هل نحتاج إلى توافق على تعريف الخيال باعتباره ملكة نفسية وقوة باطنية تعيد إنتاج المعطيات الإدراكية السابقة، وتسهر على تشكيل تمثيلات ذهنية مشابهة لظواهر العالم الموضوعي أو مغايرة لها في بنيتها وعلاقاتها وطرق اشتغالها؟
هذه الملكة أداة مفارقة في الطبيعة الإدراكية والوظيفة النفسية للحس والعقل؛ لا تقف حركتها الذهنية عند حدود مظاهر العالم العيني وأشيائه الحسية، ولا هي تكتفي بنقلها بصورة حرفية مطابقة لأصلها المادي، ولا تهدف إلى ضبط الحقائق الثابتة والقوانين الجوهرية الثاوية خلفها، وإنما هي ملكة تقوم على التحرر من نظمها ومن مألوف التعامل وسائد النظر إلى تلك الحقائق الثابتة وقوانينها والمعتاد في التفاعل معها، وتسعى إلى استكناه المعنى الحقيقي المضمر للوجود والإنسان وتشييد عالم مختلف أجمل وأمتع. وهكذا فإن الخيال متنفس للذات الإنسانية ووسيلة لإشباع الأحلام والرغبات ومقاومة واقع الإحباط والفشل والهزائم والانكسار في حياة المرء والمجتمع. نقف هنا أمام دفق من الأسئلة عن موقع الخيال والمتخيل في أنشطة الإنسان الذهنية والجمالية، وحدود الفردانية والكونية ومصدر قدرة النفس الخيالية وطاقاتها التخيلية ومستوى فعالية المؤثرات الخارجية والانفعالات الداخلية والتوترات العاطفية في التخيل الذي يمثل نشاطاً إنسانياً دائماً متجدداً.
المتخيل، من ناحية أخرى، هو معطى مادي يدل على الخيال ويقوم شاهداً عليه، ثم يتقدم ليشكل جسر عبور إليه واقتراب منه. أي أن المتخيل هو صورة الخيال بعدما تتحول من مستواها الذهني الباطني المجرد وتتشكل في قالب تمثيلي ومظهر إيجابي ملموس. إنه نسق علاقات بين الصور والحركية المنظمة لبناها والمركبة لعناصرها، كما كتب الكاتب المغربي يوسف الإدريسي (1). ولعل وصف إرنست فيشر للخيال بأنه واقع بالغ التركيز، لأن الإنسان لا يتخيل ما هو ليس موجوداً أو ينتمي لهذا العالم، يقترب بنا أكثر من توافق على أن الخيال غالباً ذكريات ذاكرة أعيد إنتاجها بمهارة ومران لتقديم واقع جديد منقطع عن صورته الخام.
نتمعن في هذا الصدد ملياً بالأمثلة الصورية في القرآن الكريم الذي يتضمن أواصر زمانية وأخرى مكانية. من أبرز أنماط الوسائل الأسلوبية في الأواصر الزمانية الصورة المفردة التي جوهرها التشبيه الكامن فيها، وثانيها التعالق الصوري الناجم عن بلاغة التضمين – حيث تتوالد الصورة صوراً متعددة متتالية يطلقها ما يفرزه ترابط جمل مع الجملة الرئيسة التي تشكل البؤرة التركيبية. وثالث الأنماط – كما لاحظت الباحثة د. عشتار داود محمد (2) التداخل الصوري المعتمد على امتزاج أو انصهار أدوات صورتين أو أكثر في قالب صوري واحد يربطهما رابط خفي أو عنصر مغيب. رابع هذه الأنماط هو التوازي الصوري عبر تلاحق صور متماثلة غير متطابقة، وخامسها تناوب صور متشابهة أو تحالف صور متحالفة في سياق تقطيع صوري، وسادسها انقلاب صوري يتبادل فيه المشبه والمشبه به مواقعهما. أما في الأواصر المكانية فالانقطاع واضح عبر مسرب داخلي جزئي بين الجمل أو بين ألفاظ جملة واحدة، أو عبر مسرب خارجي كلي يتموضع بين البنى الرئيسة الكبرى. وهكذا نجد الصور الوصفية المباشرة والصور الإيحائية غير المباشرة التي يزخر القرآن الكريم بها تمثل بالفعل رسماً متجدداً متقناً بالكلمات (3)، رسم يقف عند حد صارم للمنزه عن التشبيه والتجسيد.
" لقد بقي الإنسان يتعامل، منذ وجد، مع عالمين: عالم الواقع المحسوس، وعالم آخر قرين له يتصوره دينياً أو فلسفياً أو علمياً. فكانت هوية الإنسان تتحدد، منذ وجد، ليس فقط بمعطيات عالم الواقع الذي يعيشه حسّياً، بل تقوم كذلك بمعطيات عالم الغيب الذي يحياه روحياً، عقلياً وعاطفياً. والعولمة المعاصرة، بما أنها طموح إلى الهيمنة الشمولية على عالم الإنسان، المادي منه والروحي، فإنها تخترق معطيات العالم الواقعي بتسويق المنتوجات المصنعة، المادية وشبه المادية، والثقافية وشبه الثقافية، كما تخترق معطيات العالم الغيبي، عالم اللامرئي، بأفلام الخيال العلمي، وبالإنترنت وتقنيات الاتصال، وقد تجمع في الشخص الواحد بين هذين النوعين من الاختراق" (4).
واقعية الصورة الفوتوغرافية:
جزم آبل جانس، قبل خمس وثمانين سنة، وتحديداً في العام 1926، بأن الناس قد صاروا آنذاك يعيشون عصر الصورة الفوتوغرافية. ومع تطور تقنيات الصورة الفوتوغرافية والانتشار الهائل لاستعمالها وسرعة نشرها وإيصالها وتضاعف تأثيرها في شتى المجالات جزم الناقد الفرنسي رولان بارت أننا نعيش حضارة الصورة، ومثله إلى حد كبير قال ريتشارد كيرني R. Kearney في أول صفحات كتابه The Wake of Imagination. فقد سمحت التقنيات التكنولوجية والإلكترونية بتطوير بنىً فوقية INFRASTRUCTURES فيزيائية ونفسية تعتمد على ما أسماه رون بيرنت (عوالم الصور)، متخطية تثبيت صورة مشهد واقعي ثابت أو متحرك لتصطنع عوالم مختلفة عن العالم الواقعي، فصدق ما توقعه والتر بنيامين سنة 1936 بأن يتعاظم تأثير التغييرات التكنولوجية على معنى الفن في المجتمع. لقد صارت الصور تملأ حياتنا، وبتنا نشهد بوضوح شديد مدى رحابة آفاق التعامل مع الصور وبها، حتى كادت هذه الآفاق تصبح بلا حدود تحدها، أو قيود تقيدها. ولئن كان الأصل في مقولة (التفكير البصري) كمحاولة لفهم العالم من خلال لغة الشكل والصورة - كما قال أرنهايم- هو ما كان لإبداع التشكيلي من حرية في إعادة صيغة مشهد أو فكرة بالريشة والألوان وتتابع الضوء والظلال، فإن التفكير البصري قد بات عنواناً لتشكيل فوتوغرافي أشد ارتباطاً بالإبداع من ذي قبل، وأكثر انتماءً إلى المستقبل وتداخلاً فيه، بعدما تقلصت فجوات الفروق ما بين الصور الإدراكية (الخارج) والصور العقلية (الداخل).
وهكذا، بعدما بدا لدى اختراع آلة التصوير الأولى، وتعزز مع تسارع تطوير قدراتها، أن آلة التصوير قد أعفت المبدع التشكيلي من تسجيل الواقع واستنساخ مشاهد الطبيعة، تحول دور الصور الفوتوغرافية المختلفة إلى تمثيل الواقع واستيعاب حقائقه وملاحظة ما تصعب ملاحظته، واستخلاص دروس واقتراح حلول. وقد سمحت المستجدات بالقول إنه "في مجتمع القرن الحادي والعشرين تصبح الصورة أهم من الأصل، وتقوم أجهزة الإعلام العالمية بهذه المهمة على خير وجه" (5). وفي كل الأحوال، تظل الصورة العقلية Image حالة أكثر تجريداً من الصورة الواقعية. بكلمة أخرى، الصورة العقلية تشبه الصورة الفوتوغرافية التي اختزنها العقل، وهي مشابهة لعملية إدراك شيء واقعي أو حقيقي (6). من هنا يتيح التفاعل بين الصورة العقلية والصورة الواقعية حيزاً واسعاً لعقلنة دور الخيال وتطبيقاته، بعدما حررت تكنولوجيا المعلومات إبداع الفنان التشكيلي والبصري من قيود الزمان والمكان، وجعلته يرى عمله من زوايا مختلفة لم تكن متاحة من قبل، بعدما كان أسير قيود إطار اللوحة وثنائية أبعادها، طولاً وعرضاً، فعززت قدراته الإبداعية وهو يرسم في فراغ غير محدود ثلاثي الأبعاد، بعدما أضيف العمق إلى بعدي اللوحة الأصليين.
لفت د. نصر الدين العياضي النظر إلى انعدام ثنائية الأصل والنسخة في الصورة الرقمية، بحيث تصبح شيئاً واحداً يتضاعف باستمرار، أي أن الأصل هو الصورة، والصورة هي الأصل (7). تتشابه هذه الصورة الرقمية مع ما آلت إليه المادة في الصحيفة الإلكترونية التي يتدخل عدة أشخاص لتعديلها وتشكيلها فتصبح كما وصفها برونو بتينو Bruno Patino عجينة لينة يعاد تشكيلها في كل مرة، فلا تعرف في الصحافة الإلكترونية الأمريكية أين هو الأصل وأين الإضافة والتعديل(8). وإذا كانت التقنيات الحديثة وابتكاراتها في تصوير المكان والحجم والضوء وغيرها من الخصائص المميزة للفن تقابل المطالب المستجدة، كما رأى غومبريتش في كتابه قصة الفن( 9) فإن غومبريتش نفسه قد نبّه قبل ذلك بخمس وثلاثين سنة في كتابه المشهور المعنون (الفن والوهم) إلى أن "فكرة العين البريئة Innocent eye مجرد أسطورة، فالإدراك ليس مجرد عملية تسجيل للمعلومات؛ وإنما عملية تتأثر كثيراً بالمعرفة والمعلومات، والإحساس ليس الأساس الوحيد للإدراك". (10)
كتب المصور الروسي المبدع ألكسندر روتشنكو (1891-1956) عام 1943، وبعد سلسلة ثورات دموية داخل روسيا: «الفن هو في خدمة الشعب. لكن الشعب يقوده كل شخص إلى حيث يريد. أنا أريد أن أقود الشعب نحو الفن وليس أن أستخدم الفن لقيادة الشعب إلى حيث لا ندري. هل وُلدتُ باكراً جداً أم متأخراً جداً؟». وقد جاء وصف أنطوان جوكي في باريس لروتشنكو بالكاميرا المبدعة التي حررت فن التصوير من سلطة الرسم (11) في محلّه. فقد باتت الصورة فعلاً ذات دور شديد الفعالية والتأثير. إنها سلاح خطير يعمل في اتجاهين متعاكسين، فالأصل في نتائج استخدامه هو مقاصد المتحكمين بتوجيهه وبوسائط إيصال منتجاته إلى المتلقين في شتى أنحاء العالم..اهتز هذا العالم مثلاً عندما تم نشر صور التقطها المصور الأمريكي (جو أدونيل) الذي كان يعمل مع مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) في جبهة اليابان، موثقاً مشاهد الدمار غير المسبوق الناجم عن إلقاء القنبلتين النوويتين الأمريكيتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في شهر أغسطس 1945. كانت إحدى أكثر تلك الصور بشاعة وإثارة للرعب والألم صورة طفل صغير من ناغازاكي زاغت نظراته وهو يحمل جثة شقيقه الأصغر إلى مدفن. كذلك هو تأثير صورة لاحقة انتشرت عالمياً على نطاق واسع لطفلة فيتنامية تركض عارية وملامح وجهها تفيض رعباً وألماً بعدما احترق كل جسمها بنابالم ألقته الطائرات الحربية الأمريكية على قريتها. لقد تراوح تأثير تلك الصور عالمياً بين اشتداد الحذر من ويلات الحرب التي ضاعفتها أسلحة التدمير الشامل الجديدة، واشتداد الرهبة من الولايات المتحدة التي تمتلك معظم تلك الأسلحة، وبالتالي انتشار موقف يبرر الاستسلام لإرهابها توسلاً للسلامة، في مقابل موقف نقيض غاضب يصمم على المقاومة لوقف حروب الإبادة هذه.
توالت تطبيقات ذائعة الصيت لتأثير الصورة الفوتوغرافية في عصرنا، ولكن من النادر أن تلعب صورة فوتوغرافية دوراً هائلاً، مثل دور لعبته صورة جثة جندي أمريكي جرّها صبية صوماليون حفاة عارية على رمال بعض شوارع عاصمتهم مقديشو مبتهجين. لقد أصيب الرأي العام الأمريكي بصدمة هائلة عندما عرضت شاشات التلفزة الأمريكية تلك الصورة، فتصدعت أساطير سوبرمان ورامبو التي كانت راسخة في العقل الباطن الأمريكي، وتبدد وهم القوة الأمريكية الخارقة العظمى القادرة على تطويع العالم وإعادة صياغته بما يخدم مصالحها ونزواتها. وهكذا اضطرت الإدارة الأمريكية إلى سحب قواتها يوم 31/3/1994 من ذلك البلد الفقير الذي عصف به الجوع والصراع على السلطة والفوضى، قبل أن تحقق تلك القوات أياً من الأهداف التي أعلن الرئيس الأمريكي بثقة وخيلاء التزام الولايات المتحدة الصارم بتحقيقها عبر عمل قواتها في الصومال. حدثت هذه النكسة السياسية والعسكرية للإدارة الأمريكية بالتأكيد تحت ضغط المضاعفات الشعبية التي ولدتها تلك الصورة. ولكي نقدر الأثر الدولي لهذه النكسة، نستعيد تعليق الخبير الفرنسي البارز في الشؤون العسكرية مارك ديغورنو على ذلك الهروب الأمريكي، الذي كانت صور فوتوغرافية سببه المباشر، في مقالة مطولة كتبها بعنوان " قوة الأسلحة وقوة الرجال" (12) انتهت إلى تساؤله: "إذا أجبرت دولة كبرى على جلاء يرثى له عن بلد صغير كانت تعتقد أنها قادرة على السيطرة عليه، وأرغمت على التخلي عن ممارسة المبادئ الأخلاقية التي أعلنتها بصوت عال، واستسلمت عند الاقتضاء إلى ابتزاز بعض الدول الصغرى، وبدت هذه الدولة الكبرى عاجزة عن إيقاف أمواج البؤس العاتية التي تجتاح العالم، فما الفائدة من كونها كبيرة وقوية؟ ". إنها صور خدشت هيبة الولايات المتحدة، فحق لكثيرين القول بأننا ولجنا عصر هيمنة الصورة. وسنة بعد أخرى، يتبين أن العولمة- بسيئاتها وحسناتها- تكرس هيمنة الصورة أكثر فأكثر..
لاشك في أن أحد أكثر الأوصاف دقة لعصرنا هو وصفه بعصر السرعة. وبعد أن سمح تطور تقنيات الاتصال بالبث الفوري للصور والمعلومات عن الأحداث والتطورات من أي مكان في العالم إلى سائر أنحاء كوكبنا، وإلى الكواكب الأخرى أيضا، تعاظم التركيز على استخدام الصور بديلاً للشرح والوصف بالكلمات. انسجم هذا مع هيمنة نمط الحياة الذي يسابق الإنسان فيه الزمن، وينزع إلى اختصار كل ما يستطيع اختصاره، واختزال كل ما يمكن اختزاله، وتفضيل أسهل السبل حتى لو لم تواكب سلامة الاختيار وحسن الأداء تلك السهولة. لقد تم تقدير حجم المعلومات الجديدة التي تضاف سنوياً إلى المخزون السابق في الإنترنت مجموع أحجام سبع وثلاثين مكتبة عامة كبرى بحجم مكتبة الكونغرس الأمريكي، أضخم مكتبات العالم، وفق بحث أنجزته جامعة كاليفورنيا في العام 2005. لقد أخذ الإعلام الراهن يفتت الوقائع والأحداث والتطورات، ويغرقنا في كم هائل من هذا الفتات، وتعاظم دوره في تكييف السلوك وتشكيل المشاعر وإثارة الحقد والكراهية والذعر والرغبة في الانتقام والثأر. وتضاءلت إنسانية الإنسان مع اشتداد طغيان المال والآلة والإلكترون وروح الذئب." لم تنتج ثورة الاتصالات الكونية بمعايير التفاعل الثقافي والإنساني وإنما وفق آلية التلاطم، كما لو أننا في محيط هائج تتلاطم أمواجه،لا يستطيع أحد أن يرى الآخر إلا من خلال رغبته في البقاء الذاتي". كما رأى المفكر السويسري المعروف جان زيغلر، في واقع غير مسبوق من فيضان إعلامي يتجدد طوفاناً يومياً من الصور والمعلومات والأخبار، يصعب على المتلقي التوافق مع سرعة هذا الدفق وقوته ما لم يحصل على أكثر ما يمكن بأقل جهد ممكن وأقصر وقت ممكن. وهنا تبرز أفضلية الصورة التي قد تغني عن جمل كثيرة وصفحات من الكلمات، والتي يعتبرها المتلقي أكثر صدقاً من الخبر المكتوب أو المسموع، لأنها لا تخضع للأهواء والمصالح والنزوات والعقائد السياسية أو الاقتصادية أو الفكرية التي تؤثر على صاحبها عندما يصوغ كلمات خبر أو تعليق أو تفسير (13). زاد في تعاظم دور الصورة وتأثيرها وجذبها ما طغى في عصرنا من خواء، على الرغم من كل الابتكارات والاختراعات. فلم تشهد الإنسانية في تاريخها المديد مثل هذا الكم الهائل من الهراء، كما رأت( لورا بيني) سنة 2005 في كتابها المعنون " مكالمتك تهمنا: حقيقة الهراء" (14).
وهكذا بات للصورة دورها الخطير والمزدوج، الإيجابي والسلبي، وفقاً لنزاهة استخدامها. فنلاحظ إنه "مثلما كانت التلفزة عاملاً أساسياً في افتضاح الفضائح الأمريكية في فيتنام كما قال ماكلوهان في أوائل الستينات من القرن الماضي، مما استنفر معارضة شعبية أمريكية فاعلة قوية لتلك الحرب، فإن التلفزة أيضاً وما لحق بها من تطوير وعولمة لعبت دور البطولة في افتضاح جرائم الاحتلال الصهيوني في فلسطين "(15)، لكنه دور سرعان ما عانى من الضمور والتراجع، وباتت المشاهد تتكرر برتابة، فألفتها العين، وما عادت تتجاوزها إلى القلب أو العقل إلا نادراً. هذا ما جعل بعضنا يتساءل عن سر غلبة تأثير الصورة القادمة من الآخر وديمومة هذا التأثير طويلاً. أجاب الإعلامي اللبناني نصري الصايغ بمقالة مطولة لخص عنوانها مضمونها وما خلصت إليه من نتائج:(16). أبرز تلك النتائج في رأيه هي نجاح الإعلام المعولم عبر وسائله التي يحركها رجال مال واقتصاد وإدارة يهود في التحكم بنشر وتوزيع الصورة والخبر لخنق الفلسطينيين بشبكته العنكبوتية وتزوير صورة تظهر دعم الحق الفلسطيني أو المطالبة به إرهاباً، كما شهد حتى إعلاميون إسرائيليون مثل شارل أندرلان في كتابه (الحلم المكسور) وجوس دراي ودنيس شيفر في كتابهما (حرب الإعلام الإسرائيلي).
تمعّن صالح فوزان في استنتاجات الدكتور عبد الله الغذامي في كتابه (ثقافة الصورة التلفزيونية) الذي يجعلك تلامس عوالم مبنية على التضاد تمكنت ثقافة الصورة من فضح عوراتها، أو حسناتها إن وجدت، كاشفاً مدى تغلغل ما سمي صورة (التيك أوي) كنسق بتنا ندور داخله كمجتمع. قال فوزان:" طرحت سطور الكتاب أسئلة أولها لماذا لم تتمكن ثقافة صورة (التيك أوي) من صانعها ومبدعها ومروجها بالمستوى الذي تغلغلت بنا وبتنا ندور في فلكها الضيق، والمسطح، والمباشر! ولماذا نحن؟ نحن فقط! وهل حجم التأثر والتأثير (غير المسيطر عليه) الذي يقع علينا أفراداً ومجتمعاً من صورة (التيك أوي) سببه علاقتنا السلبية مع ثقافة الصورة أو مع الصورة ذاتها. وما الذي حققناه بموقفنا السلبي تجاه ثقافة الصورة بشكل عام والصورة السينمائية تحديداً؟ وما هي السبل والوسائل التي من الممكن أن تزيل خوفنا من هذا العدو الوهمي الذي خلقناه بأنفسنا!؟..فالصورة السينمائية وتبعتها التلفزيونية نمّطتنا ولازالت بشكل كاريكاتوري سلبي، وبالتالي نمّطناها بنفس السلبية كرد فعل طبيعي ودفاعي، أما بسبب نوع أطروحات السينما المحيطة بنا أو بسبب سينما هوليود وما شابهها كسينما النجم أو السينما التي تلعب على الغرائز السلبية" (17).
في المقابل، قال مقدم البرنامج التلفزيوني الألماني هارالد شميث فاضحاً سبب تأخر الأميركيين في الوصول إلى مشارف بغداد مع بداية الحرب في آذار سنة 2003: " القوات الأميركية تأخرت وكان يمكن أن تبلغ هذه المواقع بسرعة أكبر, لأن فضائية CNN قد اضطرت لإعادة تصوير المشاهد مرات عدة، قبل بثها الذي تم الزعم كذباً يومها إنه يتم على الهواء مباشرة.." !
لقد تابع كثيرون مثلاً آنذاك على شاشة CNN ما قيل إنه بث مباشر لدخول بعثة هذه المحطة الفضائية الأمريكية مدينة تكريت وعدة مدن وقرى عراقية أخرى مارة بمعسكرات ضخمة للجيش العراقي خالية من البشر، لكنها مكتظة بآلاف الدبابات والمدرعات المصفوفة. كانت مدافعها ورشاشاتها ملقمة بالقذائف، جاهزة للإطلاق، لكن طواقمها البشرية قد تركتها. أكد المذيعون الأمريكيون لمحطة CNN الذين قدموا تلك المشاهد، وتدخلوا مراراً للتعريف بها بالصوت والصورة أن ذلك البث مباشر. تكرر هذا التأكيد لساعات على امتداد طريق سير المراسلين الأمريكيين ومرافقيهم من الفنيين. أكد المراسلون بالصوت والصورة أنهم أول من يدخل هذه المدن والمواقع، وأنهم سبقوا القوات الأمريكية إليها، وكرروا استغرابهم لأن القوات الأمريكية قد تأخرت في تقدمها! تلك كانت مشاهد سينمائية بامتياز، ولا يمكن أن تكون بثاً مباشراً لاقتحام صحفي أمريكي لمدينة مثل تكريت بالذات، قد سبق اقتحام قوات الغزو العسكري لها..
ليست معايير الجمال الظاهري هي الحاكمة للإبداع في التصوير الفوتوغرافي فالصورة التي فازت بجائزة أفضل صورة صحافية لعام 2006 التقطتها المصورة الصحافية نينا بيرمان أثناء حفل زفاف أحد رجال المارينز في أكتوبر2006. وفي هذه الصورة التي نشرتها مجلة بيبول يبدو العريس توي زيجل إلى جانب عروسه الجميلة وكأنه تمثال من الشمع غير مكتمل، أو روبوت يرتدي زي المارينز. فهو بلا أنف ولا أذنين، وقد حلت مكانها قطع صغيرة من البلاستيك، كما إنه بعين واحدة، وبيد واحدة، وفي كف اليد الأخرى ثلاثة أصابع فقط، وعندما سألت المصورة العريس فيما بعد، عن السبب الذي جعله على هذا الشكل قال: "كنت أخدم مع القوات الأمريكية في منطقة الحدود العراقية - السورية في ديسمبر2004 وفجأة، داهمت عناصر المقاومة العراقية الشاحنة وحولتها إلى كتلة من اللهب، وبدأت أصرخ، وكان زملائي في الشاحنة يصرخون معي، فقد كنا نحسّ جميعاً بوهج النار يشوي جلد رؤوسنا ووجوهنا، ونقلوني إلى المستشفى حيث رحت في غيبوبة استمرت فترة طويلة أجرى الأطباء لي خلالها 50 عملية جراحية، واستبدلوا قحفة رأسي، أو القسم الأعلى من الجمجمة، بقطعة من البلاستيك، وأعاد أطباء التجميل تشكيل وجهي من جديد، ولكنهم وجدوا حفرا صغيرة مكان الأنف والأذنين، فغطوها بقطع من البلاستيك"...افتتح المعرض في مطلع سبتمبر2007 في غاليري جن بيكمان في حي سوهو بمدينة نيويورك، وقد وصفته الصحف بأنه مؤثر جداً، ويسحب الدموع من العيون، ويحتوي على صور وحكايات لا تنشرها الصحف، ويعرض جانباً حقيقياً للحرب لا يراه الرئيس بوش ومعاونوه" (18).
كذلك كان هائلاً – لكنه مؤقتاً - تأثير صور احتراق البارجة الصهيونية في تموز 2006 على شاطئ بيروت وحطام عشرات الدبابات الصهيونية في جنوب لبنان ومشهد الدمار الذي شمل عشرات ألوف البيوت وعشرات الجسور في لبنان، وخاصة القصف الوحشي الذي جدد مجزرة في بلدة قانا للمرة الثانية، موقعاً مئات الضحايا من الأطفال والنساء، ومثلها صور آثار قصف صاروخي غير مسبوق للمقاومة الإسلامية في لبنان الذي شمل للمرة الأولى منذ اغتصاب فلسطين سنة 1948مئات الأهداف المعادية فيما بين حدود جنوب لبنان ومدينة حيفا الفلسطينية المحتلة. قبل ذلك بسنوات كان هائلاً أيضاً – لكنه ظلّ محلياً ومؤقتاً - تأثير صورة الشهيد الطفل محمد الدرة الذي قتله الإجرام العنصري الصهيوني وهو في حضن أبيه الأعزل الذي كان يصرخ متوسلاً ومستغيثاً. كذلك كان تأثير صورة الشهيدة الرضيعة إيمان حجو ذات أربعة الأشهر التي مزقتها قذيفة صهيونية وهي على صدر أمها يوم 7/5/2001 في مخيم خان يونس بغزة، وبعدها تأثيرات صور الإجرام الوحشي الأمريكي في معتقل أبو غريب في العراق. في المقابل لم تكن وسائل وأساليب الاتصال العربية البدائية، والعقلية الرقابية الغبية البليدة قبل أربعين سنة، تسمح باستثمار تأثير صور عشرات آلاف الجنود المصريين العزل الأسرى الذين تباهى قادة عسكريون صهاينة علناً بوقاحة وعنصرية إجرامية أنهم قد أبادوهم بعد استسلامهم لتوفير أعباء إطعامهم وحراستهم! كذلك كان إهمال صور دبابات ومصفحات محترقة تركها جيش العدو الصهيوني لدى هروب قواته من مخيم الكرامة في آذار 1968، وفيها جثث بعض جنوده محترقة ومقيدة بالسلاسل لمنعهم من الهرب. لقد تم التعامل مع هذه الصور بما هو دون مستوى الدلالة الخطيرة لهذا المشهد الذي جاء بعد تسعة أشهر من وطأة الإحباط عقب الهزيمة العربية المذلة في حزيران 1967. في المقابل، استثمر العدو الصهيوني تلك الهزيمة العربية ولا يزال يستثمرها لابتزاز تنازلات هائلة على حساب الأرض والحقوق الفلسطينية والمصير العربي، ولتحطيم ثقة العرب بأنفسهم وقدراتهم، بعدما أتقن استخدام صور آلاف الجنود العرب الأسرى وعشرات آلاف الجنود العرب الهاربين بهلع وبؤس مزر، تاركين آلاف الدبابات والمصفحات ما بين محترق وسليم.. في كل الأحوال، مهما اختلف مستوى استثمار الصور أو حسن اختيارها أو براعة التقاطها، هناك صور كثيرة أبلغ تعبيراً وأشد تأثيراً وأوضح حضوراً من مئات الصفحات وآلاف الكلمات.
لقد طغت الصور على حياتنا المعاصرة وغمرت واقع الإنسان المعاصر بغزارة وفاعلية غير مسبوقة، لكن التعامل العربي مع هذه الظاهرة لا يزال متردداً، قلقاً، حائراً، مضطرباً، عشوائياً، ومتخلفا في الغالب، كما هو حال تعاملنا مع العديد من معطيات عصرنا الذي بات شائعاً فيه تكرار القول بأن سيطرة الصورة المتزايدة على مرحلتنا التاريخية الراهنة قد جعلت اللغة والكلمة تتراجع وتنحسر أحياناً أمام الانتشار الطاغي للصورة. استعار ماكلوهان في ترويجه المبكر للتحذير من هذا الطغيان عبارة فيكتور هوجو الواردة على لسان (فرولو) في رواية أحدب نوتردام: "الأبجدية سوف تقتل الصور". لكن أمبرتو ايكو يعارض مقولة صورية ثقافتنا المعاصرة، مستنداً إلى تعاظم انتشار واستخدام الحاسب الآلي في شتى مجالات الحياة والتعامل، فهو يذكر بأن الحروف في الحواسب أكثر من الصور، مما سوف يعيد مجد القراءة والكتابة سريعاً، فينحسر طغيان الصورة الراهن ولو قليلاً (19).
من ناحية أخرى، تعزز تقنيات إعادة إنتاج الصورة ومعالجتها، وحتى التلاعب بها، وتصنيع الواقع الافتراضي الأهمية المتنامية بالاستفادة من الآفاق الرحبة التي تتيحها الوسائط التكنولوجية المتقدمة من الأهمية المتنامية للصورة بما تحمله من تعبير جمالي وقيم معرفية. واضح أن "التكنولوجيا القديمة (الكيميائية والبصرية) هي تكنولوجيا محدودة وارتجالية، في حين تحمل التكنولوجيا الإلكترونية الجديدة وعوداً بتدشين حقبة جديدة من الحرية والمرونة في خلق الصور" (20). لكن جوناثان كريري J.Crary قد حذر من أن التطور السريع خلال أقل من عقد من الزمان في أن أساليب الرسم والتصوير بالكمبيوتر قد أدى إلى التشكيل المتلاحق والسريع للعلاقات بين الملاحظ وأشكال التمثيل التي تقوض أركان كل تلك المعاني الراسخة التي ترد إلى أذهاننا عن القائم بالملاحظة وموضوعات الصور، بعدما بتنا محاطين بالصور في كل مكان. ولئن شهدنا تزايد الاستخدامات السيئة للصورة في تزييف الوعي وإخفاء الحقيقة والإعلاء من قيمة السطحي والمؤقت والعابر والفاسد - على حساب الحقيقي والجوهري والأصيل - فإن الاتساع المتزايد والمتنوع للآفاق التي تتيحها مستجدات المبتكرات الإلكترونية تضاعف من فرص ومجالات سوء استخدام الصورة، مثلما تضاعف من فرص حسن استخدامها، فالفيصل هنا هو التربية الفردية والمجتمعية.
حتى عندما تكون الصور أصيلة وصادقة والنوايا إيجابية والمقاصد نزيهة، فإن إحلال الصورة الفوتوغرافية أو الشريط التلفزيوني على نحو متعاظم محل الكلمة المكتوبة أو المنطوقة يضاعف النزوع إلى الدعة والكسل والركون إلى الأسهل- وإن كان خاوياً أو هشاًَ – إذ تريح الصورة المتلقي وتغنيه عن التركيب الذاتي التخيلي لصورة أو مجموعة صور يترجم بها ما قرأه أو سمعه من كلمات، وما يرافق هذا التركيب الداخلي التخيلي من أفكار متوالدة وحوارات ذاتية واكتشافات وومضات إبداع، وحتى من شرود وشطحات. هذا ما أثار قلق مبدعين كثر، مثل المخرج العالمي الشهير فيلليني الذي قال: "إن التلفزيون قد شوه مقدرتنا على التوحد مع أنفسنا. إنه انتهك أكثر أبعادنا حميمية وخصوصية وسرية، فنحن نثبت أنظارنا عليه، وقد استعبدتنا طقوسية انتهاكية على الشاشة المضيئة وهي تعرض بلايين الأشياء، يلغي أحدها الآخر بشكل لولبي يبعث على التشوش والدوار" (21). مع ذلك، يظل الإنسان سيد ما أنتجه من تقنيات وأدوات ومبتكرات. هذا ما رآه يوسف أبو لوز مثلاً في عرضه للتماثل ما بين القصيدة والصورة: "الفوتوغراف فن صامت وشديد الفردية، والكاميرا التي أحرجت الرسام لا تفعل شيئاً إذا كانت بين يديّ مصور فوتوغرافي لا يعرف السر التشكيلي الآسر في المنظر والظل والضوء والزاوية الفوتوغرافية التي أشبه بزاوية المتصوف.
واليوم، وفي تجارب منظورة بعين نقدية وجمالية معتبرة، بإمكاننا أن نشهد ما يمكن تسميته عودة الكاميرا إلى حضن الشاعر. أو اقتراب الكاميرا من قلم الشاعر على اعتبار أنها لم تكن غائبة ثم عادت إلى حضنه. هنا يبحث الشاعر عن المشتركات القائمة بينه وبين الفوتوغرافي، فيجد أن الصورة هي المشترك الأول بينهما. الكاميرا تنجز صورة أو مشهداً أو نصاً بصرياً.. والشاعر ينجز كل ذلك باللغة.
إن الفوتوغرافي مصوّر ولكنه ليس رساماً. والشاعر هو الآخر مصور بالكلمات، لكنه كذلك ليس رساماً. والأدوات الفوتوغرافية التي تنجز الصورة مختلفة عن الأدوات اللغوية التي تنجز صورة الشاعر، ومع ذلك هما في النهاية تكوين تشكيلي لغوي بصري جمالي واحد. وما لا يستطيع أن يصوّره الشاعر بالكلمات، استطاع تصويره بالكاميرا من دون أن يخدش كرامته الشعرية، فهو لا يتعدى حدود كونه يحل صورة محل صورة، أو يجرب أداة تعبيرية بدلاً من أخرى، ليصل إلى ذلك الإشباع أو تلك الجملة التي يسوطها بكلمات مفصلية ويجعلها تعدو كالحصان". (22).
لا يبتعد جوهر ما رمى إليه أبو لوز في مقارنة القصيدة بالصورة التي تلتقطها عين مصور مبدع عبر عدسة آلة تصوير، عن رؤية حبيب الصايغ للعلاقة ما بين الشعر والرسم، إذ يقول: "بين الشعر والتشكيل مسافة ما بين النقطة وقلب النقطة. علاقة الشيء ونفسه، لكن عبر أعمار متوهجة وملونة من التجربة والممارسة، وقد يتفق التشكيل مع الشعر في كونهما فيهما شعور من القلب والعقل والخلجات الجوانية، لكن قلب الشاعر يقف عند حدوده تلك، داخل الحجاب الحاجز والصدر، فيما يتمرد قلب التشكيلي على دورته الدموية، ويتجمع في يده وأصابعه، وفي تلك القبضة الملهمة التي تحاول إعادة ترتيب الأشجار والبيوت والجبال من جديد. نقل البحار من أماكنها إلى الأدراج المغلقة والصالات ذات السقوف الخفيضة، وتغيير عنوان العالم من الشارع الذي يسكن فيه إلى صندوق البريد.
التشكيل، صدقاً، أقرب فن إلى كل فن من الفنون على حدة، والتشكيل أكثر من الموسيقا أقرب إلى الشعر، على نقيض الإشاعة المغرضة التي ظلت تتناقلها الأجيال...." (23).
نرجح من ناحيتنا أن يتعزز نوع من التآلف والتكامل بين الصورة والنص المكتوب أو المنطوق، بحيث يشكلا معاً ثنائية حية منسجمة. وبالتالي قد يخطئ من يجتزئ عبارة المفكر العربي المغربي د. محمد عابد الجابري "الولايات المتحدة حضارة صورة، والعرب حضارة نص" من سياقها فيعتمدها قانوناً ثابتاً أبدياً مطلقاً، فالتحول والتطور سنة حياة الأفراد والمجتمعات والثقافات.
المصدر : العدد 61 تموز 2012