مثلما تفعل اختبارات سبر الذكاء، تكشف الآثار القديمة كثيراً عمّن يراها بأكثر مما تكشف عن ذاتها. لقد أوحت خطوط ورسومات حُفرت في صحراء بيرو قبل أكثر من ألفي سنة، إلى إريك فون دانيكن كي يفترض استعمالها كمدرجات هبوط وإقلاع لسفن زوار الفضاء الغرباء. كان ذلك في عقد السبعينيات، عندما كان آنتوني آفني أستاذاً لعلم الفلك في جامعة كولغيت في هاملتون، بولاية نيويورك، وكان يعاني من مشقات البحث عن دليل يرشده إلى حقيقة أمر الرسوم. وبينما نظر فون دانيكن وآخرون إلى الرسوم والصور للوصول إلى نتائجهم المستمدة من عوالم أخرى، أخذ آفني فريق بحث إلى منطقة بامبا دو أنجينيو. وهناك اكتشف خطوطاً منقوشة على سطح الأرض تقدم رسوماً لطيور عملاقة، وعناكب، وقردة، وغيرها الكثير. قام رفيقه بقياس اتجاهات 762 خطاً مستقيماً (كان بعضها بطول 8 أميال) وأكثر من 60 نقطة محورية يصدر عنها ما يشبه خطوط شعاعية. وقاموا بتحليل رسومهم باستخدام الحاسب الإلكتروني، و وجدوا أن الكثير من هذه الخطوط يشير إلى "مكان موقع الشمس على الأفق عند بداية موسم المطر". قبل نحو 2000 عام، ربما سار الناس على هذه الخطوط وأدوا بعض الاحتفالات، وهو ما يتصل بطقوس معتادة لجلب الماء (استسقاء).
في عدد حديث من مجلة علم الآثار أقرَّ آفني أن نظريته ليس لها أثر أو فعل قصص زوار الفضاء وسفنهم الغريبة. ويقول: "بقدر ما أشده من هذه الخطوط، فإنني أعجب كذلك لخيال الناس الذين سعوا وراء إيجاد تفسيرات لها".
ورغم أبحاثه المطولة في البيرو، فإن خبرة آفني تدور حول حضارة المايا في المكسيك حيث بدأ جولاته لدراسة الآثار الفلكية. وكانت جامعته حينها قد كرست فصل شهر كانون الثاني/ يناير الدراسي للتركيز على التعلم بالخبرة، وليس مجرد جمع الحقائق.
يقول آفني: "في تلك الأيام كان يتوقع منك القيام بأفعال جريئة، كأن تأخذ الطلاب إلى حقل أبحاث ميدانية لفعل أشياء لم يقم بها أحد قبلاً. لقد توصلنا إلى هذه الفكرة المبتكرة بالذهاب إلى المكسيك لدراسة اتجاه الأهرامات هناك، و وجدنا أنها كانت طريقة جيدة أيضاً للتخلص من الطقس البارد في شمالي الولايات المتحدة. وسرعان ما انضم ثمانية طلاب إلى الفكرة التي تحولت إلى رحلة حقيقية، وانطلقنا معهم في حافلة بعيداً صوب قمة مونت آلبان Monte Alban في المكسيك، حيث يوجد هناك هرم خماسي الوجوه. لقد ذكرت جميع قصص هذا الهرم أن محوره يشير إلى جهة غروب الشمس في وقت الانقلاب. وحيث أننا كنا هناك في وقت الانقلاب فقد طلبنا الإذن للموافقة على بقائنا في الموقع طوال الليل، ولمراقبة غروب الشمس، وغير ذلك. لكن الشمس لم تغرب مثلما ما يقال عنها: فبدلاً من أن تغرب هنا (أشار بإصبعه نحو نقطة تخيلية على الأفق الغربي) فقد غربت هناك. وكانت تبعد عن النقطة المفترضة بقدر40° درجة تقريباً. وعندما واجهنا الدليل المشرف على الموقع بالفارق المكتشف قال: "حسناً، أنا لا علم لي، فكذلك يذكر كتاب المرشد السياحي".
ويقول آفني: "لقد أطلقنا فعلاً فكرة الذهاب إلى الموقع وإجراء القياسات"؛ فكان وطلابه أول من ألقى نظرة تجريبية على مزاعم قيلت عن الهرم. ويقول عن ذلك: "لقد اعتاد الناس تقبّل تلك الأقوال وحسب. وقد بدأنا بمقابلة علماء الآثار الذين قالوا لنا "حسناً، أنت تعلم الآن ــ فقد قمت بقياسات للموقع ــ ويجب أن تأتي إلى موقعنا في العام القادم أيضاً وتقوم بالقياس هناك". وها قد فعلت ذلك. لقد أمضيت 32 سنة وأنا آخذ الطلاب إلى هناك. وحيث أننا لم نعد نحظى بفصل شهر كانون الثاني/ يناير الدراسي، فإني أقول لطلابي إن دورة فصل الربيع الخاصة بي سوف تبدأ أبكر من وقتها بثلاثة أسابيع في غواتيمالا سيتي، وأنهم يجب أن يكونوا حينها هناك؛ فيذهبون، ونقوم بالعمل الميداني هناك".
ومع أن آفني يحمل درجة الدكتوراة من جامعة أريزونا، إلاّ أنه عالم فلكي بالتدريب والممارسة. وقد عمل على تحليل الطيوف مع التركيز على دراسة بنية المجرات ونجوم النمط T-Tauri ، وتَشكّل النجوم. وبعد مضي ست سنوات على مسيرته المهنية في جامعة كولغيت، تحول إلى دراسة علم فلك الآثار القديمة archaeoastronomy.
ويقول آفني: "لقد فتحت لي تلك الرحلة إلى جبل آلبان أفقاً جديداً تماماً لأني لم أكن على علم أبداً ماذا كانت تفعل تلك الشعوب القديمة؛ وعندما تقوم بتدريس علم الفلك فأنت ستهتم بنحو طبيعي بفكرة منشأ علم الفلك". والآن يشغل آفني كرسياً في علم الفلك وعلم دراسة الإنسان (الأنثروبولوجيا)، ويقول: "يدرس الفلكيون النجوم، ويدرس الأنثروبولوجيون الناس، وأنا أدرس الناس الذين يراقبون النجوم".
ويقدم آفني تعريفاً لعلم فلك الآثار بأنه ممارسة علم الفلك باستخدام السجلات المدونة وغير المدونة. وهو يشدد على "السجلات غير المدونة" لأنه بدراستنا علم فلك الحضارات القديمة، مثل علم فلك غاليليو أو علم فلك قدماء اليونان، فنحن نجمع كل معلوماتنا من النصوص المدونة، دون أن نعير انتباهاً إلى مواقع الآثار الحقيقية، أو دراسة الأيقونات وموضوعاتها، وكذلك المنحوتات. إن علم الآثار الفلكية يجمع كل هذه الوسائل لمعرفة السماء، وهو يذهب إلى ما وراء المعادلات والشروح والأوصاف المكتوبة". وفي الجزء غير المدون ، يشمل آفني تراصفات، أو استقامات، النوافذ أو الأعمدة في مبنى ما، والعلاقة المكانية بين الأهرامات ومواضيع أخرى كثيرة تتعلق بتصاميم الآثار.
وهو يوافق على وجود جانب آخر لعلم فلك الآثار - هو الجانب الثقافي- فيقول: "يتحدث الناس عن حضارة المايا المفقودة. لكنها ليست مفقودة: إذ يوجد هنا 29 لهجة للغة المايا يتحدث بها أكثر من مليونين ونصف المليون من الناس في منطقة بلاد المايا. يمكننا التعلم عن لغتهم، عن رياضياتهم، عن نظرتهم إلى العالم، وعن علم الفلك لديهم، وذلك بالتحدث معهم".
ويقول آفني إن طلابه كثيراً ما يكونون قلقين بشـأن اعتقاد مفاده أن شعوب المايا والآزتك والإنكا لم تكن تعرف شيئاً عن الأرض والكواكب الأخرى التي تدور حول الشمس. وهو يقول لهم، إنه بالاستناد إلى خلفيتها الحضارية، فإن هذه الشعوب لم تعن بشأن هذه المسألة التي جاءت من اليونان. لقد وردت هذه الفكرة في كتابات أرسطو السياسية ــ وليس الفيزيائية ــ حيث يصف لنا هذا الفيلسوف نظام الفضاء، وكذلك الرتب الاجتماعية، كأفلاك تدور حول مركز لها. ويتابع آفني: "وهكذا، فلو عشنا في اليونان القديمة، لكنا جلسنا أنت وأنا في مقهى نتأمل في الترتيب الهرمي للثقافة بحسب هذا المثال المداري. ومن ذلك المثال أخذ الإغريق رخصةً للتساؤل والمناقشة في مسألة نظام السماء وترتيبها الهرمي: ما هو المركز؟ وما هو اللامركز؟ من هنا، استقى كوبرنيكس فكرته أن تكون الشمس هي المركز، ومنها أيضاً أخذ نيلز بور فكرته أن النواة هي مركز الذرة مع وجود إلكترونات تدور حولها. إن الثقافة تؤثر في الكيفية التي تفكر بها بشأن الطبيعة. لا يمكنك دراسة الطبيعة من دون ثقافة".
ويضيف: "إن طريقتنا في دراسة العالم ليست هي الطريقة الوحيدة، بل وهي حتى ليست بالطريقة الأفضل؛ وليس لها أية امتيازات أو حسنات على أية طريقة أخرى لفهم ومعرفة العالم. أنا أعتقد أن الطريقة التي يدرس بها المرء العالم ترتبط بحقيقة من يكون، وهذا الوصف يشملنا أيضاً".
يرغب آفني برؤية علماء الآثار الفلكية وقد أصبحوا أكثر تشككاً بمزاعم وأقوال معينة تخص المواقع الأثرية الفلكية. وهو يعتقد أنهم سيكونون هكذا إذا عرفوا المزيد عن الحضارة المعنية في قيد الدراسة، وفي أنه يجب أن نسأل أنفسنا عن كيفية إفادة شعب معين من المعارف التي نعتقد أنه كان يحيط بها ويفيد منها. وبالإشارة إلى الأبحاث عن موقع ستونهنج ، كمثال، يقول آفني: "كل هذه الأحجار .. وهذا الركام من الأشياء لأجل الاصطفافات القمرية البالغة الدقة والتنبؤ بأحداث الكسوف والخسوف الشمسية والقمرية ــ لا أعتقد أن هذا سيثبت أمام التجربة أو المحك. أنا لا أعتقد أن الناس الذين عاشوا هنا كانوا يهتمون كثيراً بالتنبؤ بأزمنة الكسوف والخسوف. إذ ما فائدة ذلك بالنسبة إليهم؟ لكن، ترى، هل كانوا سيهتمون أو يعنون بأمر "الحصول" على سمائهم المقدسة مضاءة نهاراً وليلاً بالشمس والقمر، في أدوار متعاقبة ومتبادلة بين شروق وغروب في أماكن تقابل بعضها بعضاً؟ نعم، أعتقد أن هذا أمر محتمل جداً. إن هذا مثال على نوع الأسئلة التي يجب أن يطرحها علماء فلك الآثار. إني أعتقد أن كثيراً من أبحاث علم فلك الآثار تشبه أمر اختراع أسلاف كرتونية لأنفسنا"، ويشرح: "يقوم الناس بأعمال معينة تلبية لحاجات معينة، ولذلك يجب على علماء فلك الآثار أن يبحثوا عن الأسباب التي جعلتهم يقومون بأفعال معينة أو يصنعون أشياء خاصة".
ويقول آفني: "لقد ذكر جيرالد هوكنز ذات مرة عن أحجار مرصد ستونهنج شيئاً من قبيل "إذا كنت أستطيع رؤية أي شيء في هذه الأحجار، فيجب أن يكون هذا الشيء معروفاً من قبل القدماء". أنا لا أوافق على هذا الرأي: إذا كنت أرى شيئاً ما في هذه الأحجار، فأنا لا أعرف ما إذا كان القدماء قد عرفوه أم لا. وسيكون علي إثبات معرفتهم له. وأعتقد أن الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها ذلك هي باستخدام عمليات القياس والإحصاء ــ علينا استخدام القياسات لإظهار أن هذه الترتيبات والاصطفافات توجد وفق سوية مهمة عددياً وإحصائياً، بحيث يمكننا الاعتقاد أن هذه الأحداث، أو الأشياء، ليست مصادفة أو اتفاقاً. ومن الخطر استخدام المعارف المعاصرة عندما لا نعلم يقيناً مدى استمرارية تلك الحضارة أو الثقافة. إننا نحب الاعتقاد باستمرارية تلك الثقافة لأن ذلك سيجعل الأمر مثيراً. بيد أننا لا نعرفه. وإذا كان لدينا دليل على ذلك فيمكننا استخدامه، ولهذا أحب العمل مع المايا. إذ يمكنك افتراض بعض النظريات. ومن جهة أخرى، فالأمر صعب لأنه يجب عليك أن تعرف عن كتابتهم أيضاً".
لا يحب آفني أن يأخذ بطريقة "بندقية الخردق" لتفسير موجودات موقع آثاري معين. كان أحد أسباب ذهابه إلى منطقة تيوتيهيواكان، حيث أهرامات المكسيك، هو دراسة الرسومات الصخرية المنقوشة بشكل دائرة مزدوجة بداخلها صليب ــ ما يشبه علامة الهدف ــ وهي رموز كانت تنقش في الصخور وعلى أرضيات بعض المباني. وقد اعتقد بعض الباحثين سابقاً أن شيئاً من هذه الرسوم ربما أفاد كنقاط علام معمارية لتعيين استقامة شوارع المدينة.
وبعد أن شرع فريق آفني بعملية قياس دقيق للموقع ومسح لاتجاهات المدينة، قال: "لقد وجدنا هذه العلامات في كل مكان؛ وكان علينا وضع خريطة لها كلها. ثم استخدمنا القياس والإحصاءات. أنا لا أذهب إلى موقع وأقول "يوجد هنا هرم جميل، ويوجد هناك نتوء على الأفق، ولا بد أن هذا يمثل تراصفاً ما". وإذا وجدت واحداً مثل ذلك فأنا لا أقول لقد اكتشفت شيئاً، بينما أتجاهل 37 نتوءاً آخر هناك لا تتراصف مع أي شيء آخر. لا، إني لا أفعل هذا".
ثمة عدد آخر من الأبحاث المستقبلية تلوح في الأفق أمام عيني آفني، منها مشروع العمل مع خبيري النقوش فيكتوريا وهارفي بريكر من جامعة تولان، وهما خبيران في لغة المايا المكتوبة. وسيشمل جزء من بحثهما مجموعة أوراق من مخطوطات المايا الفلكية (Mayan Dresden Codex) التي اكتشفا فيها جدولاً لحركة كوكب المريخ.
ولعل الجزء الأصعب في عمله يتمثل بالتعامل مع كتابة المايا التي يقرؤها بدرجة جيدة إلى حد ما. وهو يجد متعة وإثارة في دراسة رياضيات المايا وبديهياتهم ومبادئ رياضياتهم، ويقول: "أرى تحدياً في محاولة المطابقة بين ما نراه في الأعمال المدونة وما نراه واقعاً وعمراناً. وبالمقارنة، فإن قياس الارتصافات أمر سهل، وربما يمكنك إيجاد مثال قد يكون صحيحاً أو قد لا يكون، وفي ذلك متعة. إلا أنك عندما تحصل على معلومات عن حضارة أو ثقافة ما، فيجب عليك مزاوجتها مع العلم والتجربة".
مضى على زواج آفني 50 عاماً (يؤكد لي أن ولديه وزوجته ليسوا مختصين بعلم الفلك)، وله حفيد يبلغ من العمر 13 عاماً يصحبه في جولاته الميدانية. أمضى آفني فصلاً دراسياً بعيداً عن جامعة كولغيت كي يعمل مع الباحثين بريكر. أما حبه لطلابه فما زال حاضراً بقوةً.
في العام 1982 نال آفني لقب الأستاذ الوطني للعام من قبل مجلس تطوير التعليم في واشنطن العاصمة. وفي عام 1991 أُدرج اسمه في قائمة مجلة رولنغ ستون لأسماء الأساتذة العشرة الأوائل في البلاد. وعندما سألته بماذا يأمل أن يحتفظ طلابه منه عند مغادرتهم حصته، يجيب: "..العاطفة! العاطفة تجاه أي شيء. أنا لا أبالي إذا فعلوا ما أفعل أنا؛ إننا لا نحتاج إلى عالم مليء بعلماء آثار فلكية. وإذا استطعت مساعدتهم في أن يعشقوا الموسيقى، فسيكون ذلك أمراً عظيماً".
جولة لعالم آثار فلكية في بلاد المايا
في بقايا مدينة تشيتشن إيتزا في بلاد المايا، تتداخل الأضواء والظلال مرتين في العام لتكشف عن هيئة ثعبان يتدلّى نزولاً على جانب درجات سلّم هرمها الأوسط. يحدث هذا في وقت الاعتدالين، عندما يعبر كوكبنا السريع الدوران نقطتين في مداره حول الشمس. عند هاتين النقطتين، يتوازن الليل والنهار بتعادل تام بينهما. يشهد هذا الهرم على أهمية الشمس والكواكب عند شعب المايا القديم. وهي لم تزل كذلك اليوم أيضاً ــ فالكثير من المكسيكيين والزوار الأجانب، يزورون هذا الصرح المكرس لإله الثعبان كوكولكان ذي الريش لمشاهدة تجلّيه السنوي. وفي وقت اعتدال قريب، جاء نحو 60 ألف زائر لمشاهدة هذا المشهد الجداري العابر على امتداد إل كاستيلو El Castillo ــ الاسم الإسباني للهرم. (تتشكل الأفعى على امتداد درابزين درجات الهرم في وقت الاعتدال الخريفي أيضاً، ولكن شهرتها أقل من شهرة حدوثها في وقت الاعتدال الربيعي).
يتصادف تاريخ الاعتدال الربيعي مع يوم ميلاد البطل المكسيكي بنيتو خواريز ، الذي يحتفل به رسمياً من قبل الحكومة المكسيكية في تشيتشن إيتزا. وبالإضافة إلى المحتفلين بيوم ميلاد البطل، يزور الناس هذا الموقع بدافع من فضول فلكي، ليدهشوا بنظرية أن بناة هذا الصرح قد استطاعوا تصويب المبنى بهذه الدقة والكمال لإعطاء دلالة على بداية الفصل الجديد من العام. كما أن الكثير من أفراد المايا الأحياء الآن الذين يبلغ عددهم أكثر من مليونين يأتون إلى هنا للمحافظة على موروثهم الثقافي والتاريخي.
يتدلى الثعبان الشاحب بكمال تام تقريباً على طول درجات الهرم لبضعة أيام قبل وبعد موعد الاعتدال. وفي يوم 23 آذار/ مارس أخذنا عالم الآثار الفلكية آنتوني آفني وكأنه مرشد سياحي إلى بقايا وآثار مدينة تشيتشن إيتزا، وهو يعير انتباهاً خاصاً لمن يستخدم مراجع فلكية. في ذلك اليوم قدم عدة مئات من الزوار ليشهدوا الظاهرة القصيرة الأمد، وذلك رغم غزارة الأمطار المدارية التي أعاقت مشاريعنا وخططنا طوال اليوم. تجمعنا أمام هرم كوكولكان عند الساعة الرابعة عصراً وبدأنا ننتظر ونأمل ببزوغ شمس ساطعة، لن يظهر الثعبان من دونها. ولم يخب أملنا يومها ــ فقد صفت السماء وانجلت الغيوم بما يشبه السحر عند الساعة الحرجة تماماً.
في أسبوع الاعتدال، لا يسمح لأحد بتسلق هرم كوكولكان، ولذلك فقد راقبنا هذه المرة من قاعدة الهرم. ولكن من أجل رؤية منظر أجمل للمبنى والمدينة ولكامل شبه جزيرة يوكاتان، فمن الضروري حقاً صعود الهرم إلى قمته. يوجد على كلٍّ من جوانب الهرم الأربعة 91 درجة، تعلوها جميعاً درجة واحدة أخرى تتيح إمكانية الدخول إلى المعبد. ويكون بذلك مجموع درجات الهرم 365 درجة، وهو ما يقابل عدد أيام السنة الشمسية. وتفصل تسعة سطوح الدرجات إلى 18 قسماً، هي الأشهر وفق تقويم المايا، وكذلك فكل واحدة من الـ 52 لوحة فوق السطوح تدل على سنة، لتبلغ ما يعادل القرن بحسب تقويم المايا.
إن جانب الهرم بالغ الميل، رغم عدم وجود شبه إطلاقاً مع ميله عند النزول، عندما يمسك كثير من الناس بسلاسل مثبتة مركزياً تدعم صعودهم ونزولهم.
نشأت تشيتشن إيتزا كقرية زراعية في أواخر القرن الخامس بعد الميلاد. لكن معظم ما بقي من المدينة، بما فيها هرمها المركزي، قد بُني لاحقاً، أثناء الحقبة التالية للعصر الكلاسيكي في بلاد المايا. يبلغ عمر الجدران الخارجية للهرم قرابة الألف عام، رغم وجود أهرامات أخرى أقدم وأصغر تحت معظم المباني الأحدث عمراً كل منها بني حول الآخر من قبل حاكم تال. لكن أهرامات العصر الكلاسيكي (200 ــ 950 بعد الميلاد)، مثل التي نشاهدها في تيكال في غواتيمالا، هي أكثر انحداراً. ونرى أن أعلى هرم مركزي في تيكال هو أكثرها انحداراً وأشدها ميلاً، وهو ما يجعل محاولة تسلقه صعبة للغاية.
ومن المعبد عند قمة كوكولكان، يمكنك أن تمسح بنظرك جميع الآثار تقريباً في منطقة تشيتشن إيتزا. يمكنك مشاهدة المرصد، ومعبد المحاربين، ومجموعة الألف عمود، ومنصة كوكب الزهرة، وأكبر بلاط ملكي في أمريكا الوسطى، وكذلك دير الراهبات. تقدم الأشجار والكروم المحيطة بالمباني غطاءً من ظلال خضراء تمتد خارجاً إلى آخر ما يمكن رؤيته. تبدو الأرض مسطحة في كل اتجاه. وحيث وجدت تلال صغيرة في المشهد أمامنا، فسيبدو ذلك مثل موقع محتمل لمعبد غير مكتشف بعد، مدفون بين ظلال الغطاء النباتي (وهذا يفسر سبب تأخر اكتشاف أكبر موقع أثري في بلاد المايا في كامل منطقة يوكاتان، وهي المدينة التي امتد حكمها ذات حين إلى منطقة تشيتشن إيتزا).
يمضي آنتوني آفني هنا كل أوقات الاعتدال الربيعي كضيف على شركة Royal Olympic Cruises، مقدماً لها محاضرات عن الصلات بين الناس والسماء. وهو واحد من ثلاثة علماء آثار يخبرون الزوار كل عام عن ثقافة وحضارة المايا أثناء إبحارهم عبر البحر الكاريبي. وفي هذه الرحلة إلى تشيتشن إيتزا تحدث آفني عن منصة كوكب الزهرة، والمرصد التام التراصف، وكذلك العشرات من اللوحات الهيروغليفية المنتشرة في الآثار التي تحتفي بالشمس وكوكب الزهرة وسواهما من أجرام السماء.
في هذه الرحلة، قامت ريبيكا ستوري، وهي عالمة أنثروبولوجيا جسدية من جامعة هيوستن، بمرافقة آفني، لدراسة العظام البشرية التي تعود إلى حضارات ما قبل الحقبة الكولومبية. كما أشرفت على دراسة 600 هيكل عظمي استخرجت من منطقة كوبان Copan في هندوراس (أخبرتنا أن البقايا البشرية الموجودة في مواقع آبار المايا المقدسة، لم تكن لأشخاص حديثي السن فقط، كما أخبر بذلك الزوار كثيراً، بل اشتملت أيضاً على عظام رجال وأشخاص من جميع الأعمار). وبالإضافة إلى ذلك، فإن زوجها وزميلها في الجامعة، راندولف ج. ويدمر، موجود أيضاً لشرح مجال واسع من المواضيع، بما فيها العلاقة بين بنّائي المايا وبيئتهم.
في عام 2002 قدمت شركة Royal Olympic رحلة بحرية مدتها عشرة أيام بدأت بجولة في مدينة تشيتشن إيتزا في وقت الاعتدال الربيعي. وعلى طول الطريق، كانت تقدم عروض النزهات الخارجية لاصطحاب الزوار إلى العديد من آثار المايا الأخرى، بما فيها تيكال وكويريغوا في غواتيمالا، وكوبان في هندوراس وتولوم وكوبا في المكسيك. يقدم كل واحد من مواقع المايا هذه تفاصيل مثيرة تربط حضارتهم بالسماء. وفي العام 2003، قدمت الشركة رحلات من 7 أيام مع محطات أقل. وبشكل بديل، فقد يرغب المرء بزيارة هذه الآثار بحسب حريته ورغبته الخاصة، دونما جولة مبرمجة مسبقاً. إن نداء الطبيعة الجميل هنا الذي يجتمع مع عبقرية البنائين يثير المشاعر ويدعو المرء لمراجعة أفكاره، ويمنحه شعوراً بالروعة والمهابة.
المصدر : الباحثون العدد 44 شباط 2011