في المواجهة الحتمية لارتفاع حرارة الأرض التي بدأت تباشيره جلية لنا، ربما قد يسمح لنا العلم والتقنية بالتصدي لهذه الظاهرة. إنها نظرية يعتقد بها العديد من العلماء وبعض الخياليين الذين ينادون بتجاوز المحدود والتفوق على الذات البشرية. في خلاصة كتاب "المختصر في قصة المناخ" لفريديريك دينيز(2) يتوقع فيه التغيير في حدود أعوام 2050، لأنه مهما تكن نسبة تناقص غاز الفحم التي سنحققها، فإن الغاز المتراكم في الجو حتى الآن بالإضافة إلى جمادية الأرض، سيؤدي إلى ارتفاع الحرارة الذي سيعدّل الطبيعة وظروف الحياة. وهي ظروف قد تغيّرت وتحولت تحولاً كبيراً. فمنذ قرنين من الزمن، حيث كانت البشرية منكبَّة على أبحاثها في التطور والنمو وفي السيطرة على محيطها، أهملت النظام البيئي الذي أبدعته، نظام بيئي ميكانيكي ملوِّث شره للطاقة والتي فيه تمثل السيارة خدعة كبيرة للإنسان وللأجواء (3)، ولم تصغِ إلى الأصوات الخضراء المنذرة بمستقبل ساخن يهدد المحيط الحيوي بأكمله.
ظهر التوجه الأخضر في القرنين الماضيين، وكأنه عصر صوفي، بدءاً من منشورات المجلة العلمية Nature عام 1836 من قبل الفيلسوف والباحث رالف والدو إيمرسن Ralph Waldo Emerson وصولاً إلى نضال جون موير John Muir المدعوم من تيودور روزفلت Theodore Roosevelt، من أجل إنشاء أول حدائق قومية في الولايات المتحدة في إطار الحركة المحافظة على التربة "conservationiste".
وفي القرن التاسع عشر أطلق هنري د. ثورو-1817 Henry D. Thoreau) 1862) في كتابه "الحياة في البراري Walden" 1854)) فكرة تأمل الحياة البرية يظهر فيها حب البيئة بروحانية دون ديانة حيث شاعت مقولته الشهيرة أن "الحياة البرية هي خلاص العالم".
أما في ألمانيا فقد أوجد إيرنست هيكل(4) (1834- 1919) Ernest Haeckel التعبير علم البيئة (1866) من الكلمة اليونانية oikos ومعناها "البيت". وهيكل هو أول من جعل من مفهوم البيئة علماً كما أنه الرجل العلمي الأول الذي وضع الأسس النظرية والممارسة التي تبرز المسائل المهددة للبيئة والتي ينبغي مواجهتها. نادى بإصلاح سياسي مبني على المعرفة العلمية لعلاقات الإنسان مع الطبيعة في احترام أساسي للجمال والنظام اللذين يسودان فيها.
ولعلم البيئة رؤية جذرية تضع الطبيعة وليس الإنسان في الوسط ولا تمنح أي أولوية للبشر في الدفاع عن حقوق الأنواع الحية(5). ويعود تأسيس مفهوم الكائنات الحية ومحيطها (1863- 1945) biosphere إلى العالم الأوكراني فلاديمير فيرنادسكي Wladimir Vernadsky. وتطبيقاً لهذه الرؤية قضى عالم البيولوجيا إيدوين بيستر Edwin Pister فترة طويلة من حياته وهو يحاول إنقاذ أنواع مختلفة من الأسماك الحية من الانقراض في جزيرة صغيرة وسط الصحراء. وعندما سألوه مرة لماذا يصرف هذه الطاقة الكبيرة من أجل سمك بائس وباعترافه لم يكن له أية فائدة هامة، قلب السؤال لمحاوريه: "وأنتم ماذا تفيدون؟"ودعاهم للتساؤل إن كان ما يعتقدون بأن الإنسان مهما كانت فائدته فله قيمته وهذه هي الكرامة الإنسانية، ممكن إسقاطه على مكونات أخرى في الطبيعة من الكائنات الحية(6)؟. فحفظ كرامة الأحياء يدخل في بناء الضمير البيئي الذي يشكل اللبنة الأولى في تطور البشرية كما أن تطور المجتمعات لا يمكن اكتسابه على حساب الأرض التي هي سكناها؛ والمجتمعات المتهورة المتغافلة تسمح لنفسها بأن تعبث بما هو أصل جمال موطنها، وتنتهي على الدوام إلى دفع ثمن ذلك غالياً... فمن بين الأسباب التي أدت إلى زوال العديد من الحضارات المتتالية في تاريخ البشرية، ينبغي علينا أن نضع في المقدمة العنف الشرس التي كانت غالبية الأمم تعامل به الأرض المفيدة للحياة"(7).
والبيئة هي حالة الهواء والماء والأرض والنباتات والحيوانات البرية، وهي أيضاً مجمل العوامل التي يكون لها دور في تحديد الوجود البشري وتطوره واستمراره، أي العوامل التي تحدد الشروط المادية والنفسية والتقنية والاقتصادية والاجتماعية لعلاقات البشر. ويشمل مفهوم البيئة المشاكل المتعلقة باستخدام المكان ووجود الخامات الطبيعية والكثافة السكانية وحماية الطبيعة وتلوثها.
فالأرض هي البيئة الحيوية للبشر وللحيوانات والنباتات والشروط الضرورية لحياتها المشتركة ويشمل ذلك الآثار الناجمة عن التطورات التقنية والاقتصادية والسكانية. وتقسم الأرض إلى بيئات جغرافية حيث تشمل المحيط الجغرافي للبشر في الحي والقرية والمدينة والدولة. أما البيئة الاجتماعية فتتضمن المجال أو الحقل الاجتماعي للفرد والأسرة والمجموعات البشرية في مجتمعاتها.
تشكَّل عبر الوعي البيئي علوم للبيئة بفروع عديدة مثل علم اقتصاد البيئة وعلم أخلاق البيئة والتربية البيئية والقانون البيئي، ومنها علم أطلق عليه علم البيئة السياسي الذي اضطر إلى النضال من أجل الاعتراف بشرعيته. نجد بوادر هذا العلم في كتاب "الإنسان والطبيعة(8) Man and Nature أو الجغرافيا الفيزيائية بعد أن غيرها العمل الإنساني (1864)(9)" ويعتبر هذا الكتاب صرحاً في الفكر البيئي والجغرافي حيث تم فيه طرح الأسس البيئية للتفوق على الذات، فكان سبقاً علمياً لما سيصبح في القرن العشرين علم البيئة السياسي. ونشط النضال البيئي وكثر المناضلون فيه أمثال مورّي بوكشين(10) (1921- 2006) Murray Bookchin واضع أسس علم البيئة الاجتماعي والمنظر الأكثر جذرية من أجل اللامركزية السياسية كشرط للوصول إلى المجتمع البيئي؛ أفكار بوكشين مستوحاة من نظرة فلسفية جديدة للعلاقات بين الإنسان ومحيطه(11). أما جاك إيلول (1912- 1994) Jacques Ellul فقد لاحظ اختفاء العالم الريفي لمصلحة التطبيع المتنامي للبشرية تحت ضغط التقنية فنشر عام 1954 "التقنية أو رهان القرن" الذي يطرح فيه "التفكير عالمياً والعمل محلياً"فاعتبر من رواد علم البيئة السياسي.
اقترح هذا العلم علم إعادة إعطاء معنى وخلود لعلاقات الإنسان مع المحيط، والأزمة البيئية هي فرصة لإعادة تحديد هذه العلاقات. ظهر هذا التيار السياسي في نهاية أعوام 1960 هادفاً إلى التوفيق بين رؤية خيالية (التحوّل الجذري في الروابط الاجتماعية)، وبعد علمي (تقييم الوضع البيئي)، ووجهة نظر جمالية (الإرادة بحفظ جمال العوالم الطبيعية) وبين مقاربة تنبؤية (التبشير بنهاية محتملة للمجتمع الحديث)، لكنه لا يمتلك مدونة نظرية مركبة أو مجموعة قوانين – كما في الماركسية أو في الليبيرالية. وهو لا يقوم بإشهار بعض المفكرين الطوطميين الذين أنتجوا عقيدة مركبة ومحترمة: فلا يوجد كارل ماركس أو شارل ديغول عند علماء البيئة(12).
فتح التأمل الفلسفي في هذا العلم باتجاه فكر عبر مناهجي يتجاوز الفصام الأكاديمي والقديم بين علوم اجتماعية وعلوم طبيعية متيحاً نقد الآليات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تبني بعمق تطور مجتمعاتنا(13) كما أتاح الانتقال من الحواجز بين عوالمنا المعاشة إلى الفكر والتأمل من أجل "سياسة للحضارة"(1997- 2008) انطلاقاً من الفكرة الكبيرة والعظيمة التي هي "الأرض الوطن"وفق مؤلفات المفكر البيئي إدغار موران (1921) Edgar Morin الذي أقام حواراً مستمراً مع البيئة بمفهومها المزدوج العلمي والسياسي.
لكن ما هي سياسة الحضارة؟ هل هي تنظيم الهواتف المحمولة ومليارات مراوح التهوية الموضوعة داخل سيارتنا وحواسيبنا ومكيفاتنا ومكانسنا الكهربائية أو أنظمة التدفئة التي تحولت نتائجها العكسية كالحشرات الشرسة؟ لكن هل هذه الآلات بحد ذاتها جيدة أو سيئة؟ أم أسلوب استعمالنا لها والإطار الذي نضعها فيه يجعلها مفيدة أو ضارة؟ ألم يصبح هذا الإطار بحالة انفجار؟ كل شيء يحدث كما لو أنه لم يعد هناك مرشدون في "الآلات التي تحكم الآلات" والتي آلت إليها المجتمعات(14)". ينبغي علينا اليوم أن ننظر إلى "الآلات وجهاً لوجه" وأن نتحكم بها، كما ينبغي أن يتم اختيار التقنيات بشكل يمكننا أن نستخدمه كرافعة أولى في العمل السياسي.
فوفق المهندس المختص بتنظيم المدن جان هينتجنز Jean Haêntjens أن نحكم آلات هذا يعني قبل كل شيء الاستناد إلى بعض الآلات الاستراتيجية لتحويل المجتمع وفق صورة اختراع الحاوي الذي أحدث ثورة في التجارة العالمية. بعض هذه الآلات موجود سابقاً: من عربات مدينية كهربائية إلى قطارات ذات سرعة كبيرة حيث تصل المدن ببعضها بعضاً، فنحن نمتلك قاعدة يمكننا العمل عليها قادرة أن تطلق ردود أفعال متسلسلة. هناك أمور أخرى ينبغي علينا اختراعها وتحسينها أو تنميتها وتطويرها وهي البطاريات المشتركة مع الطاقة الشمسية، والمعالجات الرقمية الجديدة، ومواد بناء متجددة، إلخ. ونعني أيضاً بإدارة الآلات تطوير مقاربة تقنية- سياسية للتنظيم الاجتماعي. كتخصيص ميزانية لتحويل الطاقة: طاقة متجددة، الجزيئات الحيوية، إعادة تأهيل تدفئة الأبنية، اقتصاد الطاقة الأحفورية. وينبغي أن تهتم الدولة وتدخل في الخيارات التقنية وتضع شروطها وفارضة نظم صارمة على استهلاك الطاقة في المحركات (ليس أكثر من سبعة لتر في الـ"100 كم"). السيطرة على النظم التقنية هي أيضاً في الوقت نفسه القبول بأن تقوم السلطة السياسية بالإحاطة بقوة ببعض الأسواق (النقل، الطاقة، السكن، التغذية)، وأن يكون دخول الدولة متضمناً أيضاً التجديد التقني. في الولايات المتحدة الأمريكية، يعلن جون هولدرن John Holdern المستشار العلمي لباراك أوباما، عن إمكانية إطلاق تقنيات "هندسية- بيئية" على مستوى كبير هادفة إلى تعديل المناخ. منها على سبيل المثال، وضع مرايا في الجو لتغيير انعكاس الأشعة الشمسية، ومنها أيضاً إخصاب المحيطات لتنشيط نمو بعض الطحالب والإشنيات القادرة على امتصاص ديوكسيد الكربون من الجو، أو نثر غيوم تدفع عكساً أشعة الشمس باتجاه الفضاء بغية الحد من ارتفاع حرارة سطح الكرة الأرضية. ومهما بدت هذه الحلول خيالية وهمية لكنها تحظى بدعم عدد متزايد من العلماء.
أما "علم اقتصاد البيئة" فهو العلم الذي يقيس بمقاييس بيئية مختلف الجوانب النظرية والتحليلية والمحاسبية للحياة الاقتصادية ويهدف إلى المحافظة على توازنات بيئية تضمن نمواً مستديماً.
هناك بعض الجوانب المهملة في الحياة الاقتصادية تفرض نفسها ولم تدخل صلب التحليل الاقتصادي بعد، فلا زالت الجامعات تدرس علم الاقتصاد على أنه العلم الذي يبحث في الاستخدام الأمثل للموارد المادية والبشرية بهدف تحقيق أكبر ربح ممكن، أو إشباع الحاجات الإنسانية بأقل تكلفة ممكنة، هذا المفهوم لعلم الاقتصاد بدأ يتغير ولم يعد الفهم الكلاسيكي له متناسباً مع متطلبات تطور النشاط الاقتصادي، فعند العودة إلى هذا المفهوم نجد أنه لا يأخذ بالاعتبار الجانب البيئي في النشاط الاقتصادي، فالاستخدام الأمثل للموارد يقصد به - وفق المفهوم الكلاسيكي - الاستخدام الأمثل للموارد التي تعتبر أصولاً إنتاجية، أي تلك الموارد التي تقيّم تقييماً نقدياً في السوق وتستخدم في العملية الإنتاجية ولا تعتبر الموارد الطبيعية أصولاً إنتاجية، وبالتالي لا تدخل ضمن إطار الاستخدام الأمثل، ولا تزال هذه الموارد مستبعدة من مفهوم الاستخدام الأمثل كما أن تعبير أقل تكلفة لا يزال يقصد به أقل تكلفة بالنسبة إلى العوامل الإنتاجية ولا تؤخذ بالاعتبار الخسائر البيئية والتكاليف الاجتماعية.
فعند إنتاج أي منتج صناعي مثلاً، لا يحسب ضمن التكلفة سوى التكلفة داخل المجمع الصناعي ولا يحسب كم طناً من الأسماك قد دمر في البحيرة أو في البحر المجاور مقابل إنتاج هذا المنتج أم كم شخصاً قد تضرر أو مرض نتيجة الغازات أو الغبار المنطلق، وكم سيكلف علاجهم وما هي خسائر الإنتاج الناجمة عن التوقف عن العمل بسبب المرض، وكم هو حجم الضرر الحاصل في المزروعات والغابات والهواء في المنطقة المحيطة بالمجمع الصناعي. ولا تحسب أيضاً التكاليف الإقليمية أو العالمية الناجمة عن المصانع الواقعة على أحواض البحار والتي تؤثر على اقتصاديات وموارد وسكان هذا الأحواض سواء بموت الأحياء البحرية أو بتلويث الهواء أو غير ذلك.
إن العائدات من النفط والغاز والخامات الطبيعية الأخرى والتي تحسب على أنها دخل أو قيمة مضافة جديدة ما هي في الحقيقة إلا ريع ناجم عن استنزاف رأس المال الطبيعي والموجودات النادرة، ولا تشكل قيمة مضافة ناجمة عن عمل إنتاجي، وهدر هذه الموارد يشكل عامل تدهور بيئي.. وما لم يتم القيام باستثمارات تعويضية تحافظ على رأس المال الطبيعي وتضمن تجدده فإن النمو المستند إلى الموارد الطبيعية لن يكون متواصلاً ولا طويل الأجل.
وعلم اقتصاد البيئة هو فرع يهتم بالتكاليف الناجمة عن إصابة البيئة وحمايتها وتحقيق المعرفة الدقيقة كما في جدوى وفعالية ومفهوم الأدوات الاقتصادية، وذلك بغية تغيير السلوكيات تجاه البيئة. المسألة التي تطرح نفسها هي غالباً "سعر السوق" لتقييم ثروة بيئية أو مصدر ما أو قيمته. فعلى سبيل المثال إنه من الصعب جداً تسعير مبلغ أو قيمة لهواء جيد وتسعير آثار التلوث على الماء.
فوفق غورز لا يكتسب علم البيئة الاقتصادي كل مهمته النقدية إلا إذا تم فهم واعتبار تخريب الكوكب وتحطيم القواعد الحيوية للبشرية على أنها عواقب نمط الإنتاج. من هنا تبرز ضرورة نقد التقنيات التي تتجسد فيها السيطرة على الإنسان وعلى الطبيعة. هذا النقد هو شأن أساسي في مفهوم الأخلاق البيئية والتحرر. إن فكر غورز يتعمق مع تحليل الرأسمالية المعرفي الذي يؤسس سيطرته على استعباد الذكاء لغايات غريبة عن الشأن الإنساني: فهو يتلف الطبيعة في سبيل خلق أنواع جديدة متجاوزة الوضع البشري(15).
تبرز من هذه التحاليل أهمية التخطيط الذي يسعى للمصالحة بين البيئة والاقتصاد على الرغم من أن المسافة الفاصلة بينهما لا تزال شاسعة نظراً لأن كلاً منهما كان يسير في اتجاه مضاد للآخر.(16)
تسمح الأدوات الاقتصادية بالتأثير على السلوكيات وهي كثيرة بدءاً من قانون العرض والطلب الذي يجعل صعوبة في الوصول إلى المصدر النادر برفع سعره، والغرامات والتراخيص والقوانين، إلخ.
برز فرع جديد في قلب التيار العلمي في القرن الواحد والعشرين وهو علم الاقتصاد السلوكي المستجيب للبيئة Economie Comportementale الذي يسعى إلى وضع استراتيجيات تجنب الإنسانية الوقوع في كارثة بيئية وإلى تحديد طرق النجاة. وعلم الاقتصاد السلوكي كما يدل اسمه عليه يقع بين علم الاقتصاد وعلم النفس، يهدف إلى فهم أفضل لعملية التحليل والقرار في مواقع القرار، وبشكل رئيسي القرارات الاقتصادية.
قانون البيئة Droit de l`environnement
قانون البيئة هو منهج حديث نسبياً هدفه دراسة أو إعداد قواعد شرعية تتعلق باستخدام وحماية وتنظيم وترميم وإحياء البيئة. إنه حق وقانون تقني ومعقد وهو الآن في حالة انتشار كبيرة وحيث تكثر مجالاته كلما صار هناك تقدم اجتماعي وعلمي وتقني. ويزداد عدد البلدان التي أصبح لديها قانون بيئي، لكن دون تشريع خاص حتى الآن، فعلى سبيل المثال لا يوجد قاضٍ للبيئة كما يوجد قاضٍ للطفولة، أو للجرائم الخاصة أو قاضٍ ضد الإرهاب. في بعض البلدان هناك خدمات في الشرطة والجمارك أو حرس السواحل يمتلكون اختصاصاً بيئياً.
من أكثر المسائل تداولاً في يومنا هذا هي مسائل الأخلاق البيئية التي يقصد بها "احترام الطبيعة بكل مكوناتها" وتنظيم علاقة الإنسان بها من ضمن واجباته تجاه الأجيال القادمة.
حتى دون تقنين هذا الموضع تماماً هناك العديد من المنظمات غير الحكومية تدعو إلى الأخلاق البيئية أو ما يسمى أيضاً أدب البيئة يكون معترفاً به من الجميع. كما تطلب بعض المنظمات أن يتم تطوير مفهوم "الجريمة البيئية" التي هي مفهوم يخضع تحديده لخلاف عبر العالم.
تشكلت مجموعة الخبراء المعنيين بتطور المناخ عام 1988 باسم "اللجنة العالمية لعلماء المناخ" بناء على طلب مجموعة البلدان السبعة الأكثر غنى G7:( الولايات المتحدة، اليابان، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، كندا وإيطاليا) وبمنظمة المناخية العالمية وببرنامج البيئة للأمم المتحدة. يرأس هذا التجمع رئيس مهمته ضم الأعمال التي تقام في مخابر العالم أجمع وتتفحص الأدب العلمي في التأثير الذي يمارسه الإنسان على المناخ، والتقارير التي ينتجها تسمح بإقامة بيان مناخي بشكل منتظم وتوجيه القرارات السياسية على المستوى العالمي.
وتتجه في الوقت الراهن أبحاث الفيلسوف الأمريكي جون بيرد كالليكوت (1941) John Baird Callicott حول مسألة الانتقال من "علم أخلاق الأرض" إلى "علم أخلاق الكوكب" حيث يقوم مشروعه على إخضاع قوة الضمير الإنساني للعالم الطبيعي، ليس بمعنى النظام الطبيعي بل في التنوع الحي للمشاهد الطبيعية.
كيف سيتحقق لهذا الكوكب ذلك في حالة من غياب السلطة المركزية والقيم المشتركة، والتطور السريع للمعارف، والاستقلالية المتنامية للاقتصاديات وللمجتمعات... وكثير من العوامل التي تجعل التعاون بين الدول شأناً صعباً.
بعد كوبنهاغن Copenhague ساد التشاؤم. يبدو أن المجتمع الدولي يشعر بصعوبات كبيرة في العمل المشترك لمواجهة المعضلات البيئية. رغم الجهود الدبلوماسية المبذولة منذ أربعة عقود، لا تزال مسائل التلوث باقية بل متزايدة مع ظهور مسائل مستجدة. هناك صعوبات في التوافق والاتفاق وعدم قدرة الدول والمجتمع الدولي على الوفاء بتعهداتهم أو أيضاً النتائج الرديئة لأعمال الصفقات والمشاريع.
تكمن الخطورة الكبرى في ظهور نوع من "التعب الدبلوماسي" في الدول كما عند شعوبها. أول أمر يدعو لليأس هي "المؤتمرات الكبيرة" الدولية (في الريو عام 1992، في يوهانسبورغ عام 2002، في كوبنهاغن عام 2009) والتي لم تؤدِّ إلى حلول مباشرة قابلة للتطبيق.
أما في ميدان الأبحاث حول تقنية الجزيئيات nanotechnologie نجد أن من تايبه Taipei إلى باريس ومن سيول إلى نيويورك قد تم رصد مليارات من الدولارات من أجل تطويرها. وفي موضوع البيئة، يتوقع الذين هم أكثر حماسة بزوغ اختراع لحشرات جزيئية أو فطريات جزيئية آكلة الجثث أو تقتات النفايات فتحل بذلك مسألة القمامة والمجارير. كما أنه بمساعدة التقنيات الجزيئية نستشف أيضاً إمكانية تطهير المواقع الملوثة، وتنظيف المياه السطحية أو خلق تكسية مضادة للجراثيم. أما في مادة الطاقة، فإن إسهام هذه التقنيات الحديثة سيسمح بزيادة 70% من مفعول المحاليل التي هي للحقن، وتقسيم على مائة من كلفة أكوام الاشتعال، والتخفيف من 220 إلى 12 فولت احتياجات الطاقة الخدمية(17). وفي ميدان الصحة، ينتظر الناس بفارغ الصبر نتائج البحوث، لدرجة بروز العديد من التساؤلات: هل نحن في حالة أخذ أوامر من تطورنا الذاتي؟
ما يسميه الفيلسوف جان- ميشيل بينييه Jean-Michel Besnier أثرة أو علامة مميزة NBIC أي التقنية الجزيئية والحيوية والمعلوماتية والعلوم المعرفية(18)، هل تقوم بدفع الفرد إلى أبعد من إدارة الآلات؟ هل نحن على أبواب مرحلة ما بعد الإنسانوية، حيث اندمجت التقنية في الإنسان وحيث قد تسمح له بتجاوز الطبيعة البشرية والقضاء على الشيخوخة والمرض وربما على الموت؟
"من وجهة النظر هذه، فإن الخيال المثالي لما بعد البشرية يقوم بإنجاز الوظيفة الحرجة لكل الأوهام: اختراق مهيأ لجنون العالم الواقعي خلف الخيالي أو لخداع الأحلام الذي ينتجه بغية توجيه الحاضر باتجاه مستقبل نرغب به(19)" ونحن نرغب بمستقبل لا يكون عرضة للكوارث ولا رهناً لها. فالتحدي الذي يجلبه سؤال العلم والتقنيات هو على الأخص إمكانية بناء ثقافة قوية تماماً تسمح كما يكتب هينتجنز Jean Haêntjens، باستيعاب الآلات وثم انطلاقاً منها، اختراع أدوات حديثة للحضارة.
وتعود الجزيئيات nanos عملياً إلى الجزء المليار من المتر. وإن خطاً بمثل هذه السماكة هو 500000 مرة أدق من قلم الحبر الناشف. تبحث هذه العلوم الجزيئية الظواهر التي تحصل في هذا المستوى من الدقة. "إن دور الجزيء ذا الصغر غير المحدود هو دور كبير بشكل غير محدود" وذلك وفق مقولة لويس باستور Louis Pasteur. ففي الواقع، نلاحظ على المستوى الجزيئي في آن معاً، آليات لا نراها في المستويات الأكبر، وخصائص فيزيائية ذات ماهية قابلة للتغيير. وبذلك يصبح الكربون أقسى من الفولاذ لكن أخف منه بستة أضعاف، بينما يصبح النحاس مرناً...
تفتح علوم النانو حقلاً علمياً جديداً في البحوث يرى فيه البعض أنه ثورة في هذا العالم. وقد أعلنت مؤخراً المؤسسة القومية للعلوم:" أن تقنية علوم الجزيئيات سوف تؤدي إلى تغيير الحضارة." ورغم أن هناك علماء آخرون يخففون من أهميتها، إلا أن هذه الظاهرة موجودة وتثير العديد من التساؤلات والجدل. فبعضهم لا يرى فيها سوى مخاطر ويستبعدون فكرة أن آلات صغيرة ذاتية الحركة يمكنها أن تتفاعل مع جسدنا لتنشيط قدراتنا أو للاعتناء بنا؛ والخوف الأخير هو تحوّل الإنسان إلى آلة تعيش في عالم بوليسي خاضع للتقنية؛ وعلى العكس من ذلك، يبتهج بعضهم الآخر من الفوائد التي قد توفرها للصحة وللبيئة. إن سعر اللقاح سيصبح زهيداً جداً وفي الوقت نفسه ستسمح اقتصاديات الطاقة بتنمية مستدامة. وحتى لو أن تقنية الجزيئيات أصبحت مستثمرة في الصيدليات على سبيل المثال، هناك عوالم بأكملها تنتظر من يكتشفها(20).
هوامش:
(1) مترجمة وباحثة
(2) المختصر في قصة المناخ، Une brève histoire du climat 2008، Frédéric Denhez
(3) كريستوف ريمارسكي
(4) عرف إيرنست هيكل على أنه عالم بيولوجيا مبسط ومعمم أفكار داروين في ألمانيا. كان عضواً مؤثراً في رابطة الموحدين المؤمنة بوحدة الوجود Moniste حيث تؤكد هذه الفلسفة على أن كل الكائنات الحية والعالم الفيزيائي مكونين من المادة نفسها وأن العالم الحي ينبغي له أن يشكل نموذجاً لخدمة المجتمعات الإنسانية.
(5) آرن نيس (1912- 2009) Arne Naess سمي بـ"ابو علم البيئة العميق"
(6) كاترين لارير Catherine Larrère- العلوم الإنسانية- sciences humaines
(7) إيليزه روكلو Elisee Reclus الجغرافي الفوضوي (1830- 1905) في مقال "مشاعر تجاه الطبيعة في المجتمعات الحديثة"، مجلة العالمين، 15 أيار 1866. عن مجلة العلوم الإنسانية Sciences humaines
(8) جورج بيركنز مارش Georges Perkins Marsh رائد علم البيئة السياسي (1801- 1882).
(9) أعيد إصداره ونشره ثماني مرات في الولايات المتحدة حتى عام 1914، حيث غاب في النسيان، ثم أعيد اكتشافه من قبل لويس مامفورد Lewis Mumford عام 1924.
(10) مناضل وباحث أمريكي، مخترع الحركة البلدية ذات الحرية المطلقة.
(11) www.social-ecology.org- أعاد كتابتها في أعماله التي نشرها اعتباراً من أعوام 1970 وعلى الأخص كتاب: "من أجل مجتمع بيئي.
(12) علم البيئة في اللعبة السياسية- الباحث برونو فيلالبا Bruno Villalba- العلوم الإنسانية.
(13) فيتوريو هوسل (1960) Vittorio Hosle - المثالي الناقد. العلوم الإنسانية.
(14) ج. هيتجن، حكومة الآلات أو تحدي النمو الأخضر
– des machines ou le défi de la croissance verte; L'Aube 2010 J. Haêntjens; Le gouvernement
(15) أندره غورز (1923- 2007) Andre Gorz وعلم البيئة المحرِّر.أحد رواد علم البيئة السياسي في فرنسا وأوروبا. انطلق من التفكير في العمل والاستهلاك في الرأسمالية. فكتب عام 1975 "بيئة وحرية".عن مجلة العلوم الإنسانية.
(16) د.عبير ناعسه www.alwatan.sy/dindex.php?idn=75018 - 27k
(17) كيرأورغوين Kerorguen، التقنية الجزيئية أمل أم تهديد أو سراب؟ Les Nanotechnologies; espoir-menace- ou mirage?. Lignes de repères 2008.
(18) Nanotechnologies;biotechnologie; informatique;sciences cognitives
(19) جان – ميشيل بينييه، غداً ما بعد البشر، هل سيظل المستقبل بحاجة إلينا؟
J-M Besnier) Demain les posthumains. Le Futur a-t-il encore besoin de nous? Hachette 2009
(20) عن مقال: "هل ينقذ العلم الأرض؟" كريستوف ريمارسكي Christophe Rymarski – العلوم الإنسانية.
المصدر : الباحثون العدد 44 شباط 2011