كان المسرح الإسباني في القرن العشرين معزولاً إلى حد ما عن الثورات المسرحية، التي بدأت على يد (إبسن) في أوربا، وكان بعيداً عن التأثيرات الأوربية منذ فترة العصر الذهبي الإسباني المسرحي، في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، في أيام (لوب دي فيغا) و(كالديرون). ولكن حين انتكست النهضة المسرحية الإسبانية الأصيلة، بعد عصرها الذهبي، أخذت تتأثر بالذوق الفرنسي، والتزام الأحداث الأرسطية. وسيطرت على المسرح الإسباني النزعة الكلاسيكية الجديدة، التي سيطرت أيامها على المسرح الفرنسي. ثم تتابع التياران الرومانسي والواقعي على المسرح الإسباني، حتى إذا كان العقد الأخير من القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، إلا وقد أصبحت الواقعية والطبيعية، التي نشرها (آميل زولا) في فرنسا، هي السائدة في المسرحيات الإسبانية. وأصبح الكاتب الإسباني يحرص على إعطاء غاية تعليمية عن طريق تقديم قضية أخلاقية.
كان هذا هو التيار المهيمن على المسرح الإسباني، حين أطلت المدرسة التي تتلمذ (لوركا) على أعمالها ومبادئها، وهي جيل عام (1898)، التي أعلنت حملة شعواء على أدباء العصر، وعلى آرائهم ومعتقداتهم. وقد اتصف أفراد هذا الجيل بحب عميق لبلادهم، مقرون بكراهية شديدة لتقاليدها الجامدة البالية، التي كبلت الروح الفنية بالقيود ومنعتها من الانطلاق. وسعوا إلى إيجاد شخصية جديدة لإسبانيا في كل ما يكتبون ويبدعون. وفي مقابل النزعة التعليمية الخطابية السابقة اهتم أدباء (1898) بالعودة إلى البساطة، وإلى الصدق، وإلى العبارات الحية المعبرة عن حقيقة العاطفة، وإلى الواقع الجمالي.
هكذا كان الجو المسرحي الذي نشأ لوركا في ظلاله. جيل جديد من الأدباء والفنانين، يحاول أن يبعث حميّة في التحديث والتجديد، وخاصة في المسرح، مقابل جيل قديم يصر على النزعة التقليدية الخطابية. وقد وجد هذا الجيل المسرح الإسباني، في حالة مؤسفة، شأنه شأن كل معالم الحياة الثقافية والاجتماعية الإسبانية في ذلك الوقت، ورغم أن ثورة هذه المجموعة الفكرية قد امتدت إلى جميع فروع الأدب والفن، إلا أن المسرح كان من أقل الأنواع الأدبية تأثراً بهذا التجديد، وبنزعة (المودرنزم). لا نتيجة للافتقار إلى المواهب الأصيلة، وإنما لسيطرة الابتذال البرجوازي على المسرح التجاري في ذلك الوقت، مما كان يمنع من ظهور الأعمال المسرحية المكتوبة للكتاب المبدعين.
أما المجددون المبدعون الأصليون للمسرح الإسباني، في هذه الفترة، فهم (أونامونو، أثورين، فابي أنكلان، فاثنتو غراو) الذين كتبوا عدة مسرحيات هامة في تطوير المسرح الإسباني من حيث الشكل والمضمون، رغم أنها لم تلق رواجاً كبيراً، عندما كانت تسنح الفرصة لعرضها على خشبة المسرح (1)
في هذا الوقت الحرج، ظهر (فيديريكو غارسيا لوركا)، حيث كان الظرف مناسباً لظهور موهبة أدبية وفنية مبدعة. لقد ظهر في عصر يبشر بالتحديث في كل شيء. وقد بدأ حياته الأدبية شاعراً، ورساماً، وموسيقياً، قبل أن يتحول إلى المسرح، فيسهم فيه بأعمال تجريبية، بدأت بمسرحيات ذات نزعة غنائية، وتطورت شيئاً فشيئاً إلى الاكتمال الدرامي البحت. وقد أثر حبه للموسيقى في امتلاء مسرحياته بالعديد من المقطوعات الموسيقية والمغناة، وبالأناشيد التي سمعها في صباه، مصاغة في قالب فني جديد.
وقد منحت هذه المسرحيات سمات فريدة من الرمزية والطقسية للمسرح الإسباني، لم تكن لتنبثق إلا من المجتمع الريفي لجنوب إسبانيا، إنها تحمل سمات الأغنية الشعبية الأندلسية، ومثلما قدم لوركا روح الحياة الأسبانية في شعره، قدمها أيضاً في مسرحه (2)
لوركا: حياته وأعماله
ولد (فيديريكو غارسيا لوركا) عام (1898) في بلدة (فوينتي باكيروس) من أعمال مدينة (غرناطة) في جنوب إسبانيا، وهي آخر معقل للحضارة العربية في إسبانيا. كان والده من الشخصيات الميسورة الحال في البلدة، ويمتلك بعض الأراضي هناك، ويزرع الكروم، ويمتلك الخيول. في حين كانت أمه معلمة في المدرسة الابتدائية، ثم تركت عملها للتفرغ للحياة الزوجية ولتربية الأولاد. وقد أورثت أبناءها حبها للموسيقى والفنون.
تلقى لوركا علومه صبياً في السابعة، في إحدى مدارس مقاطعة (المرية)، وقد أحب المسرح منذ صغره، يقول أخوه (فرانسيسكو): "إن أول لعبة اشتراها فيديريكو بماله الخاص بعد أن كسر حصالته، هي مسرحاً مصغراً اشتراه في (غرناطة) من محل بيع ألعاب اسمه (نجم القطب)". وكان والد لوركا يأخذ أولاده غالباً إلى المسارح الحقيقية، وبذلك أيقظ في نفس لوركا حباً مبكراً للمسرح. وصار لوركا بعد ذلك يقوم بتمثيليات صغيرة في المنزل مع إخوته ومع الخدم. وكان يلبس الأقنعة المختلفة، والأزياء التنكرية المتنوعة، وغالباً ما يكون مسحوراً ومأخوذاً بسماع الحكايا الشعبية، والأناشيد التراثية، التي يسمعها من عائلته ومن الخدم المقيمين في المنزل، وقد عمل كل هذا على إثراء خيال لوركا من صغره، وتغذيته بالقصص التي تدور حولها تلك الأناشيد والحكايات، الواقعية والخيالية، والتي استقرت في أعماق فؤاده، حتى خرجت بعد ذلك في الصور الفنية، وفي قصائده، وفي قصص مسرحياته الشعبية.
انتقل لوركا، بعد ذلك، مع عائلته، منذ عام (1909)، إلى مدينة (غرناطة) للالتحاق بالمدرسة الثانوية. ودرس الموسيقى هناك على يد أحد تلاميذ الموسيقار الإيطالي الشهير (فيردي). وكان هذا الأستاذ هو الذي لفت نظره إلى الحكايات والمأثورات الشعبية والفولكلورية، إذ طاف معه كثيراً من أرجاء قرى إسبانيا، وراء رصد هذه المأثورات، وجمع الألحان الشعبية من أفواه قائليها، والتي ستشكل أحد أهم مصادر إبداعه في الشعر والمسرح، وخلال هذه المرحلة، برز تفوقه في العزف على آلتي البيانو والغيتار، وكذلك في الرسم. كما تعمّقت قراءاته في الأدب الكلاسيكي، ونهل من أمهات كتب الأدب الإسباني، وخاصة (دون كيشوت)، إلى جانب تعمّقه في الشعر والمسرح المترجم من بقية اللغات الأجنبية.
حصل لوركا على شهادة الثانوية عام (1915) والتحق بعدها بجامعة (غرناطة) ليدرس في كليتين من كلياتها في آن واحد، الآداب والحقوق. ولم يكن يستميله من المواد الدراسية إلا مواد الأدب والفن، وخاصة لأنها تشمل زيارات عديدة لكثير من المدن والبلاد الإسبانية في المحافظات، مثل (قشتالة) و(الأندلس). وقد تعرف خلال هذه الفترة على عدد من مشاهير الأدب والشعر الإسباني وقتذاك. كما أنها دفعته إلى إصدار كتابه الأول الذي تحدث فيه عن الطبيعة في إسبانيا في أسلوب نثري أخّاذ أقرب إلى الشعر. وقد صدر هذا الكتاب، وعنوانه (انطباعات وصور طبيعية) في عام (1918).
في عام (1919) انتقل لوركا إلى العاصمة (مدريد) لإكمال دراسته في جامعتها، والتحق بالمدينة الجامعية هناك. كانت (مدريد) تعتبر أيامها مركزاً مرموقاً من مراكز الفن والأدب، وفيها تعرّف على عدد من الفنانين والأدباء الناشئين، منهم: (سلفادور دالي، رفائيل ألبرتي، لويس بونويل). وقد قضى فيها حوالي تسع سنوات، شارك فيها مشاركة فعالة في النشاط الأدبي والفني، أكثر من مشاركة في الدراسة الأكاديمية. ويجدر بالذكر أن لوركا لم يتخرج آخر الأمر إلا من كلية الحقوق، جامعة (غرناطة) عام (1923) وقد عوض عدم حضوره المحاضرات الجامعية بأن عكف على مكتبة ومراجع (الأتنيو)، وهو المجمع الأدبي في (مدريد) ليلتهمها التهاماً، وفيها أكمل قراءاته للكلاسيكيين والمحدثين في الأدب الإسباني وعمق معرفته وتجربته أكثر عن طريق حضور المحاضرات والندوات العامة التي كان يلقيها أئمة الأدب الإسباني المعاصرين له مثل: (فابي أنكلان، أونا مونو، آثورين) وغيرهم. وكان لوركا، نفسه، محاضراً عميق الثقافة واسع الاطلاع، ناصع البيان، ولهذا غالباً ما كان يدعى إلى المنتديات والجمعيات الفنية والأدبية والاجتماعية للتحدث عن الأدب والفن في إسبانيا، القديمة والمعاصرة، لا في إسبانيا فقط، وإنما في الولايات المتحدة لأمريكية وكوبا، وبعض دول أمريكا اللاتينية خلال رحلاته بين عامي (1929) و(1934)، حيث تعرّف في (بوينيس آيرس) على (بابلو نيرودا).
لقد أسهم جوّ المدينة الجامعية، ومكتبة (الأتنيو) والأشياء الأخرى، التي ذكرناها، في تكوين لوركا، وتنويع ثقافته وإعطائها أبعاداً أكبر، وتوسيع مجال علاقاته الفكرية والثقافية، ولكنه لم ينسَ أبداً روابطه الأولى بالأرض الأندلسية وبالفلاحين والغجر. فما يحين الصيف حتى يهرع إلى (غرناطة) أو إحدى قراها، ليقضي عدة شهور في مسارح صباه وطفولته مع أسرته.
كتب لوركا أول مسرحية له بعنوان (سحر الفراشة اللعين) عام (1919) إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً، رغم إعجاب أصدقائه بها. فعكف بعد ذلك على جمع ما كتب من قصائد منذ عهد الصبا، وتلك التي سبق له نشرها، وأضاف إليها ما يكمّل أول دواوينه الشعرية، وهو ديوان ضم مجموعة رائعة من شعر لوركا في أول عهده الفني، أيام كان تحت تأثير مدرسة (المودرنزم) ونظرية الشعر الخالص. ويحتوي الديوان أيضاً على بعض من أجمل أشعار لوركا. وقد لفت هذا الديوان نظر العديد من الأدباء والنقاد، ومنهم (خيمينيث) الذي دعا لوركا إلى نشر قصائده التالية في المجلة الأدبية التي كان يصدرها حينئذ. وتتالت بعد ذلك دواوين لوركا الشعرية، منها (أشعار الغناء العميق) عام (1922) و(أغان) عام (1927)، وفي نفس الفترة تقريباً كتب مسرحية (ماريانا بنييدا) ثم أتبعها في عام (1928) بأشهر دواوينه الشعرية قاطبةً بعنوان (حكايا الغجر) ويضم عدداً من القصائد القصصية الشعبية، ونال نجاحاً فريداً فورياً، وتقبله النقاد بقبول حسن للغاية.
وتعرض لوركا إلى أزمة عاطفية نفسية مر بها، دفعته إلى تغيير الجو الذي يعيش فيه. فقبل منحة دراسية مدتها سنة للسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة اللغة الإنكليزية في جامعة (كولومبيا) في (نيويورك). وسافر بحراً عام (1929). ومر في طريقه ببعض الدول الأوربية، كما أنه زار عدة مدن في أمريكا اللاتينية خلال إقامته في (نيويورك) وبعدها. وفي هذه الفترة أيضاً، ينتج أهم مسرحياته وهي (الإسكافية المدهشة). وقد مثلت على المسرح في نفس عام عودته من أمريكا.
وحدث بعد ذلك ما غيّر مصير إسبانيا من أساسه. إذ إن الانتخابات المحلية قد أظهرت فوزاً ساحقاً للنواب الجمهوريين مما اضطر الملك (ألفونسو الثالث عشر) إلى المغادرة إلى المنفى وأعلنت الجمهورية في نيسان من عام (1931). وعين أحد أساتذة لوركا، من المؤمنين بموهبته وهو (فرناندو دي لوس ديوس) وزيراً للتعليم في الحكومة الجديدة. فبسط عليه رعايته وتشجيعه، ونفذ له حلماً طالما راود خياله، وهو تكوين مسرح شعبي يطوف بالقرى والمدن ويقدم مسرحيات الأدب الإسباني، القديم والحديث مجاناً، في كل أنحاء إسبانيا. وقد عمل جاهداً في سبيل إنجاح هذا المسرح الذي دعاه (لاباراكا) وتعني الكوخ، أو العربة الكبيرة. وعاونه في ذلك بعض الأصدقاء، وعدد من الممثلين وطلبة الجامعات والهواة. وكان يهدف بذلك إلى مواجهة المسرح التجاري البرجوازي، ونشر الثقافة المسرحية الأصلية، المرتبطة بقضايا الشعب الحقيقية، وامتدت عروض هذه الفرقة على مدى عامين تقريباً. كان لوركا خلالها ممثلاً ومخرجاً ومعداً وموسيقياً ومصمم مناظر. مما أدى إلى تعميق تجربته في الكتابة المسرحية، وترسيخ وعيه بالدور الاجتماعي للمسرح. وتتوالى أعمال لوركا المسرحية الناضجة، بدءاً من هذه الفترة، فيكتب (عرس الدم) عام (1933) و(يرما) عام (1934) و(روزيتا العانس) عام (1935) و(بيت برناردا ألبا) عام (1936). وفي هذه السنة الأخيرة (1936) كانت أشعاره على كل لسان، ومسرحياته تمثل على مسارح (مدريد) و(برشلونة)، عدا الكثير من المسارح في دول أمريكا اللاتينية. وفي هذه السنة أيضاً شهدت البلاد مواجهات عنيفة بين اليمين المتطرف واليسار المتطرف. وقد بلغت ذروة هذه المواجهات في التمرد الذي قام به الجنرالات، بقيادة (فرانكو) في (18) تموز من عام (1936) وشطر البلاد قسمين انخرطا في حرب أهلية فاجعة، لم تنته إلا بعد ثلاث سنوات، وبعد أن قضت على الأخضر واليابس. وقُدر للوركا أن تفاجئه الحرب الأهلية وهو في بلدته (غرناطة) وأن تقع البلدة في أيدي أنصار الملكية، بعد يومين من إعلان التمرد. وكان لكل شيء أن يمر بسلام بالنسبة للوركا، فقد كان بعيداً كل البعد عن السياسة، إلا أن صداقته الوثيقة لعدد من شخصيات الحكم الجمهوري، وخاصة وزير التعليم (فرناندو دي لوس ديوس) بالإضافة إلى نجاحاته الأدبية، وذيوع صيته، خلقت له حُساداً وأعداءً كثيرين، لذلك ألقي القبض عليه، ولم يبق في معتقله إلا ليلتين. وقد فشلت كل محاولات أصدقائه لإطلاق سراحه. وفي فجر يوم (19) آب من عام (1936) اقتيد لوركا مع اثنين من المعتقلين الآخرين إلى خارج مدينة (غرناطة)، على يد أفراد من منظمة الكتائب (الفالانغا). وفي واد بالقرب من ضيعة (قزنار)، مخصص لعمليات الإعدام، تم إعدام لوركا رمياً بالرصاص، وألقيت جثته مع بقية الجثث في حفرة سحيقة مجاورة.
وهكذا انتهت باكراً حياة عبقري إسباني ملأ سماء إسبانيا بأناشيد الحب والأمل والسلام، وكتب لها أرقى قصائد الإنسانية والصفاء، وجعلها ترقص وتفيض سعادة على وقع أنغامه الموسيقية المطربة، وكان من الممكن أن يعطي ويبدع أكثر وأكثر، وأن تصل شهرته إلى كل الآفاق كما وصلت إليها شهرة (سيرفانتس، ولوب دي فيغا). وحتى الآن لا يعرف للوركا قبر في المنطقة، ولم يقم له أيّ تمثال تذكاري. وهكذا تحققت نبوءته حين قال في واحدة من أخريات قصائده:
عبر أغصان أشجار الغار
تطير حمامتان دكناوان
كانت أولاهما الشمس
والأخرى كانت القمر
قلت لهما: أيا جارتي
أين قبري؟
قالت الشمس في ذيلي
وقال القمر في حلقي (3)
لوركا الشاعر:
اشتهر لوركا أساساً كشاعر، بل إن الكثير لا يعرفونه إلا كشاعر، مع أنه فنان متنوع المواهب، أسهم بإنتاجه في كثير من الضروب الفنية، فهو موسيقي وضع مقطوعات موسيقية وغنائية. وترك تراثاً من اللوحات الفنية، التي تدل على طول إبداعه في فن الرسم الذي شارك فيه صديقه الرسام العالمي (سلفادور دالي). إلا أن الميدان الذي يعادل إسهامه في الإسهام الشعري، هو ميدان المسرح. ولا غرابة في ذلك، لأن مسرحياته كلها تعتمد على النزعة الغنائية الدافقة، وهي نفس عماد قصائده الشعرية، بل إن بعض هذه المسرحيات، والتي كتبت شعراً في الأصل، تمتلئ بالمقطوعات الشعرية، التي اشتهرت شهرة قصائده الذائعة الصيت.(4) وقد بدأ لوركا كتابة الشعر منذ المرحلة الثانوية، وقصائده في أيام الصبا، والتي جمعها في ديوان سماه (كتاب القصائد)، كانت رائعة، وتبشر بميلاد شاعر عظيم، مع أنه كان آنذاك تحت تأثير مدرسة (المودرنزم) أي (التحديث أو التجديد) ونظرية الشعر الخالص التي حمل لواءها الشاعر الإسباني( خوان رامون خيمينيث) الذي دعا لوركا إلى نشر قصائده التالية في المجلة الأدبية التي كان يصدرها حينئذ. وربما كان الشعراء قد تجاوزوه، في مسألة استكمال الأشكال الشعرية الأولية، فإلى جانب المجموعات الأولية، عند الآخرين، وكلها مجموعات متكاملة، تبدو مجموعة (كتاب القصائد) مجموعة فتى كما يقول هو نفسه في المقدمة، وهو يطلب المعذرة على النقص الذي في المجموعة، ولكن على الرغم من ذلك، فإن مجموعته كانت من بين أوائل المجموعات التي تتضمن أعظم الإمكانيات الشعرية. إنها مجموعة لها القيمة الفريدة بين مجموعات جيله من حيث أنها مجموعة فتى. وفي مجموعته الثانية والتي سماها (أغنيات) عام (1927)، قلص الشاعر من جموحه، وحرر نفسه من الأوهام والتأثيرات الخارجية، وقدم ببساطة مجموعة ناضجة ومتكاملة، وبعض أغنيات هذه المجموعة لم يتمكن أحد بعد من تجاوز بساطتها، وعمقها، وغنائيتها.(5) وبعدها بعام، أي عام (1928) أتبعها بأشهر دواوينه على الإطلاق وهو المسمى (حكايا الغجر). ويضم عدداً من القصائد القصصية الشعبية. وقد نال نجاحاً فريداً فورياً، وجلب له الشهرة وتقبله النقاد بقبول حسن للغاية.
وعندما توجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأقام في (نيويورك) صدم صدمة هائلة من الحضارة الآلية الجامدة والباردة هناك. وكان ثمرة هذه الصدمة النفسية ديواناً شعرياً كاملاً بعنوان (شاعر في نيويورك)، وجاءت قصائده غريبة الصور، إذ عبر الشاعر عن شعوره بصورة سوريالية، ورموز معقدة ومبهمة، جعلت قصائد هذا الديوان صعبة الفهم إلى حد ما، مما جعل النقاد يسمون هذه المرحلة من شعره بالسوريالية، أو شعر اللاوعي، أو المترابطات شبه الواعية. واعتبرها بعضهم توهاناً نحو الهامش عن طريقه الحقيقي. بينما اعتبرها آخرون ضريبة الضرورة الملحة. وقد يكون في هذه التعابير صواب، أو قد لا تكون، لأنها مجرد أحكام وافتراضات غير ثابتة أطلقها النقاد.
إن الضحكات والدموع، والدموع بشكل خاص، تملأ شعره كله. فلوركا أساساً شاعر مراث، والبكاء والضحك هما قطبا مسرحه، وهذا يفسر مراوحة كتاباته كلها بين المأساة والتهريج. كما قيل أيضاً، أن لوركا يمثل الإسبانية في الشعر أكثر من شعراء جيله كلهم، ولعل هذه التسمية القومية (أو الوطنية) أكثر تحديداً ووضوحاً بفضل جذوره الدرامية، ورغبته الداخلية في تمييز نفسه من خلال نبض أبناء بلده، وحتى أغنيته الصغيرة تأخذ وبطريقة غامضة وعصية على التفسير، أصوات الأرض العميقة. وقد لا يكون من الممكن فصل شعره عن مسرحه، فكلاهما مدعمان بنفس خاص هو جزء من الملحمة، من النبض الممثل للقومية، ولعل لوركا كان الشاعر الوحيد في جيله الذي لم يسمِّ مجموعاته الشعرية بأسماء أدبية. فديوانه الأول هو ببساطة (مجموعة قصائد)، ومجموعة الأغنيات اسمها (أغنيات)، ومجموعة الأناشيد (أناشيد غجرية)، وتدل العناوين الأخرى على الأمر ذاته مثل (مرثية لإغناسيو سانشيز ميجيانس) و(شاعر في نيويورك) و(قصائد كانتي غوندو). والاستثناء الوحيد، هو استثناء نسبي، وهو الديوان الذي كتبه تقديراً للشعراء العرب الأندلسيين (ديوان التاماريت)، وهنا تكمن الأدبية في استخدام كلمة (ديوان) بالعربية ليعني بها مجموعة قصائد. ولذا فإن الأمر مبرر، حيث أن كلمة (التاماريت) هي أيضاً، التسمية العربية للمنطقة التي تقع فيها الحديقة الغرناطية، التي كتب فيها ذلك الكتاب. وهذا الديوان نسجت قصائده بأدق خيوط موهبته الشعرية، بين خرير المياه، وتهامس الظلال في حدائق (غرناطة).(6) وكأن أنفاس وآهات الشعراء العرب، مازالت تتردد في حدائق (غرناطة) فتلهمه أرق وأجمل وأبدع قصائد الشعر، ولكن بنكهة إسبانية موسيقية حلوة وراقصة!
لوركا المسرحي:
كان لوركا، كما ذكرنا، موسيقياً ورساماً موهوباً، إضافة إلى كونه شاعراً غنائياً، وكأنه المؤلف المسرحي، الذي ولد كي يعطي حياة مسرحية لنظريات (آبيا وكريغ) تلك النظريات التي قالت: "بأن على كل الفنون أن تتواجد في فن الدراما". ومنذ البداية كان عمله تجريبياً عن قصد. وبالتحديد لا يمكن عزل غنائيته عن كتابته المسرحية، إن شكل مسرحه مقولب بشكل موسيقي، حيث تترابط الرقصات بالأغنيات في مشاهده بطريقة تجعلها أحياناً أشبه (بالأوبرا) منها بالمسرح.(7)
ولا ننسى أن مسرحيات لوركا قد كتبت بالشعر، وهو ما أعطاها غنائية ورقة وشفافية خاصة إذا عرفنا أن الشعب الإسباني يحب الغناء والرقص والمرح، كما أن الإسبان شعب رومانسي وعاطفي لذلك نجد أن البكاء والضحك هما قطبا مسرح لوركا. وهذا يفسر سبب مراوحة كتاباته كلها بين المأساة والتهريج. ويقوم المحور الأساسي في معظم أعمال لوركا المسرحية على الواقعية للمرأة الإسبانية في عصره، والصفات الغالبة التي تجدد شخصيتها، وهي نزعة الشرف، وعاطفة الحب الجارف، وغريزة الأمومة، والتقاليد الاجتماعية والمظاهر. وكل هذه الصفات عوامل تتجمع لتصور لنا واقع المرأة الإسبانية، التي تتنازعها جميع هذه العواطف، فتحيلها إلى شخصية درامية من الطراز الأول، ومادة خصبة لمن يلتقطها من الكتاب والفنانين. وهو في هذا يشبه معاصره الدانمركي (هنريك إبسن) الذي دارت معظم مسرحياته حول موضوع المرأة في بلاده، والصراع بينها وبين التقاليد، وجهودها للتحرر من هذه الأغلال، لتلعب دورها كشخصية مستقلة كاملة النمو في المجتمع.
إن لوركا، في مسرحياته، يعالج أوضاع المرأة الإسبانية، التي تسقط مأساوياً نتيجة طغيان التقاليد والأعراف الأخلاقية الاجتماعية، والتي تكبل حريتها وتقيد إمكانيات تفتحها على متطلبات العصر، واندماجها كعنصر فاعل في الحياة الاجتماعية. إنها صرخة مدوية ضد التقاليد الأخلاقية، التي تعاضدها الكنيسة الكاثوليكية والبورجوازية المهيمنة اقتصادياً وسياسياً. وشخصياته تشعر بها كائنات حية، تعاني وتقاسي وتحاول باستماتة اختراق السجون المفروضة عليها. ولكن بدون جدوى، لأنها تبقى محاولات فردية من طرف واحد، في مواجهة نظام اجتماعي متكامل في الحفاظ على عوامل التخلف. وإذا أمعنا النظر في تفاصيل ملامح شخصياته النسائية، سندرك أن المرأة لديه لا تقصد بذاتها، بل هي رمز لمعاناة إسبانيا الوطن.(8)
إنه يتعاطف مع المرأة الإسبانية في مسرحياته. كما أن شعره يعطي شخصياته النسائية قوة بدائية تجعلها أعظم مما هي عليه في الواقع. أضف إلى ذلك السوداوية الطاغية، والعنصر القدري في بطلاته، بشكل يلغي أي بصيص أمل للمستقبل، أو أمل بمغفرة ربانية. إن معايير الواقعية لا تنطبق عليهن بدقة. إنهن خاضعات لقوانين الرمزية، وينتج عن ذلك أن تلك الشخصيات اللامرئية على الخشبة، والتي نحسّ بوجودها بقوة في جميع مسرحياته، تتمتع بمزايا رمزية أعظم، وسرعان ما تخلى لوركا عن التقاليد السيريالية، علماً بأن بعض المشاهد القصيرة التي كتبها بين عام (1929) و(1930) ظلت تظهر اهتمامه السابق بها. وهذا ما يبدو في مسرحية (لو مرت خمس سنوات) إضافة إلى بعض المقاطع من (الجمهور). وهي تقدم أشخاصاً من عالم الخيال (فانتازيا)، يرددون سطوراً غير متماسكة من (الكتابة الآلية).
كما يزخر الحدث بالصور العنيفة المشبعة بالدم. ومن المشكوك فيه أن يكون لوركا قصد إنتاج مثل هذه المادة، لأنه سرعان ما عاد إلى مسرح يضرب جذوره عميقاً في أرض الواقع، دون أن يكون واقعياً بشكل كامل. (9)
كتب لوركا خلال حياته الفنية القصيرة، عدداً وافراً من المسرحيات ومن أهمها بالترتيب الزمني: (سحر الفراشة اللعين- 1919) و(ماريانا بنييدا- 1925) و(الإسكافية المدهشة- 1930) و(آه لو تمر خمس سنوات- 1931) و(الجمهور- 1933) و(العرس الدموي- 1933) و(يرما- 1934) و(روزيتا العانس- 1935) و(بيت بيرناردا ألبا- 1936).
ولكي نعطي فكرة عن مسرحياته، سنعطي ملخصاً لإحدى مسرحياته مع تعليق بسيط حولها، وهي (الإسكافية المدهشة) كما وردت في الترجمات العربية، بينما ترجمتها لحقيقية هي (زوجة الإسكافي المدهشة) التي كتبها عام (1930)، وتعتبر أول أعماله الدرامية بحق، والتي كتبت للمسرح وليس للشعر. وقد استوحى بناءها الدرامي كعمل موسيقي. وهي تحكي قصة إسكافي هرم في إحدى قرى إسبانيا، يتزوج صبية حسناء في سن الزهور، وهما يتشاجران على الدوام، ولم ينجبا. ويسخر الناس منهما ويسمعانهما قارص الكلام. وتحلم الزوجة بأراضٍ قصية، وتنسى بيتها، وواقعها المؤلم. ويعمد الزوج الهرم في يأسه يوماً إلى الهرب من المنزل، وعندها ينقلب حال الزوجة، وتتغير نظرتها إلى زوجها الغائب، فتتصوره أروع الرجال وأفضلهم قاطبة، وتطرد العشاق الذين يتهافتون عليها. يعود الزوج بعد ذلك مستخفياً، فيرى إخلاص زوجته في غيابه، بيد أنه حين يعمّه الفرح، ويكشف لها عن شخصيته، ينهار الحلم الجميل، وتعود الزوجة إلى شقائها. وأهم ما في هذه المسرحية هو التغير في الصورة النفسية للزوج والزوجة، الذي يستخدمه لوركا ببراعة درامية، ويعمد إلى الاستفادة، كذلك من بعض الحيل الدرامية، التي سادت المسرح الفرنسي سابقاً، وخاصة عند (موليير)، مثل الزوج المتخفي وجوّ السخرية الذي يسيطر على الأحداث فيها.(10)
وفي النهاية لا يسعنا إلا أن نتذكر كلمات لوركا المسرحي، والذي قضى صغيراً وللأسف، والتي مازالت تتردد أصداؤها في كل مسارح العالم، والتي تقول: "المسرح الذي لا يتحسس الحافز الاجتماعي، والحاضر التاريخي، والدراما الخاصة بشعبها، ويضع يده على اللون الحقيقي لبيئته وروحها، بما فيها من بسمة أو دموع، لا يحق له أن يسمى مسرحاً. يجب على المسرح أن يفرض ذاته على الجمهور، لا أن يفرض الجمهور ذاته على المسرح". (11)
الهوامش:
1- الآنسة روزيتا العانس- فديريكو غارسيا لوركا- ترجمة ماهر البطوطي- سلسلة من المسرح العالمي- العدد (165)- الكويت- 1983 .
2- الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق- ج.ل. ستيان- ترجمة محمد جمول- وزارة الثقافة- دمشق- 1995 .
3- أخذت المعلومات عن حياة لوركا من المصادر والمراجع التالية:
أ- الآنسة روزيتا العانس- مصدر سابق.
ب- لوركا كما يراه أخوه- ترجمة وتقديم ممدوح عدوان- الحياة المسرحية- العدد (46)- وزارة الثقافة- دمشق- 1999 .
ج- في مسرح فيديريكو غارسيا لوركا- ترجمة نبيل الحفار- الحياة المسرحية- العدد (46)- وزارة الثقافة- دمشق- 1999 .
4- الآنسة روزيتا العانس- مصدر سابق.
5- لوركا المسرحي كما يراه أخوه- مصدر سابق.
6- لوركا المسرحي كما يراه أخوه- مصدر سابق.
7- الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق- ج.ل. ستيان- ترجمة محمد جمول- وزارة الثقافة- دمشق- 1995 .
8- في مسرح فيديريكو غارسيا لوركا، مصدر سابق.
9- الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق، مصدر سابق.
10- الآنسة روزيتا العانس- مصدر سابق.
11- الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق، مصدر سابق.
المصدر : العدد 61 تموز 2012