لمدينة دمشق في الشعر العربي المعاصر حضور متميز لا نكاد نجد له جذوراً في الشعر العربي القديم، فدمشق على عراقتها وقدمها ودورها التاريخي والاقتصادي لم يكن لها حضور ماثل في ذاكرة الشاعر العربي في الجاهلية وقبل الإسلام، مثلما كان لمدن أخرى كبصرى وتدمر إلا من خلال إشارات عابرة نلمحها في شعر حسان بن ثابت في مدحه للغساسنة الذي أطلق عليها اسم جلّق، وسميت الفيحاء وجيرون قيل نسبة إلى جيرون بن سعد بن عاص، واحتفظ به باب من أبوابها السبعة، ومع أنها واحدة من المدن العشر في العصرين اليوناني والروماني أقيمت فيها الهياكل للإله جوبيتر، وأجريت فيها الألعاب الأولمبية في عهد "سبتموس سفيروس" ومنحت لقب مستعمرة رومانية زمن ديوكليسيان، وازدهرت بعد سقوط تدمر، إلا أن بُعدها عن طريق التجارة الدولية زمن الأنباط، وسيادة الثقافة واللغة الآرامية التي ظلت لغة سكانها والحاضنة لفكرهم قبل أن تتعرّب جعلها في عزلة عن الذاكرة الشعرية العربية، فلم يذكرها امرؤ القيس في معلقته المعروفة مع أنه ذكر مدناً ومواقع أقل منها شأناً لأنها لم تكن على طريق القوافل، وقد ارتبط اسمها ونشأتها بأساطير آرامية، وكانت مملكتها تتقدم الممالك الآرامية الأخرى زمن أنباط البتراء وتتحالف معهم في مواجهة الغزو اليهودي الهمجي لهذه الممالك المتحضرة، وقد تعربت سريعاً بعد انتشار القبائل العربية المهاجرة من الجنوب ومنهم الغساسنة، فأمست عربية الطابع والثقافة منذ الألف الأول قبل الميلاد، ثم أصبحت عاصمة لبني أمية ومركزاً بارزاً للثقافة العربية الإسلامية حتى بعد انتقال العاصمة إلى بغداد زمن العباسيين.
تُرى.. كيف بدت صورة مدينة دمشق في الشعر العربي؟
وهل صورتها في هذا الشعر منذ أن ورد ذكرها فيه ثابتة أو متحولة؟
فالمدن كالبشر لكل منها سيرة تتشكل عبر انطباعات سكانها وزائريها، تستمد ملامحها من طبيعتها وتاريخها ونشاطها الإنساني.
فدمشق في الشعر العربي القديم كان يتّسع مفهومها حين يطلق عليها اسم "الشام" وهو اسم يتجاوز حدود المدينة ليشمل الإقليم السوري كله، وقد يضيق مدلولها حين كان يطلق عليها اسم "الفيحاء" نسبة إلى غوطتها، أو "جلّق" نسبة إلى ضاحية من ضواحيها، وأكثر ما كان يلفت نظر الشاعر العربي القديم جمال طبيعتها وغوطتها وهي هدية نهر "بردى" بفروعه السبعة.. كما في قول البحتري:
أما دمشق فقد أبدت محاسنها وقد وفى لك مطريها بما وعدا
وقد يعتز الشاعر بالانتماء إليها فيحنّ إليها بعد غيابه كقول أبي تمام:
بالشام أهلي، وبغداد الهوى، وأنا بالرقمتين، وبالفسطاط جيراني
ويتجلى هذا الحنين لدى الشعراء من أبناء دمشق وسورية كابن عنين والوأواء الدمشقي من شعراء العصور المتأخرة، غير أن تردي الشعر في عصر الانحطاط قد حال بين الشعر وتسجيل أحداث ونكبات حلّت بدمشق، كاستباحة "هولاكو" للمدينة، ولم تكن تلك النكبة تقل هولاً عن نكبة "البصرة" حين استباحها الزنج التي سجل أحداثها الشاعر ابن الرومي.
لدى شعراء العصر الحديث ومنذ عهد النهضة تألقت صورة دمشق في الذاكرة الشعرية العربية، فأصبحت رمزاً للعروبة الصافية وقاعدة راسخة للنضال القومي، وحاضنة للتاريخ العربي زمن بني أمية، ومحجّة للعلم والثقافة، ومركزاً إسلامياً هاماً أفرز عدداً من الاتجاهات الفكرية والدينية في مواجهة الأفكار الفلسفية والدينية الوافدة، وتركت عراقتها التاريخية آثاراً خالدة مسطرة على أديمها من مختلف العصور، إضافة إلى نهضتها الحضارية، فهي مدينة تحتضن الماضي والحاضر، وتؤلف بينهما في تطلع إلى المستقبل المنشود، فهي مدينة شاب التاريخ ولم تشب.
وتحمل على عاتقها الهم العربي، وتبذل للحرية دم أبنائها قرابين على مذبحها، إضافة إلى جمالها الطبيعي حيث تحيط بها الغوطة إحاطة السوار بالمعصم، ويوزع نهر "بردى" الخير على رياضها الغناء، ولذلك ندر أن أغفل شاعر من شعراء العرب المعاصرين ذكرها وخصها بقصائد ومطولات عبّر من خلالها عن مشاعر الوفاء والحب لها ولأهلها، أفرد لها الشاعر أحمد شوقي قصيدته المعروفة حين زارها ومطلعها:
قم ناج جلّق وانشد رسم من بانوا مرت على الرسم أحداث وأزمان
وعدّها الشاعر حافظ إبراهيم جناح العروبة والإسلام في الشمال:
لمصر أم لربوع الشام تنتسب هنا العُلا وهناك المجد والحسب
ركنان للشرق ما زالت ربوعهما قلب الهلال عليها خافق يجب
وأفرد لها شعراء المهاجر مطولات ومنهم: جورج صيدح والشاعر القروي، وخلدها محمد مهدي الجواهري في رائعته المعروفة.. وفي قصيدته في رثاء الشهيد عدنان المالكي، وجسد الشاعر خير الدين الزركلي حنينه إليها، وجال في ربوعها الشاعر بدوي الجبل في بائيته، وخلدها الشاعر اللبناني "سعيد عقل" ومجّدها الشاعر أبي سلمى وقد عاش فيها، وشعراء آخرون لا يحصون عداً من مختلف أقطار العروبة رسموا صورتها فتماثلت لديهم الرؤى والمشاعر على تباين ما بينهم من صلتهم بدمشق وارتباطهم الوطني أو القومي بها، فتاريخها يجسد تاريخ العروبة العريق فلا يختزل بمرحلة من المراحل.
يبرهن طول نفس كل من هؤلاء الشعراء الذين رسموا صورة دمشق خلال مطولات شعرية حافلة بالمضامين الفنية والمشاعر الدافقة، وحرصهم على تجويدها لتكون أشبه بالمعلقات.
يبرهن ذلك عن عمق مشاعرهم نحوها، وحرصهم على تخليدها يليق بصورتها من روائع الفن الشعري، وتسليمهم بدورها النضالي الثابت، والذي رأوا فيه صدى لتطلعاتهم وآمالهم إضافة إلى دفء المدينة الإنساني وانفتاحها وطبيعتها الساحرة التي تستهوي قلوبهم المعلقة بالجمال، جمال الطبيعة وسماحة أهلها.
من بين الذين جادت قرائحهم في تخليد مدينة دمشق، شاعر سوري النشأة عراقي الإقامة، هو الشاعر "شفيق الكمالي" الذي ولد في مدينة البوكمال السورية عام 1930م، وانتقل إلى بغداد لمتابعة دراسته، واستقر بالعراق عند أعمامه، ودرس في بغداد والقاهرة ونال شهادة الماجستير في الأدب العربي، ثم تقلب في عدة مناصب بارزة.. منها وزيراً للشباب والإعلام، ونائباً لرئيس اتحاد الكتاب العرب، وأميناً عاماً لاتحاد الأدباء والكتاب العرب بدمشق.
وشفيق الكمالي شاعر عملاق يكتب القصيدة العمودية وقصيدة النثر والشعر الشعبي، وفنان تشكيلي بارز.
لم يكن "الكمالي" يؤمن بالحدود الإقليمية التي تكرس التجزئة فهو مناضل مؤمن بعروبته، ومع أن عقيدته القومية دفعته إلى الجمع بين السياسة والشعر، فذاق من السياسة الحلو والمر، وسجن وشرد؛ إلاّ أنه كان ينظر إلى دمشق ونهجها النضالي بعين الوفاء والتقدير، ويرى فيها البداية والنهاية لحلمه القومي.
ولم يكن يعترف بالحدود التي فرضها الاستعمار.
من أبرز القصائد التي خلّد بها دمشق رائعته التي بلغت ثمانين بيتاً، وهي من المطولات الجياد التي بذل فيها الشاعر جهده الفني والإبداعي لتكون في مستوى القصائد الجياد التي خلدت دمشق، وقد بناها على سبعة مقاطع.. يتألف المقطع الأول منها من عشرة أبيات تبرز حنينه إليها بعد غياب طويل، وحرص شأن الشعراء الاتباعيين المحدثين أن يستهلها بمطلع قوي النسج، مفعم بمشاعر الحب والاعتزاز.
قبلت مروان في عينيك والحكما وصفت فيك تباريح الهوى نغما
ندية من شواطي دلجة لُجمي مستشرفات سهول الشام والأكما
والشاعر "الكمالي" يستعير روح التاريخ في محجته إلى عاصمة بني أمية، فهو لا يفد إليها فرداً وإنما يمتطي خيل المثنى ومن حوله خيول فرسان ذي قار، حيث حلقات النضال موصولة عبر تاريخ الشام والعراق، يحفزها الشوق إلى معانقة أهل دمشق، ولو تستطيع أن تطير إليها بريش القوادم ما توانت.
ثم يبرز مشاعره الصادقة في رحلة إليها، فلا يزورها طالباً الغُنم وإنما يحدوه حب عميق متأصل في أعماقه.
يا شام ليس الذي يأتيك مؤتزراً بالحب، مثل الذي يأتيك مغتنما
شتان بين خضم هادر لجب يعطي وبين غدير يرتجي ديما
وبين طالب قرب واهب دمه مهراً وبين الذي أزجى الكلام وما
وربما كان "الكمالي" في هذه الأبيات يعرض برحلة الشعراء التقليدية إلى الممدوحين طلباً للمكافأة، وهو تقليد يرفضه، ولعله ظل سائداً في عصرنا، مثلما يرفض ممارسيه، وأن حنينه إلى دمشق ينطلق من عقيدته القومية، والآمال التي يعلقها على خطها النضالي، ثم يعتذر لغيابه عنها:
يا شام طال النوى حتى تهيّمني كون من الشوق ضار في الحشا احتدما
حملت غيم حنين مُسكر بدمي حتى إذا مرّ فوق الغوطتين همى
وفي المقطع الثاني يشير إلى الروابط العربية التي تربطه بدمشق ويظهر قلقه من انقطاع الخيط الذي يربطه بدمشق المناضلة، فهو يخشى على حبها مثلما يخشى على ولده:
ألزمت نفسي عشق الشام لا كدر يصدني.. لا ولا عايشته بَرِما
يا ضفتَي بردى لست المساوم في حبي وكم أورثتني جرأتي تُهما
تالله ما رف في صدري رفيف هوى إلا وكان جناحاه صدى لكما
لئن تحملت في النعمى أريج هوى لقد تحملت في البؤس أريج دما
وفي المقطع الثالث يشيد "الكمالي" بشموخ دمشق وبالقيم العربية التي تبنتها عبر التاريخ، فهي قيم حضارية وبيادر نور:
يا بنت مروان يا كبراً همى قيما ويا مناقب قوم حضّرت أمما
ويا بيادر نور لوّنت زمناً وجه السماء، وفاضت هادراً غرما
أصيلة لم تزل كالهول مرعدة بروقها تورث المستكلبين عمى
ويؤكد "الكمالي" منزلة دمشق في قلبه، فلن يتحول عن حبها مهما بَعُد عنها، أو فرقته بينه وبينها الظروف وأحوال السياسة، ولئن تشفّى بعض المارقين حيال القطيعة التي تفصل بين دمشق وبغداد فإن الدم العربي ليس ماء، فهو كفيل أن يداوي الجراح.
ليظل هذان القطران بمثابة الشريانين النابضين في جسد الأمة، تظل حية ما داما ينبضان:
أيصبح الدم ماء عند أكرمنا إذن فلا خَصبت أنثى لنار رحما
عرقان في القلب يذوي الجسم أجمعه بالداء والنابضان الباقيان هُما
وفي المقطع الرابع، يستعرض الشاعر الكمالي تاريخ دمشق العريق بالأمجاد، فماضيها يحفل بجلائل الأعمال، ويتذكر بطولة خالد بن الوليد في اليرموك، وصلاح الدين الأيوبي في حطين، وطارق بن زياد في الأندلس، ويوسف العظمة في ميسلون، حيث انبرت العروبة تدافع عن ساحتها وتصد المجترئين على حماها، فلا يلين لها قناة، ويسخر من وقفة "غورو" على قبر صلاح الدين بدمشق معتداً باحتلاله سورية، ولو كان صلاح الدين حياً لما جرؤ أن يواجهه:
هذا التراب صلاح الدين سال به مروءة وصلاح الدين سال دما
أرى بها خالد اليرموك منتفضاً وألتقي طارقاً فيها ومعتصما
وتستطيل فألقى ميسلون بها مجد يسلم مجداً بعده العلما
عود العروبة لو هبت مزعزعة عليه كل رياح الأرض ما انعجما
وفي المقطع الخامس، يشير "الكمالي" إلى اندحار الغزاة على أبواب دمشق، فالشام قبر لغزاتها، فدمشق لن تخضع لفاتح مهما عتا:
كم مرّ قبلك من غاز فما سلما ولا استقر له بال ولا نعما
فالشام مأسدة حتف لنازلها وأحمق الصيد صيد هيّج الأجما
من ظن يوماً بأن البغي روّضها حتى استقرت على حال فقد وهما
شتان بين بغاث همها شبع وبين جارحة تستشرف القمما
وفي المقطع السادس، يتحول الشاعر إلى فلسطين، فيتذكر جرحها الناغل، ويؤكد أن تحريرها سيتم بنضال أبناء الشام والعراق فهما شفرتا سيف العروبة وجذوة عزها، مثلما حرر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بثورته الإسلامية الشرق من طغاته، وسيتجدد بنضالهما قدر الله:
والشام منها ابتدأنا أمة عرفت سيفاً يصون وفكراً مثله جذما
بعنفوان الهدى هزت جحافلنا صرح الطواغيت في الشرقين فانهدما
يا شفرتَي سيف هذي الأمة التمعا كشعبتي ذي الفقار انسل منتقما
وفي المقطع السابع والأخير: يحيي الشاعر أمجاد دمشق ويبارك عزتها وشموخها فهي التي علمت المدن الإباء والدفاع عن الكرامة شأن بغداد وهما توءمان اقتسما شموخ العز:
المجد يا جلّق الأمجاد ما فُطما ما دام صدرك ثراً يرضع الشمما
والكبرياء بغير الشام ما غرست والشعر إلا لوجه الشام ما نُظما
استغفر الله في بغداد دوحته يا توءمين شموخ العزة اقتسما
لقد نظم الشاعر "شفيق الكمالي" رائعته عام 1978م في ذروة المد النضالي الثوري العربي الذي اتسعت موجته، فكان تعبيراً عن النزوع العربي إلى الوحدة والتحرير. وبموازاة ما أبدعه قلم "الكمالي" بالقصائد المماثلة التي نظمت في دمشق، نلاحظ أن الشاعر لم يتناول من صورة دمشق سوى جانبها النضالي والتاريخي، ولم يتصرف إلى التغني بجمالها الطبيعي شأن بقية الشعراء، فكان همّه القومي مدار تعبيره وقد أغناه تفصيلاً.
وعلى صعيد التشكيل الشعري بدت اللغة بنصاعتها ومتانة نسجها هي العنصر الحاسم في بناء الشعر، وتلك سمة الشعر الاتباعي الحديث الذي استعار من الشعر العربي الموروث موسيقاه وإيقاعه المتألق، ونزعته الغنائية والخطابية المجلجلة، حيث تبرهن اللغة عن جماليتها وتكشف عن حليها، فليس سواها أداة للوصول إلى قلب القارئ بما تحمل من طاقات وتجليات، وما تنهض به في التحليق بعالم الخيال والمجاز، وهي سمات تدفع كل القصائد التي قيلت في دمشق في تلك المرحلة من عصر النهضة الأدبية، حيث تبدو امتداداً للشعر العربي القديم وتجذره في وجدان الإنسان العربي قبل أن يتحول الشعر بعد الحداثة إلى آفاق جديدة.. ولم يتوان الشاعر "الكمالي" عن التحليق فيها بقدر من الكفاية والإبداع وتطوير أساليب التعبير لا يقل عن قدرته على نظم الشعر الاتباعي.. ففي قصيدة بعنوان "عراقية" كانت الريح تطل صورة دمشق من خلال قصيدة النثر وقد اكتسبت طابعاً جديداً من التحليق الشعري.. فالشاعر وهو يستعرض التاريخ العربي المعاصر، والذي تتجاذبه الصراعات بين المد الثوري وسياسة الأحلاف والارتهان للمخططات الغربية، والشاعر يمتطي جناح الخيال ويتحول التعبير في قصيدة النثر لديه إلى لون من اللمح والإيجاز، بعيداً عن التقريرية والمباشرة اللذين وسما شعره الاتباعي، ولا يذهب بعيداً في الغموض والتكثيف، ويظل شعر "شفيق الكمالي" معلماً بارزاً على دروب الإبداع الشعري، وتظل شاعريته العملاقة بطاقاتها الفنية شاهداً على مكانته بين شعراء العصر..
المصدر : الباحثون العدد 44 شباط 2011