يندرج معبد زيوس/جوبيتير في بيتوقيسو أو حصن سليمان ضمن المعابد الكبرى ليس في سورية وبلاد الشام فقط وإنما في العالم قاطبةً، وهو بذلك يأخذ مفهوم الحيز المكاني المقدس ومكان العبادة بالمفهوم الواسع والعريض والذي يعرف باسم المعبد الكبير (sanctaire) أو بمعنى آخر فهو حيز العبادة المقدس بجميع عناصره وأبنيته الثابتة والمتنقلة، بالإضافة إلى الأثاث والمفروشات والأمتعة المستعملة والضرورية للعبادة، ويشمل المعبد داخل السور الخارجي منزل الآلهة والهيكل وبيت الصلاة، كما يشمل هذا المعبد الكبير مجموعة أبنية متكاملة ومتسعة بحيث تكون حدودها رحبة وغير محددة. إلا أنها تختلف من الناحية الجمالية عن المعابد الصغيرة، ولهذا تكون أكثر سهولة وخاصةً في الاستطالة.
وفي جميع الأحوال يكون المبنى عبارة عن حيز مكاني مغلق خارجياً بواسطة جدران مزودة بمداخل متسعة ومزينة بنوافذ وأبراج تحصينية، ومن الداخل تحيط بحيز مكاني مكشوف ومحاط بالأروقة المعمدة من جميع الجهات. وفي الوسط توجد أبنية متعددة الوظائف، وعلى رأسها بيت الصلاة وأماكن التقديس ومقصورة الإله وأماكن العبادة الجماعية.
كما يوجد بئر مياه جوفي أو تجميعي والعديد من الأحواض المائية للاغتسال الطهارة، وكذلك أبنية المآدب والولائم والجلسات وأماكن حفظ النذر والهدايا والمجوهرات والمخازن والمكتبات وعناصر متعددة ومختلفة الأغراض.
والأمثلة على ذلك كثيرة منها معبد بل في تدمر ومعبد حدد /جوبيتير في دمشق ومعبد اللات/ بعل شامين (إله الشمس) في سيع جنوب سورية، ومعبد جوبيتير/ زيوس في مدينة بعلبك ومعبد اللات والعزى وذا الشرى في بصرى ومعبد كبير الآلهة في القدس... إلخ.
المخطط العام للمعبد
صُمم المخطط بشكل يتناسب مع الموقع العام الذي نفذ داخله البناء؛ والموقع كما نشاهده في الصورة رقم 1عبارة عن منحدرات جبلية متدرجة على شكل حواف صخرية تشكل في قسمها الأيمن صفائح صخرية تحاذي شمالاً منحدراً لمرتفعٍ جبلي غير منتظم، وفي الجهة العكسية نلاحظ التدرجات الصخرية التي تشكل حلقة شبه دائرية تحتضن الموقع والذي تحيط به، كما نجد هناك أيضاً الأشجار الصنوبرية من جميع الأصناف.
ويعتبر هذا الموقع الأعلى في الجبال السورية المشرفة على الحافة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط والتي تبتعد عنه كخط نظر لا يتجاوز الثلاثين كم، ولذلك عتبر كمرصد للسفن القادمة إلى موانئ البحر، وخاصةً جزيرة أرواد ومدينة عمريت، وهو بذلك يتمتع بمناخ البحر الأبيض المتوسط المعتدل في جميع فصول السنة.
وقد سمحت هذه المنحدرات المتسعة حول المعبد على توفير المياه عن طريق الأمطار الغزيرة التي تهطل في موسم الشتاء وجرها إلى أحواض صخرية نحتت في الصخر الطبيعي، كما نلاحظ الاستفادة من هذا التدرج في تهيئة مدرجات صالحة للزراعة من حبوب وخضراوات بالإضافة إلى الأشجار المختلفة.
وجاء مخطط المعبد على شكل مستطيل بمحور شمال (غرب- جنوب) شرق وبأضلاع متوازية ومستقيمة وزوايا قائمة، بحيث بلغت أبعاد أضلاع المستطيل الأطول 133,86 م والآخر 133,29 م والأصغر33,57 م والآخر 33,8 م. (صورة رقم 2 )
ويحيط بالمعبد أسوار تحصينية من جميع الجهات مع مدخل تجميلي في كل جهة وبشكل متناظر، بحيث جاء موقع كل باب في وسط امتداد الجدار، أما المدخل الرئيس فقد جاء في الجهة البحرية جهة الغرب تقريباً. وقد نفذ المدخل بصورة فخمة وفائقة على شكل مدخل مركزي ومدخلين جانبيين تفصلهما ركائز مبنية بجدران قوية ومضلعة ومزينة بقسمات نحتية فائقة الدقة، ويتقدم البوابة من الداخل والخارج نظام تعميد على النظام الدوري بأعمدة بلغ مجموعها 16 عموداً؛ ستة أعمدة مقابل ستة، وأربعة أعمدة مقابل أربعة.
وقد حوى بناء المعبد في داخل السور أبنية متعددة ومتكاملة كباقي المعابد السورية، مع التشابه القريب من معبد بعل شامين النبطي في سيع في منطقة جبل حوران جنوب سورية. كما نجد أن أهم عناصر المعبد مازالت باقية في مبنى الحرم والذي يطلق عليه اسم التالاموس أو السيلاكما هي التسمية المعروفة في العديد من المعابد وبشكلٍ خاص في معبد بل في تدمر والتي جاءت بالتناظر بشكل مقابل للمدخل الرئيس للمعبد وبنفس العرض تقريباً.
وقد أحيط بالمعبد نظام تعميد يتماثل ويتوازى مع نظام تعميد المدخل الرئيس للمعبد بمعنى نظام التعميد على المنهج الدوري، كما جاء المدخل في الجهة البحرية مع انحراف إلى الغرب قليلاً. ويتقدم واجهة الحرم جبهة تتقدم بدورها رواقاً نفذت بشكل مثلث على الطريقة الكلاسيكية فوق أربعة أعمدة تتباعد عن بعضها بالتساوي بعد ترك رواق فسيح في الخلف.
ومن أجل تهيئة أرضية مستوية بُني أسفل الحرم حجرة كقاعدة مستوية وكأرضية للحرم. أما في مقدمة الحرم من الجهة الغربية فقد نفذ فارق المستويات على شكل مساطب تقسمها أدراج على نموذج التياترون المنفذ في معبد سيع في جبل حوران.
وبسبب الموقع النائي وغير المعروف من قبل الكثير من الناس وعدم لفت النظر إليه كما هو الحال في معابد تدمر وبعلبك وغيرها لذلك لم يصبح لهذا الموقع في القرن الماضي الشهرة والصيت الذي يليق به من الناحية الأثرية والتاريخية أو السياحية وحتى الآن، ومن جهةٍ أخرى فإن الدراسات التوثيقية قليلة بسبب عدم إجراء الحفريات الأثرية باستثناء ما يذكر عن المعبد هنا وهناك من خلال الحديث عن المعابد السورية الكبرى والصغرى وكذلك المعابد الهلينستية في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط ودورها الهام في حياة المجتمع السوري.
وحسب معرفتي المتواضعة فإن الدراسة الوحيدة والكاملة حول الموقع الأثري لهذا الصرح العظيم فهي عبارة عن مجلد ضخم نشر باللغة الألمانية عام 1938م. وهو عبارة عن دراسة متخصصة جداً ويهتم بها بشكلٍ خاص الآثاريون فقط، إضافة إلى المختصين في الكتابات الأثرية الإغريقية واللاتينية والذين نشروا دراسات عن الكتابات الموجودة في الموقع والتي بلغت حوالي 14 نصاً كتابياً قديماً ساعدت على إلقاء الضوء على معرفة تاريخ المعبد ووظائفه المتعددة.
وكذلك من خلال الأبحاث التي تندرج ضمن أبحاث تاريخية وأثرية عن الكتابات الإغريقية واللاتينية السورية والتي نشر معظمها إما في الحوليات الأثرية العربية السورية أو الدورية العلمية المتعلقة بالآثار السورية (Syria) والتي يشرف على نشرها معهد الآثار الفرنسي في الشرق الأوسط، إضافةً إلى الدراسة التي نشرت باللغة الألمانية.
وعدا ذلك فلا يوجد أي دراسة سواها تشير إلى هذه الآبدة الأثرية ولتكون مقروءة ومفهومة على مستوىً شعبيٍ عام علماً أن هذا المعبد لعب دوراً كما سنلاحظ يشابه ملتقيات الحجيج في المجمعات الشعبية الكبرى في بلاد الشام حيث كان يرتاده المؤمنون في النطاق الجغرافي الواقع بين البادية السورية شرقاً وساحل البحر الأبيض المتوسط غرباً، وهو بذلك يتقاسم الوظيفة مثالثةً في القسم الأوسط الغربي من سورية بين معبد حدد/ جوبيتير في مدينة دمشق ومعبد زيوس/ جوبيتير في مدينة هيليوبوليتنيا (بعلبك). وبالطبع مع عدم إغفال الأدوار الثانوية التي كانت تقوم بها المعابد الأخرى مثل معبد عمريت على سبيل المثال لا الحصر.
ويقع المعبد حالياً في بلدة حصن سليمان والتي كان الفضل في تأسيسها يعود إلى هذا المعبد في منتصف المنطقة الجبلية على مفترق طرق المواصلات الرئيسة والتي كانت صعبة الوصول على وسائل المواصلات الحديثة بسبب الموقع الجبلي الداخلي، ولذلك كان يقتصر الوصول إليه بواسطة الحيوانات من خيول وجمال وعربات جر وغيرها من الوسائل التقليدية القديمة عبر طريق ترابي متدرج في الارتفاعات، إلا أنه يعتبر من أجمل وأشهر وأضخم المواقع الأثرية في سورية وخاصة في المناطق الجبلية السورية رائعة الخضرة والجمال، كما يعتبر أعلى موقع جغرافي بالنسبة إلى جزيرة أرواد، لذلك كان يلعب كدور إرشاد بحري.
وقد ذكرت بعض الدراسات أو الروايات أن المعبد أو الموقع سمي قديماً باسم: باي توس – بيت أوس أو أوسس، ومن المفترض أن التسمية تعود إلى اللغة العربية الآرامية ؛ ولكن فهل كان الأمر يعني بيت قوس؟ والمعروف عن قوس أنه كان أحد الآلهة العربية التي تقدس في الجزيرة العربية وكذلك عند الأنباط والصفائيين في شمال الجزيرة العربية وجنوب سورية وهذا يعني أنه كان مقدساً كذلك لدى الآراميين في بلاد الشام.
وعلى جميع الأحوال فيبقى هذا الأمر مجرد افتراض مبدئي وينتظر نتائج الأبحاث الأثرية المستقبلية. ولكن أصبح من المؤكد أن المعبد في العهد الهلينستي أصبح مكرساً إلى الإله زيوس كبير الآلهة والذي تعايش وتلاصق مع الإله السوري حدد ثم الإله جوبيتير أو بعل شامين (إله الشمس) حيث تم توسيع المعبد ليصبح من المعابد الضخمة حيث استمرت العبادة فيه منذ ذلك التاريخ على ما يقارب ثمانية القرون منذ النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد وحتى مطلع القرن الرابع بعد الميلاد.
وقد اشتهرت المدينة التي يتبع لها المعبد كشهرة المعبد نفسه وخاصةً في مناسبات الأعياد المستمرة التي كانت تجري مرة واحدة في منتصف كل شهر من أشهر السنة للحجاج القادمين من المناطق المختلفة حيث تقدم القرابين والأضاحي أثناء الاحتفالات الدينية التي ترتادها جماهير صاخبة وبأعداد كبيرة بحضور التظاهرات الدينية والعروض الساحرة.
وكشفت الكتابات التي وُجدت هناك النقاب عن نواحٍ متعددة ومنها ما يتكلم عن الهبات والهدايا الباهرة ومختلفة الأصناف والتي كانت توهب إلى المعبد. كما تم تخصيص كامل البلدة والأراضي التابعة لها إلى ذلك المعبد. وجاء في إحدى الكتابات ما يلي: " من أجل أن تكون جميع المحاصيل والعائدات مكرسة للقربان والأضاحي والقداسات المتبعة في كل شهر ومن أجل من يسهم في ازدهار المعبد".
وكانت جميع المعروضات معفاة من الضرائب والرسوم الجمركية، إذ ذكر أن هناك أنظمة وقوانين كانت متبعة من أجل أن يكون هناك متاجرة وتجار بشكلٍ دائم وبشكلٍ مكثف في المناسبات، كما توجد كتابة تؤكد ذلك ومنها ما يلي: "إلى كل الحجاج القادمين".
ثم شهد المعبد تحسيناً وتوسعة أخرى وهي التي نشاهدها اليوم في البناء الأثري في حصن سليمان وتعود إلى النصف الثاني من القرن الثاني والنصف الأول من القرن الثالث بعد الميلاد، حيث أصبح المعبد يتكون من مجموعتين منفصلتين بشكلٍ واضح؛ ففي الجنوب يوجد المعبد الرئيس والذي تطلق عليه التسميات الكلاسيكية مثل: السيلا - التيمينوس أو الهيكل - المصلى والذي تتوسطه مقصورة الإله المبنية على الطراز الإيوني، ومحاطة بسلسلة من الأعمدة التي تشكل أروقة مع ترابطها بالجدران الداخلية أو منفصلةً عنها.
وتم بناء المقصورة على منضدة حجرية مرتفعة عمّا يحيط بها وتتوسط فراغاً كبيراً يحيط به سور ضخم على شكل مستطيل مكشوف مبني من حجارة ضخمة أبعادها تتراوح بين 6 إلى 9 م طولاً مع ارتفاع يتراوح بين مترين إلى ثلاثة أمتار. وفي كل جهة من جهات المعبد توجد بوابة، حيث جاءت الأبواب الشمالي والشرقي والغربي جميعها مزينة بنقوش ورسوم هندسية جميلة.
أما المجموعة الثانية للموقع الأثري حيث تقع إلى الشمال من السابقة على شكل سور مربع ومبني أيضاً من كتل حجرية كبيرة حيث يوجد في وسطه مقصورة إله صغيرة مع مقام مبني على شكل مقرّ به بناء سبيل للمياه. ويوجد أيضاً بقايا من عناصر أثرية تعود إلى كنيسة متأخرة بنيت في العهد البيزنطي.
ويعتبر المعبد أحد المعابد الأكثر هيبةً وجلالاً في سورية على الرغم من الخراب الكبير الذي حل به، فهو المعبد الذي انتصب في حصن سليمان والذي يقع إلى الخلف من منطقة الجبال والتي تعرف باسم جبال أرادوس، (شكل1) وقد ذُكر أن أحد الملوك السلوقيين في القرن الثاني ق.م أصبح يملك القرية أو الموقع الذي يتبعه المعبد ومن ضمنه الحرم الأسيل asyle, ولهذا أصبح معفياً من الضرائب من أجل أعياده والاحتفالات التي تتم في مناسبات تلك الأعياد.
وعلى الرغم من قِدمه كموقع يتجاوز العهد الفينيقي والآرامي قدماً فإن الآثار الباقية بحد ذاتها تعود إلى فترةٍ تاريخية متأخرة نوعاً ما وخاصةً السور المقدس للتيمينوس التي يرجع بتاريخه إلى القرن الثالث قبل الميلاد، بينما يوجد هيكل كنموذج للمعبد الصغير والذي كان متداولاً في جنوب سورية في العهد النبطي على شكل جميل بني في عام 185-186 م.
وهذا الهيكل ليس بالضرورة أن يكون بناؤه قد جاء لاحقاً لبناء المقدس السيلافي، وإنما بني في الأصل ليكون مقر المعبد الصغير وبحكم منزل الآلهة، أو المكان الذي يحوي من حيث المفهوم العام البناء الأكثر قدسية والأكثر فخامةً وهيبةً والأكثر جمالاً في بناء المعبد العام الكبير. كما أنه الأكثر تحديداً في الوظيفة والأكثر محافظةً وبشكلٍ دائم على بنائه وصيانته. كما جاء ليتماثل مع المعابد الأكثر انتشاراً والتي بنيت في المدن الصغيرة والمتوسطة والقرى والأرياف في الشرق السوري.3
وبالمحصلة أخذ المعبد يظهر كنموذج للبناء الذي كان يعرف بالعهد الهلينستي باسم (بسودو بيريبيترpseudo- périptére) أي نموذج الفناء الذي تحيط به أعمدة مفردة والذي كان نموذجاً للمعابد اليونانية المبكرة، ولذلك كانت تطلق عليه تسمية البناء ذو الأعمدة المستعارة ومن ثم أصبح يعرف بالبناء المحاط بأعمدة مستعارة مع مدخل رباعي الأعمدة والذي عرف باسم النظام الإيوني، ثم عمم استعماله بشكلٍ واسع خلال العهد الهلينستي ثم الروماني ليشمل كامل أراضي الإمبراطورية، ومازال نموذج الواجهة يتكرر في الاستعمال حتى العصر الحديث.
وقد اقتضت الضرورة وحسب الموقع الطبغرافي أن يأتي بناء الحرم في معبد حصن سليمان مرتفعاً فوق دكة معمارية منتظمة لتذليل فوارق الارتفاع، لذلك زود البناء بدرج طويل من الجهة الشمالية تخللته بعض المساطب والتي حددت أخيراً بمسطبتين، وفي وسط المسطبة الأولى أقيم بناء الهيكل الذي مازالت بعض عناصره في الموقع.
أما بناء الحرم الذي يعرف باسم السيلا (شكل 3) فلم يبقَ منه سوى قسم من جدرانه البسيطة باستثناء الجدار الغربي الذي مازال محافظاً على معظم مداميكة المعمارية وبشكلٍ كامل، ويحوي هذا الجدار في داخل سماكته الكبيرة درجاً يصعد نحو الهيكل، والذي يعرف باسم (هيكل البناء la charpente).
وكان من الصعوبة بمكان وبسبب الانهدام الحاصل في الموقع وخاصةً في الوضعية التي كان عليها البناء والخرائب المتناثرة التحقق من هوية الأقسام أو الأشياء الداخلية والتي تحدد وبدقة هوية كل عنصر من العناصر الرئيسة. إلا أن الشيء المفيد في الموضوع التوضيح الذي قدمه جدار العمق المزدوج حيث يشير إلى وجود جدار أقدم منه أو أكثر قدماً ويحفظ بدوره ببداية انطلاقة للجبهة الكلاسيكية التي تقع فوق جبهة البناء (tympan) وترتفع قليلاً عن مستوى الدكة الأحدث، وبالطبع فجميع هذه العناصر تساعد مستقبلاً على توضيح الأمر بشكلٍ أفضل.
ومن المؤكد أن هذه الدكة تنتمي إلى المعبد الأول والأقدم على اعتبار أن بعض عناصرها المعمارية ربما تعود إلى منتصف القرن الأول؛ وفي هذه الحالة فهذا الأمر يفسر وبوضوح امتداده الكبير وسعته الضخمة في جميع مراحله التاريخية.
وفي الحقيقة فإذا كانت جدران المعبد القديم محفوظةً على كامل الارتفاع فهذا يعني أن مستوى امتداد كان يتعدى الدكة ولكن بشكلٍ مفترض ويعطي دليلاً بأن بناء السيلا القديمة قد توضع تقريباً في مستوى المقدس الذي يعرف باسم التيمينوس. ولحسن الحظ فإن معظم العناصر المعمارية مازالت موجودة في مبنى السيلا (الحرم) وفوق بناء الدكة.
وقد استفاد البناؤون سابقاً في هذا الموقع من الفوارق الحاصلة من تباين المستويات في بناء جناح سفلي كقبو تخديمي يعرف باسم البهو السفلي crypte والذي مازالت نافذته محفوظةً حتى الآن، إلا أن بعض الباحثين يظن بأن هذا البهو أو هذه الحجرة تنتمي إلى مكان أو مقر العبادة القديمة والذي كان نواةً لبناء المعبد الكبير والذي يعتليه حالياً بناء هيكل أو حرم المعبد الجديد، والذي تطلق عليه تسمية التالاموس، إلا أن الحفريات الأثرية المستقبلية تبقى هي الحكم والفيصل في إمكانية تأكيد هذه الفرضية أو رفضها.
وعلى جميع الأحوال فإن هذه الفرضية لم تأتِ من فراغ، فقد جرت العادة في كثير من المدن السورية على إجراء تسوية بين المستويات المختلفة الحاصلة نتيجة الفوارق الطبوغرافية بالتأسيس لأبنية طابقية يكون الطابق السفلي فيها متشابهاً أو مختلفاً في وظيفته عن الطابق العلوي، أو يكمل بعضهما بعضاً وهكذا.
وقد نفذ هذا الأمر في السوق الأرضية في مدينة بصرى في مبنى الكريبتوبورتيك وكذلك الأمر في مدينة جرش، وفي معظم المواقع في لبنان ومنها مدينة بعلبك، وفي شمال إفريقيا في منطقة الجبل الأخضر في مدينة بتوليمائيك (طلميثة حديثاً)، كما لديناً نموذج رائع وجميل في مدينة أرل في فرنسا، ثم أصبح ذلك منهجاً عالمياً.
وبشكلٍ عام فإن الأقبية ومهما كان شكلها الذي نجدها فيه في بعض المعابد السورية أو العالمية، فهي لا تحتفظ بأي عنصر معماري أو وظيفي يمكن أن يبيّن هويتها أو طبيعتها فيما إذا كانت مقرَّ أو حيّز عبادة أو عقيدة شعائرية على اعتبار أن القبو هو تحصيل ناتج عن الضرورة التقنية من أجل تقديم ركيزة التأسيس لقاعدة مسطحة أو أرضية منبسطة.
ب – مساهمة المعبد في شؤون الحياة في المنطقة:
من الشيء المنطقي أن يتأثر المعبد بجميع شؤون الحياة العامة والخاصة التي كانت تجري في المنطقة كونه المبرمج أحياناً لهذا الأمور، وكانت من أهم الأمور التي تنعكس على هذه المجريات المنافسة التي كانت تدور بين مدينة عمريت البرية وجزيرة أرواد البحرية وكذلك الدور الوسيط الذي لعبته كل من مدينة كارنة ومدينة سميرا (تل الكزل) والاستفادة التي كانت تجنيها مدينة جبلة لقربها من هذه المراكز ومن التحولات التي كانت تحصل بينها.
وكان المعبد يستفيد من الميزات الاقتصادية والنهضة الزراعية التي كانت تشهدها المنطقة بين حينٍ وآخر إضافة إلى النهضة العمرانية والتنظيمية والمدينة كونه يتربع على موقع يشرف على أعلى منطقة تشرف على حوض العاصي من الجهة الجنوبية والتي شهدت ازدهاراً ملحوظاً منذ الألف الأول قبل الميلاد بسبب النشاط التجاري البري والبحري للفينيقيين.
ومع حلول العهد السلوقي شهدت المنطقة نوعاً من التفكك بسبب الصراع بين السلوقيين في سورية والبطالمة اللاجيد في السيطرة على المنطقة الساحلية من جهة وكذلك تجزأت المملكة السلوقية وكثرة المتنافسين على السلطة لدرجة أن المنطقة التي كان يتبعها المعبد أصبحت من أملاك هؤلاء الخاصة، وكل هذه الأحداث كان لها تأثيرات على مجريات الأمور، كما كان لها انعكاسات اقتصادية مع مضاعفة الفوضى وعدم توفر الأمن، بالإضافة إلى المنازعات الإقليمية وإغلاق الحدود مما أدى إلى إضعاف حركة التبادل التجاري مما أوقع الحياة الدينية والاقتصادية داخل المعبد بأزمة تتأثر سلباً نتيجة انقطاع الحجاج عن المجيء للحج في فتراتٍ متقطعة.
وكان المستفيد إيجاباً من كل هذه المجريات كل من مدينة عمريت وجزيرة أرواد، أما المتأثر سلباً فكان دائماً مدينة عمريت التي كانت ترغب دائماً في فرض هيمنتها على المنطقة وعلى المعبد وموارده الاقتصادية الهامة، حيث كانت المدينة الأبرز والأكبر والأهم في المنطقة الساحلية وحققت تفوقاً ونجاحاً هاماً منذ تاريخٍ طويل بسبب دورها الاستراتيجي الهام في مجال التجارة وعمقها الحضاري الذي يعود إلى ما قبل الألف الثالثة ق. م، ولهذا احتلت مركزاً مرموقاً بين جميع المدن الساحلية والداخلية.
ومن الطبيعي أن تحصل المنافسة بين مدينتين مثل عمريت التي تزعمت الشط البحري البري وجزيرة أرواد التي كانت تتحكم في حركة الملاحة والتجارة وسط البحر، إلا أن هذه المنافسة لم ينتج عنها سوى النتائج الإيجابية والتحفيز على توسيع المصالح بتوسيع مناطق النفوذ الخارجية، وكلما تزايد النشاط الخارجي كلما تزايد عدد رواد المعبد وتزايدت موارده المختلفة.
كما أن دور العمريتيين لم يقتصر على المجالات التجارية والاقتصادية، وإنما كان لهم دور الريادة في التوسع في مناطق البحر الأبيض المتوسط وبناء المستوطنات ونشر الحضارة الفينيقية وبشكل خاص تعمير جزيرة ومدينة ديلوس حيث شكلوا النخبة الثقافية من العرب الفينيقيين الذين حلوا في الجزيرة كمجموعة متعلمين ومثقفين بالإغريقية هم وأولادهم وعبيدهم وقد دخلوا في نظام الفتوة والتدريب في مختلف العلوم في أثينا. ولكن رغم كل ذلك إلا أن مدينة عمريت بالنتيجة فقدت نفسها وفقدت كل شيء لأسبابٍ كثيرة عالجناها في العديد من الأبحاث والتي تحتاج إلى توسع في الشرح.
أما على الصعيد الديني فقد كان سكان المنطقة من ذوي الالتصاق الحاد بالشعائر العقائدية والإلصاق أيضاً بالشخصيات الإلهية الموجودة في كل مكان والمشتركة بين الجميع والمتمثلة فوق كل شيء في معبد بيتوقيسو. وكان لديهم اعتقاد كبير بوجود عبادة لآلهة تعالج الأمراض وتشفي المرضى كانت تتنامي وتتطور باستمرار، لذلك كان لها حضور دائم في المعبد.
وكانت كامل المنطقة بما فيها جزيرة أرواد ومنطقة البيرة التابعة لها تتبع جميعها إلى العبادة الفينيقية في الألف الأول قبل الميلاد على نفس المنهج والمعتقد السائد في المنطقة الفينيقية الجنوبية والتي تمثلت جميعها أيضاً في هذا المعبد.
الاستنتاج
إن المتتبع لدراسة المعتقدات الدينية في الشرق السوري وممارسة شعائرها والأبنية المعمارية التي وظفت من أجلها ومنذ الأصول يجد أن بيت العبادة لم يكن عبارة عن مجموعة أبنية تجميلية برزت من خلالها جميع الإبداعات التي كان يشارك بها كل أفراد المجتمع من مخططين ومهندسين وبنائين وفنانين وحرفيين ورجال دين وعقائد سماوية، وإنما هي حيز مكاني مقدس عبر من خلاله المجتمع السوري عن كل المفاهيم والمعاني السامية التي تحيط في المجتمع.
وما نجده اليوم في المسجد أو أي مكان عبادة يتبع الديانة الإسلامية أو النصرانية يدل على عمق الروابط الاجتماعية السائدة في المجتمع، والتي تعبر تعبيراً صادقاً عن المحبة التي تنطلق من المحبة الأسرية والقبلية والريفية والمدنية لتضفي بظلالها على كافة أفراد المجتمع، لذلك نجدها تمارَس في أي مكان وأينما ذهبنا في كافة المناطق من بلاد الشام أو المناطق العربية سواءً كانت ساحلية أو جبلية، صحراوية أم مدنية.
وعلى ضوء هذه العقلية النيرة والمنفتحة على العالم والتي تولدت منذ آلاف السنين متنقلة بين تجمعاتٍ بشرية ذات معتقدات وأساطير وخرافات وقصص أو سير قديسين أو أخلاق أسطورية انعكست عليها في الحياة اليومية في التقاليد والاحتفالات والمناسبات الاجتماعية ثم لتنتقل إلى علاقات متنامية وحقيقية تربط هذه المستويات وهذه العناصر المادية بروابط روحية صافية ونبيلة ترتكز على التبصر والمعرفة وتفسير وتوضيح فلسفة الحياة والروابط الصادقة التي تربط كل فرد من أفراد المجتمع مع بعضها بعضاً لتصل بالنتيجة إلى روابط العبادة الصادقة بين الإنسان وخالقه عبادة حقيقية صادقة ارتكزت على محورين أساسيين؛ الأول ارتبط بالتعامل الاجتماعي بمعنى علاقة أفراد المجتمع مع بعضهم ، والرابط الثاني وهو علاقة الفرد برب الكون الخالق والمنظم لشؤون الكون بنظام دقيق خلق لإسعاد البشرية وتعمير الكون.
ولذلك فعندما ندرس أي منشأة معمارية كانت ومنذ بداية تعرف الإنسان في هذه المنطقة على تدبير أموره الطبيعية المحيطة والتفاعل معها ومن ثم التوصل إلى مراحل البناء المتكامل والتنظيم التي يشمل جميع مناحي الحياة نجد أنها كانت دائماً ترتكز على تمتين الروابط الاجتماعية والعقائدية والشعائرية، وهذا ما نجده في الأسواق العامة داخل المدن وخارجها، وفي بيوت العبادة، وفي الحمامات، والمسارح بكافة أصنافها، وكذلك في كامل أحياء المدينة.
ونخلص إلى حقيقة تدل على أن بناء بيوت العبادة في المدينة جاء للربط بين جميع أفراد المدينة أو القرية ضمن الروابط الموحدة بين المعبد والحي السكني، أو السكن ضمن محيط التنظيم العمراني في المدينة. ثم جاء بناء المعبد ليكون التعبير الصادق والذي يترجم جميع هذه القيم الصادقة داخل حرمه المقدس وداخل أبنيته المتعددة والتي تتوزع ضمن وظائف محددة خصصت لتوفر الراحة لكل مؤمن وكل حاج.
كما ترجمت هذه الصورة التي نجدها داخل بيوت العبادة في داخل التنظيمات العمرانية إلى دور العبادة خارج التنظيم العمراني وما نجده في معبد بيتوقيسو في حصن سليمان نجده أيضاً في كافة المعابد السورية. ولكن تميز المعبد في حصن سليمان أنه كان ذا كيانٍ مستقل عن المدينة في كيانه وممتلكاته الخاصة، لذلك فكانت موارده المالية متنوعة من محاصيل غذائية أو زراعية أو رعوية، وهذه المحاصيل والموارد تصب في موازنة المعبد مما شكلت له ركناً أساسياً من أركان الغنى الذي ساعده على التدخل في الشؤون الاقتصادية في المجتمع الذي كان يتوسطه المعبد والممتد من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط حتى حدود البادية السورية تقريباً.
وهذا الامتداد الجغرافي الكبير جعل المعبد من المعابد الكبرى التي يرتادها الحجاج من مناطق مختلفة وبأعدادٍ كبيرة، إضافةً إلى تجار القوافل التجارية الذين كانوا يرتادون هذا المعبد ويشاركون في المواسم الدينية والاحتفالات التي تقام هناك وتكون فرصةً لتصريف بضائعهم، لذلك كانت تفرض على هذه البضائع الرسوم والفوائد التي تصب في خزينة المعبد وتكون مورداً إضافياً يساعد على إغناء وزيادة ثروات وممتلكات المعبد.
يضاف لذلك التبرعات والهبات والهدايا المقدمة من الأثرياء والمحسنين والمؤمنين لدرجة جعلت من المعبد مؤسسة كبرى تتحكم في اقتصاد المنطقة، إلا أنها على جميع الأحوال فهي عبارة عن محمية مؤتمنة ولها الحصانة الناتجة عن القدسية والصدق في التعامل، لذلك فكان كثير من أصحاب رؤوس الأموال يودعون أموالهم في المعبد أو توظف لصالحهم وصالح المعبد.
ولهذا السبب فلم يقتصر دور المعبد على إقامة الطقوس الدينية وإنما تعددت الوظائف لتشمل كافة مناحي الحياة العامة والخاصة، ولهذا يقوم المعبد بالوظائف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها. ومن هنا نجد أن بناء المعبد وحجمه وهندسته وتنظيمه المعماري وجماليته كانت تتوافق مع هذه المهام.
المصادر والمراجع:
Jean Marie Dentzer: Le sanctuaire Syrien، dans: Archéologie et Histoire de la Syrie II. Printed in Germany 1989. pp297 -32.
R. Dussaus ,Le temple de Jupiter Damascenien، Syria 3، 1922، pp 219 – 231.
Michel Gawlikowski. Les temples dans la Syrie à l,époque hellénistique et romaine. Dans: Archéologie et Histoire de la Syrie II. Printed in Germany 1989. pp323 -346.
E. Will. Le sanctuaire syrien de Délos، AAS I، 1951, pp 50 – 60.
E. Will. Théâtre sacrés de la Syrie et l,empire، Dans: Mélange R. Mouterde (= MUSJ 37، 1960 – 1961. pp200-220.
E. Will. Banquets et salles de banquet dans les cultes de l,empire romains، dans mélanges d,hitoire. Anc et d,archeol offerts a p. Collart (Lausanne 1976)، pp 353 – 362.
هوامش:
1 - Zeus زيوس وعند الرومان جوبيتير وعند العرب بعل: وظهرت هذه الشخصية الإلهية في الميثولوجيا الإغريقية والرومانية والعربية كرمز لكبير الآلهة، بمعنى أن جميع الآلهة كانوا أولاده ومنهم: بوسيدون – أبوللو – أريس – هرمس – هيفايسفون – هستيا – ديميتر – هيرا – أثينا – أفروديت - أرتيميس. وكان الأكثر ظهوراً فوق المسكوكات النقدية وبمظاهر مختلفة ومنها صورته وهو يرتدي غصن الزيتون بجسد عار أو نصف عار ويقذف بالصاعقة أو يجلس على العرش، كما ظهر بكثرة فوق الرسوم الجدارية (الفريسكات) واللوحات الفسيفسائية. وكانت جميع مظاهره متقاربة. ومن هنا فقد أصبح لهذا الإله عمومية عالمية، وعندما نتوسع في الأمر نجده يتقارب أيضاً مع الإله بوذا في الديانة البوذية أو كبير الآلهة في الديانة الفارسية
2 - سمي الموقع قديماً باسم: باي توس – بيت أوسس، ومن المفترض أن التسمية تعود إلى اللغة العربية الآرامية ؛ ولكن فهل كان الأمر يعني بيت قوس؟ والمعروف عن قوس أنه كان أحد الآلهة العربية التي تقدس في الجزيرة العربية وكذلك عند الأنباط والصفائيين في شمال الجزيرة العربية وجنوب سورية وربما كان ذلك لدى الآراميين في بلاد الشام. ولذلك سمي باسم القرية (بيت كيكي) ومن ثم أصبح الاسم المتداول بيتوقيسو.
3 - Jean Marie Dentzer: Le sanctuaire yrien، dans: Archéologie et Histoire de la Syrie II. Printed in Germany 1989. pp297 -322.
مدينة عمريت
المصدر : الباحثون العدد 44 شباط 2011