بمقدورها تفجير دموعنا شجناً أو رسم الابتسامات على شفاهنا حبوراً أو إيقافنا على رؤوس الأصابع ترقباً أو السير بنا إلى أرض المعركة حماسةً أو تسليمنا إلى النوم هدهدةً، تلك هي بعض مظاهر التأثير الساحق للموسيقى في بني البشر. وربما لهذا السبب بالذات، لم توجد على الإطلاق حضارة أو ثقافة إنسانية عاشت على وجه الأرض بدون موسيقى. والبشر على الأغلب خبروا الموسيقى قبل أن تكون لهم ثقافة أو حتى لغة. وقد تكون الاكتشافات الأخيرة في فرنسا وسلوفينيا لآلات الناي التي صنعها أبناء عمومتنا النياندرتال من عظام الحيوان والتي يعود تاريخ صنعها إلى (53) ألف سنة مضت، أي ضعف المدة التي انقضت على رسوم الكهوف الشهيرة في لاسكو، خير دليل.
وعلى الرغم من قدم الموسيقى وطبيعتها البدائية عانى العلماء في محاولاتهم التصدي لبعض الأسئلة الأساسية حول أصولها وجدواها؛ أسئلة مثل كيف يكون ممكناً للأصوات، من حيث هي مجرد أصوات، إحداث هذا التأثير العميق في سامعيها ؟ كيف يقوم الدماغ بمعالجة الموسيقى (بالمفهوم المعلوماتي) ؟ هل هناك دارات عصبونية دماغية خاصة مكرسة لإنتاجها أو لفهمها؟ وإن كان هناك دارات عصبونية موسيقية، هل هي مثل دارات اللغة، لا توجد في غير البشر، أم هناك أحياء أخرى تمتلك مثيلات لها؟.
لقد اعتُقد تقليدياً أن نصف الكرة الدماغية الأيمن هو الموقع الذي يتذوق الموسيقى ويتأثر بها، ولكن لا أحد استطاع العثور على مركز دماغي خاص بالموسيقى فيه أو، في واقع الحال، في أي مكان آخر في الدماغ. والدراسات التي تناولت قدرة فهم الموسيقى من قبل الأشخاص الذين تعرّض أحد نصفي أدمغتهم للضرر، فضلاً عن تفرس أدمغة أشخاص آخرين أثناء استماعهم لمختلف النغمات، أظهرت أن إدراك الموسيقى ينبثق من تفاعل الفعاليات في كلا نصفي الدماغ. فالموسيقى وسواها من الأصوات التي تدخل الأذنين تذهب إلى اللحاء السمعي وهو مجموعة من العصبونات، تقع في المنطقة التي تعلو الأذنين قليلاً في الفص الصدغي في جهتي الدماغ، مهمتها إدراك المثيرات السمعية والتعرف عليها وتمييزها.
وليس واضحاً، كما يقول مارك ترامو، الموسيقي وكاتب الأغاني الوافر الإنتاج وأستاذ العلوم العصبية في جامعة هارفارد، ما هو الدور الذي يؤديه اللحاء السمعي، إن كان له أي دور أصلاً، في "الإحساس" بالموسيقى، ولكن من الواضح الآن أن هناك مناطق أخرى من الدماغ ذات علاقة بالإنصات للموسيقى والتفاعل معها انفعالياً، لذا فإن جهوداً حثيثة تبذل في إعداد خارطة للتوصيلات بين اللحاء السمعي والأجزاء المسؤولة عن الانفعالات. والأمر المثير للانتباه أن الباحثين وجدوا نشاطاً في بعض مناطق الدماغ التي تسيطر على الحركة عندما يستمع الأشخاص إلى الموسيقى بدون أن يقوم هؤلاء بتحريك أجسامهم. إذ ما إن تفكر بأن تحرك قدمك مع إيقاع الموسيقى فإن أجزاءً من النسق الدماغي الحركي تقدح في دماغك. لذا كما، يؤكد ترامو، فإن الموسيقى، متأصلة حركياً كما هي متأصلة سمعياً. إذ إن غالبيتنا ’يقود‘ كما يفعل قائد الاوركسترا خلال استماعنا إلى الموسيقى حتى دون أن نحرك أيدينا، ونحن ندندن مع النغمات الواطئة، ونشعر بالرغبة في أرجحة أجسامنا مع الأغنيات الشائعة. وإذا ما أضفنا مساهمة قسمات الوجوه، وأنوار المسرح والانفعالات الجياشة، فإننا لا نملك إلا أن نقدر التركيبة المعقدة التي يضعها دماغنا مجتمعة في خدمة الاستماع للموسيقى والتفاعل معها أكان ذلك في القاعات والمسارح الكبيرة أم في غرفة صغيرة لا تضم سوى عدد محدود من المنصتين أم أثناء الإنصات الانفرادي.
في كل الأحوال يمكن القول الآن، ابتداء، إن الاكتشاف الأكثر أساسية الذي توصل له الباحثون هو أن الموسيقى، تستثير مناطق دماغية كثيرة بما في ذلك مناطق منوط بها أنواع أخرى من العمليات الدماغية. لهذا السبب يؤكد ترامو في مقالة نشرت مؤخراً في مجلة سانيس: إن الدماغ لا يحتوي على " مركز خاص بالموسيقى " كما كان يعتقد كثيرون. وكان ذلك واحداً من الاستنتاجات التي توصل لها والتي استخلص بعضها من دراسات استخدمت فيها تقانات تفرس الدماغ بينما استخلص بعضها الآخر من الاختبارات التي أجريت على المرضى الذين تعرضوا إلى أضرار دماغية غير نمطية. وقد بيّنت خلاصة تلك الدراسات، وبدون الدخول في تفاصيلها الفنية، أن الأشخاص الذين لديهم ضرر في الفص الصدغي الأيسر من الدماغ يجدون صعوبة في تمييز المفتاح الموسيقي بينما يعاني أولئك الذين لديهم ضرر في نفس المكان من الفص الأيمن، صعوبة في تمييز التغير الحاصل، ومن الأمور الأخرى التي أخذت تتضح هي أن مناطق لم تكن متوقعة وليست مخصصة لوظائف مركبة تؤدي أدوراً في تفسير الموسيقى وتأليفها والشعور بها وأدائها، فضلاً عن أن بعض الباحثين أظهروا أنه حتى منطقة اللحاء البصري المسؤولة عن إدراك وتعرف المثيرات البصرية هي الأخرى تسهم في تلك الفعاليات. إذ باستخدام التفرس بواسطة قذائف البوزترون لتعرف تأثير تغيير طبقة الصوت في بعض مناطق الدماغ وجد هارفه بلاتل وجين كلود بارون وزملاؤهم في جامعة كُن في فرنسا، لدهشتهم، أن أجزاء من منطقة برودمان في اللحاء البصري تتوهج كلما غيروا طبقة الصوت. وتعرف هذه المنطقة بشكل أفضل على أنها "عين الذهن، لأنها بالأساس" الكانفاس" الذي "نرسم" عليه أخيولاتنا، وكل الصور المتخيلة تبدأ هناك. لذا فإن بلاتل وبارون يقترحان رأياً مفاده أن الدماغ ينشئ صوراً رمزية للمساعدة في فك مغاليق التغير الحاصل في طبقة الصوت وربما في جوانب أخرى من البنية الموسيقية.
ولكن الموسيقى تتغلغل أعمق من ذلك نزولا من الطبقات الخارجية للحاء السمعي والبصري وصولاً إلى النسق الحافي - تكوين دماغي موجود في اللبائن كافة ـ الذي يقع في ’لبِّ‘ الدماغ وهو المكان الذي يولّد انفعالاتنا. وكل انفعال يتولد هناك ينتج مجموعة معروفة من الاستجابات الفسلجية النمطية؛ الحزن، في سبيل المثال، يسبب تلقائياً تباطؤاً في النبض وارتفاعاً في ضغط الدم وانخفاضاً في قابلية الجلد على التوصيل وارتفاعاً في حرارة الجسم. وهكذا لكل انفعال مجموعة استجاباته الفسلجية الخاصة. وبواسطة قياس هذه الاستجابات الفسلجية تبين لكارول كرومهانسل من جامعة كورنيل أن الموسيقى تحدث طيفاً متنوعاً من الانفعالات، وقد وجدت، في سبيل المثال، أن الموسيقى ذات الإيقاع السريع في مفتاح "ماجور" تحدث تغيرات فسلجية مرتبطة بالبهجة أو الفرح، بينما في المقابل يستثير الإيقاع البطيء في مفتاح "ماينور" الشجن أو الحزن في المستمعين.
ولا يبدو أن مثل هذا التأثير الساحق للموسيقى في الجهاز الحافي وغيره مجرد مصادفة كما يؤكد بعض الباحثين؛ ففي ورقة نُشرت مؤخراً في مجلة ساينس اقترحت باتريشيا كري، رئيسة برنامج "بيولوجيا الموسيقى" في الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم، وزملاؤها أن الموسيقى جاءت إلى هذا العالم قبل أن يجيء البشر إليه بزمن بعيد، مضيفين أن حقيقة أن تجمع موسيقى الحيتان وموسيقى البشر مشتركات كثيرة، على الرغم من أن دربنا النشوئي قد افترق عن الحيتان منذ أكثر من (60) مليون سنة، تشير إلى أن الموسيقى سابقة للبشر، وبدلاً من أن نكون نحن من اخترع الموسيقى فإننا، على ما يبدو، قادمون متأخرون إلى المشهد الموسيقي. وتلاحظ كري وزملاؤها أن مؤلفي موسيقى الحيتان حدباء الظهر تستخدم نفس طرق مؤلفي الموسيقى من البشر ومناوراتهم. إذ فضلاً عن استخدامها نفس الإيقاعات، فإن حدباء الظهر تبقي المقاطع لبضع ثوان منشئة نغمة لَحْنية رئيسة منها مع بعض التنويعات اللحنية عليها قبل غناء النغمة التالية. وغناء الحيتان عموماً، كما تشير كري، ليس أقصر من أنشودات البشر وليس أطول من الزمن الذي تستغرقه حركات السمفونية، ربما لأن الامتداد الزمني لانتباه الحيتان والبشر متقاربان. وعلى الرغم من أنها قادرة على الغناء على مساحة سبعة أوكتافات فإن الحيتان تنشد نمطياً وفقاً لمفتاح وتميز بين النوتات المتجاورة ولا تبتعد عن السلّم الموسيقي، وهي تخلط النقر مع النغمات الصافية بنفس القدر من التناسب الذي يستخدمه مؤلفو الموسيقى. وتتبع الحيتان نفس الشكل- آ ب آ- الذي تقدم فيه النغمة اللحنية الرئيسة وتنويعاتها ومن ثم زيارتها ثانية مع تعديل طفيف عليها. والأمر الأكثر إثارة للدهشة كما تقول كري إن أغاني حدباء الظهر تتضمن لوازم غنائية مسجعة مكررة، وإن هذه الأغاني يمكن تعلمها وترديدها من قبل مجموعات حيتان أخرى من غير المجموعة الأصلية التي أُلفت فيها تلك الأغاني. والمواهب الموسيقية والالتزام بقواعد التأليف المعروفة هذه موجودة أيضاً في كائنات أخرى مثل الكثير من أنواع الطيور، لذا فهي نادراً ما تصدر أصواتاً ناشزة، وربما لهذا السبب نطرب عادة لغنائها أو لتغريدها.
إن إيضاح كيف يكون بمقدور الموسيقى إحداث انفعالات في مستمعيها ينال أهمية إضافية طالما أن الموسيقى تُستخدم بالفعل في عدة تطبيقات في الحياة اليومية تؤدي فيها انفعالات الموسيقى دوراً رئيساً كما هو حال الموسيقى التصويرية في الأشرطة السيمية - ولعل كاتب المقال لازال يتذكر الوقع الصاعق لموسيقى مشهد الحمام في شريط "سايكو" - وفي أشرطة الدعاية التسويقية وفي العلاج النفسي. وبحسب ترامو فإن دراسة الجوانب الإحيائية للموسيقى بمقدورها - فضلاً عن زيادة فهمنا الأساسي لها - أن تؤدي إلى تطبيقات عملية ذات علاقة بالتعلم، والصمم، وتنمية الشخصية، وبمقدور الموسيقى، كما تشير الدراسات مؤخراً، المساعدة، ضمن أمور أخرى، في خفض ضغط الدم وتخفيف الإحساس بالألم. وبإمكان فهم بيولوجياً الموسيقى من الناحية الأخرى تمكيننا من استخدامها على نحو أفضل في المجال الطبي وسواه من المجالات التي تشير الأدلة إلى أن الموسيقى يمكن أن تكون مفيدة فيها. إذ وجد أن استخدام الموسيقى الناعمة في وحدات العناية المركزة للأطفال الخدج، فضلاً عن مناغاة الأمهات والممرضات، تساعد الأطفال في اكتساب زيادة في الوزن بصورة أسرع ومغادرة الوحدة أبكر من أولئك الأطفال الذين لم يستمعوا إلى أي من تلك الأصوات. في الطرف الآخر من متصل السن وجد أن استخدام الموسيقى مع مرضى الزهايمر لا يخلو من فوائد هو الآخر. إذ في أوقات الوجبات في بيوت رعاية المسنين أو المستشفيات يكون من الصعب تنظيم هؤلاء الأشخاص، وكثيراً ما تتفجر النزاعات وأحياناً الاشتباكات بينهم، ولكن مع النوع الملائم من الموسيقى، اتضح أن مثل هذه الخصومات والمنازعات تقل بشكل مؤثر.
ولكن على الرغم من أن البحوث حول تأثير الموسيقى في الدماغ والانفعالات على وجه الخصوص شهدت ازدهاراً غير مسبوق في العقدين الأخيرين إلا أن الأدبيات المنشورة قدمت تصورات شتى وآراء متعارضة حول كل جانب من جوانب الموضوع. بعض الدراسات خلصت إلى القول أن الاستجابات الانفعالية للموسيقى لا تحدث تلقائياً أو اعتيادياً، في حين أن بعضها الآخر يؤكد العكس موضحاً أن تلقائية الاستجابة الانفعالية للموسيقى أمر لا يمكن إخفاؤه أو إنكاره. بينما يعتقد فريق ثالث من الباحثين، إنه في قلب هذه الجدال، تكمن حقيقة أن غالبية الباحثين لم يكرسوا انتباهاً كافياً للسؤال الآتي : كيف يمكن للموسيقى استثارة تلك الانفعالات؟ إذ إن كثيراً ممن كتب حول الموضوع حديثاً يتفق على أن هذه المسألة هي المسألة الأكثر أهمية، فالأمر المتعارف عليه هو أن الموسيقى تستثير استجابات انفعالية عنيفة وهم يريدون معرفة لماذا يحدث هذا. مع ذلك فإن استعراضاً لما كتب يظهر، على نحو يثير العجب، أن عدداً ضئيلاً منه قدم محاولات لا أكثر لإيضاح الآليات النفسية الكامنة خلف استجابة المستمعين الانفعالية للموسيقى1.
وبحسب شيرر وزنتنر فإن استثارة الانفعالات بواسطة الموسيقى تدل ضمناً أو تنطوي ضمناً على أن العمليات الانفعالية تنتج مباشرة بواسطة تثمين الحدث الموسيقي ذاته ! بينما يشير باحثون آخرون ممن حاولوا تفسير استثارة الانفعالات الموسيقية مثل كارفر وشايز إلى أن الحالة الانفعالية المرتبطة بالموسيقى تبدو مختلفة عن تلك التي تحدث استجابة لأحداث الحياة اليومية، إذ أن الانفعالات، بحسب رأيهما، تستثار عندما يتم تثمين حدث من قبل الشخص على أنه يمتلك القدرة على التأثير بصورة من الصور على أهدافه. لذا فإن رأياً سلبياً، في سبيل المثال، من قبل مراجع لمخطوطه، يمكن أن يهدد هدف المؤلف في نشرها، بمقدوره إثارة انفعالات من قبيل الغضب أو الإحباط. ولأن الموسيقى على ما يبدو ليس لديها قدرة على تحقيق هدف أو أن تحول دون تحقيقه، فإنه من المستغرب، كما يعتقدون، أن تثير انفعالاً. لذا فإن بعض الباحثين مثل كيفي وشيرر رفضوا فكرة أن تستثير الموسيقى انفعالات من قبيل انفعالات الحياة اليومية الشائعة مثل الحزن والسرور والغضب. ويبدو أن هذه الآراء تستند على فرضية استعرافية مفادها أن مثل هذه الانفعالات تحتاج أن تعكس تثميناً استعرافياً. لذا فإن الفرضية الرئيسية للنظرية التثمينية هي أن الانفعالات تنشأ وتميز على أساس تقييم الشخص الذاتي لحدث ما على وفق أبعاد تثمينية تتعلق بأهداف حياته اليومية. وغني عن البيان أن مثل هذه الآراء تأتي في سياق سعي بعض النفسانيين الاستعرافيين الحثيث نحو تحجيم الانفعالات ولي ذراعها كيما تخضع لمخططهم الاستعرافي الخاص، على الرغم من أن الانفعالات أعتق نشوئياً من الاستعراف ولا تخضع غالباً لأحكامه ومعاييره.
لذا فإن الأدلة التي توفرت في الآونة الأخيرة تشير إلى أن معظم الاستجابات الانفعالية للموسيقى لا تحتوي على تضمينات ذات صلة بأية أهداف حياتية يمكن تبينها، مما يفسر لِمَ بقيت محافظة على غموضها. اذ إن استجابة المستمع الحزينة تبدو مفتقدة للمعتقدات المرافقة نمطياً "للحزن" أو بتعبير آخر "أنا أشعر بالحزن ولكني لست حزيناً". لذا يشير باحثون مثل كابريلسون إلى ضرورة تجاوز النظرية التثمينية، والالتفات إلى طرق بديلة أقل تبسيطاً يمكن للموسيقى استثارة الانفعالات بواسطتها، إذ إن هناك آليات أخرى أكثر صلة بموضوع الموسيقى ولكن المشكلة هي أن غالبية الباحثين، على ما يبدو، تبنوا خطأ فكرة أن الانفعالات الموسيقية يمكن دراستها ووصفها بدون أخذ النظر إلى كيفية نشوئها أو استثارتها بعين الاعتبار.
ولعل البداية تكمن في الانتباه إلى أن الأطفال يولدون ومعهم تفضيلاتهم الموسيقية، بل إنهم يبدؤون الاستجابة للموسيقى وهم أجنة في الأرحام، ويستنتج الباحثون من ذلك أن مثل هذه الاستجابات دليل على أن بعض الأسس والقواعد التي تحكم الموسيقى، فضلاً عن الاستجابة لها، تمتلك مراكزها وتوصيلاتها العصبونية الراسخة في الدماغ، لذا فإن مؤلفي الموسيقى الذين يخرقون تلك الأسس والقواعد على نحو مكشوف يجعلون جمهورهم من الصغار والكبار يتلوى ضيقاً واستنكاراً. ويشير كي شيلمي أستاذ الموسيقى في جامعة هارفارد إلى أن كل إنسان يأتي إلى الدنيا تأتي معه قدرات موسيقية جِبلّية، ومنذ سن مبكرة تعدل هذه القدرات وتكيف بواسطة الأنساق الموسيقية السائدة في البيئة الثقافية التي ينشأ فيها الطفل، لأن البيئة الثقافية، كما لا يخفى، تتدخل في تكوين بنية الآلات الموسيقية المستخدمة وأسلوب غناء الناس وكذلك في طريقة إنصاتهم للأصوات المختلفة وإدراكهم لها.
أما عند الحديث عن الأفضلية النشوئية التي يمكن أن تمنحها الموسيقى للبشر فإن الباحثين هنا يختلفون فيما بينهم اختلافاً بيِّناً؛ اذ بينما يعدها ستيفن بنكر الباحث الألسني في معهد ماساشوسيت للتكنولوجيا مجرد "كعكة جبنة" – مقارنة بالطعام الحافظ لاستمرار الحياة ـ أو "مجرد حادث نشوئي طارئ يحصل على عبور مجاني ممتطياً ظهر اللغة"، فإن باحثين كثيرين يخالفونه الرأي، بما فيهم جيوفري ميللر من كلية لندن الجامعة، مشيرين إلى أن "حدثاً طارئاً" لا يمكنه أن يستثير مراكز عتيقة من الدماغ مثل بعض أجزاء المخيخ، مقترحين أن تكون للقابلية الموسيقية أفضلية مشابهة لتلك التي يمنحها المنكبان العريضان أو الريش الاستعراضي المزركش المبهر، لأنها تيسِّر استعراض مظاهر اللياقة أمام شريك محتمل، إذ، بعد كل شيء، فإن الغناء أو العزف على آلة موسيقية أو تأليف الموسيقى تتطلب مهارة فكرية وحركية وحساسية انفعالية وذاكرة جيدة وهذه صفات لا شك مرغوب بها من قبل الشريك المحتمل. ويضيف دانييل ليفيتين من جامعة مكجيل رأياً آخر في هذا السياق مفاده أن الموسيقى قد تخدم غرضاً تواصلياً، وربما كانت بداياتها تقليداً واستحضاراً للإيقاعات والكِفاف التي اتسمت بها نداءات وصيحات أسلافنا الأولين. وكذلك يشير إلى احتمال أن تعمل الموسيقى على تحقيق أفضلية من خلال استثارة إيقاعات إدراكاتنا البدائية للتوقيتات، إذ إن الموسيقى هي بالأساس فعالية زمانية، ويمكن للموسيقى كذلك، بحسب ليفيتين، أن تستثير دوافعنا للعثور على المواضيع المنمطة في البيئة، إذ إن الدماغ يحاول بصورة متواصلة استخلاص النظام من اللانظام، والموسيقى يمكن أن تكون لعبة أنماط رائعة في خدمة وظائفنا الاستعرافية العليا. وخلاصة القول، فإنه من المؤكد أن الباحثين لن يتفقوا في وقت قريب على هدف للموسيقى، وهو أمر، لحسن الحظ، لن يمنع أياً منّا عن الاستمتاع بها.
هوامش:
(1) إن استخدام مصطلح "آليات نفسية" يأتي هنا بمعناه الواسع والذي يشير إلى أية معالجة من شأنها إثارة انفعالات أثناء الاستماع إلى الموسيقى، وهذه المعالجة يمكن أن تكون بسيطة أو مركبة، شعورية أو، غالباً، لاشعورية.
المصدر : الباحثون العدد 44 شباط 2011