علاقتي بالتاريخ، علاقة وشيجة، متينة، عمرها أكثر من أربعين عاماً، واطلاعي على جوانبه المختلفة، ساعدني على الكتابة، لأن الكاتب لا يستطيع مهما بذل من جهد، الدخول في عالم الكتابة، ما لم يكن واعياً ومدركاً جوانب تاريخه القديم والحديث، والكتابة التاريخية تتطلب التحقيق والتأكد وحسن الاختيار وفق منهجية علمية ورؤى واعية لأهمية ما يقرأ ويكتب.
قراءة التاريخ مهدّت لي الطريق الولوج في مجالات عديدة ومواضع غنيّة، فيها الفائدة والمتعة والعظة، اخترت من التاريخ، أقربه إلى الصحة، وأبعده عن التعصّب والتحزّب، والأهواء، وفي كل قراءة إذا لم أجد فيها ما يخدم حاضري ومستقبلي، عفتها، وبحثت عن غيرها حتى أجد ضالتي ومبتغاي في خدمة قضايا أمتنا العربية وحضارتها المجيدة، فالتاريخ الذي لا يستفاد منه، لا حاجة لنا به، وهذه بعض الأمثلة، مما يمكن أن يؤخذ من التاريخ ونختار منه:
تذكر كتب التاريخ العربي أشياء كثيرة عن السلطان نور الدين محمود زنكي، وأكثرها تتحدث عن كفاحه وشجاعته ونبله وزهده وعلمه، وقد وجدت في حادثة واحدة كل ما يختصر خصاله، فقد كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف في الذي يخصّه، إلا من ملكٍ كان له قد اشتراه من سهمه في الغنيمة، ومن الأموال المرصدة لصالح المسلمين، وقد شكت إليه زوجته من ضائقة، فأعطاها ثلاث دكاكين في حمص كانت له، منها يحصل له في السنة نحو عشرين ديناراً، فلمّا استقلتّها قال: ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه، ولا أخوض نار جهنم لأجلك.
وهذا مثال آخر، أورده «ابن الأثير» في كتابه الشهير، الكامل في التاريخ، عن السلطان صلاح الدين الأيوبي:
«كان مرّة قد مرض مرضاً شديداً، أرجف عليه بالموت، فلما برئ منه وأدخل الحمّام، كان الماء حاراً، فطلب ماء بارداً، فأحضره الذي يخدمه، فسقط من الماء شيء على الأرض، فناله منه شيء، فتألم له لضعفه، ثم طلب الماء البارد أيضاً فأحضره فلمّا قاربه سقطت الطاسة على الأرض، فوقع الماء جميعه عليه، فكاد يهلك، فلم يزد على أن قال للغلام: إن كنت تريد قتلي فعرفّني ! فاعتذر إليه، فسكت عنه.
وأما كرمه، فإنه كان كثير البذل لا يقف في شيء يخرجه، ويكفي دليلاً على كرمه، أنه لمّا مات لم يخلّف في خزانته غير دينار واحد صوري، وأربعين درهماً ناصرية».
التاريخ ميدان واسع من ميادين المعرفة، موضوعه الإنسان والزمان، وفائدته معرفة الأمور على حقيقتها، وقراءته ليست حصراً على الاختصاصيين بل هي ضرورة لكل مواطن، لأن من يجهل تاريخه، يجهل حق الوطن عليه، ويكون ارتباطه بأرضه وأمته ناقصاً، ونحن بكل أسف، نجهل الكثير من جوانب تاريخنا المشرق، نجهل حقيقته ومضامينه وحيويته وريادته، لأننا أهملنا الاطلاع عليه بشكل دقيق وعلمي، في زحمة الانشغال بهموم الحياة ومشاكلها، ونسينا أن التاريخ أفضل وسيلة لمعرفة الذات البشرية، بكل أبعادها وممارساتها وأفعالها وقيمها وإنجازاتها وسلبياتها، وصدق الباحث المؤرخ أحمد إسماعيل علي حين قال: «التاريخ كلمة، وحياة البشرية مرتبطة بالكلمة، والكلمة المنقذة خالدة مع الزمن، ومعنى هذا أن عمر الإنسان مرتبط بالكلمة، وعمره يقاس بالكلمة، وحضارة الشعوب مرتبطة بالكلمة، فبقدر ما تسمو الكلمة تسمو الشعوب، لأن الكلمة تسبق الحركة».
المصدر : الباحثون العدد 44 شباط 2011