من يتابع حركة الأدب والأدباء منذ أوائل القرن الحالي وحتى اليوم، يرى بوضوح أن هذه الحركة تعاني من جمود وتقهقر وتراجع لا حدود له، فلا تعرف اليوم أديباً بحجم حنا مينه (أطال الله في عمره) ولا شاعراً بحجم بدوي الجبل أو نزار قباني أو نديم محمد أو عمر أبو ريشة.. ولا نعرف مسرحياً بحجم سعد الله ونوس أو محمد الماغوط ولا ناقداً بحجم محي الدين صبحي، ولا صحفياً بحجم جلال فاروق الشريف، ولا فناناً تشكيلياً بحجم فاتح المدرس أو محمود حماد أو نصير شورى..
الجميع يتفق معنا في الرأي أن الأدب في وقتنا الراهن في مأزق حقيقي، وكأنه ضل طريقه، أو أضاع الطريق الذي سلكه في منتصف القرن الماضي، ولم يتمكن في قرننا الحالي من شق طريق جديدة تواكب حركة المتغيرات العالمية وتطورات العصر.. هناك من يعلل السبب بالحركة التي صارت مشروطة، ومركزية الإعلام، وحلول الصورة البصرية والفيسبوك ووسائل الإعلام المتطورة محل الكلمة المقروءة، حيث أصبح الكتاب في المرتبة الدنيا في سلّم أولويات المستهلك الثقافي، وتحول الكاتب إلى معدٍّ للمسلسلات والبرامج التلفزيونية لأنها تدّر عليه ربحاً ومردوداً أكثر بمئات المرات من كتابة الأدب والشعر والروايات والمقالات..
قد يكون ذلك صحيحاً ولكن هذا لا يعفي الأديب أو المبدع من مسؤولية الارتقاء بمستوى نتاجاته، ورفع مستوى أدبه، ونلاحظ أن مستوى الأدب في أوروبا وأمريكا اللاتينية وغيرها لم يتراجع ويتقهقر مع تقدم التقنيات وتطور المعارف وأساليب النشر الإلكتروني، بل تطور واستفاد من هذه المجالات لفتح مجالات وآفاق واسعة لنشر الأدب والثقافة والعلوم والمعارف والإبداعات الجديدة..
السبل مفتوحة في عالم اليوم أمام الأدب والأدباء، وفي المنعطفات الأساسية تتكاثر الإمكانات، وعلى الأديب، أن يغيّر أدواته، وأن يفكك عالمه ويعيد تأليفه، ونلاحظ أن عالم الرواية في سورية وبعض أقطار الوطن العربي مازال النتاج فيها غزيراً ومتميزاً لأن الروائيين العرب الشباب استطاعوا تفكيك عوالمهم، وأعادوا تأليفها، وعزموا جيداً أن الرواية ما هي إلا واحدة من الأدوات المفضلة لهذا التفكيك، ولهذا تكاثر عدد قراء الرواية عندنا وفي العالم، في حين أن الشعر، الذي يدل على المستقبل، يستنبط لسانه، ويستقطب دلالته، يعاني من تمزق داخلي لعب دوراً كبيراً في شل حركته، وتراجع عدد قرّائه، لأنه تحول في كثير من الأحيان إلى ثرثرة نثرية..
نعلم جيداً، أن المشكلة معقدة، فعصرنا الحالي هو عصر تحطيم النماذج والأصنام، وقلة قليلة من الأدباء يعرفون إنه ليس في الوجود طرق ملكية، لا في الأدب ولا في الفكر ولا في الأيديولوجيا، وعلى الأديب أن يحدد موقعه من الآتي، ويسعى إليه على مسؤوليته... عليه أن يقرأ الآتي في الراهن، فيكّون من إمكانات الحاضر صورة للمستقبل، وهنا يكمن دور الشاعر والأديب والفنان، الذي يجب أن يبتعد عن التقليد لأنه لا يوجد نموذج صالح لكل زمان ومكان، وعندما كان العربي سيد مصيره لم يقلد أحداً من أعلام أسلافه..
المشكلة أننا فقدنا ثقتنا بأنفسنا وبذاتنا وقدرتنا على صناعة مستقبل يطوّر ماضينا ويواصله.. والمسألة ليست مسألة شعر وأدب ومسرح وقصة ورواية وحسب إنها مسألة واقع على الأدباء والمثقفين أن يتحركوا لمواجهته بجرأة وحيوية ونشاط، فمحاسبة النفس هي بداية الخلاص (كما يقول فيلسوفنا الراحل - أنطوان مقدسي) وعندها يبدأ عهد الإبداع والتجدد، وتتطور حركة الأدب وتنتعش..
المصدر : العدد 61 تموز 2012