، هل هي جوهر الحق، أم أنها ثنائيته المتجسدة في ( البداية والنهاية )؟، فإذا كانت البداية قادمة من الخالق الأزلي، والنهاية هي المخلوق؛ إذن، الحق هو البقاء، والموت هو الفناء، فالحق لا يموت، إنما يموت من يظلم الحق، وما بينهما مسيرة تحمل منظومة الوجود باستمراره وعدمه، من ذلك نصل إلى مفهوم: الوجود والعدم، الصواب والخطأ. الحق والحقيقة المسؤولان عن إنجاب الحقوق ومنحها وإعادتها .
د. نبيل طعمة
المصدر : الباحثون العدد 36 - حزيران 2010