كان القرن العشرون قرن الحروب العالمية والاستعمارية, هلك خلاله 187 مليون كائن بشري من جرائها ومن المجاعات, وتكدَّس فيه ملايين اللاجئين في المخيمات من جراء النكبات التي حلت ببلادهم.
وكان قرن النفط وقرن أوطانه وقرن الطاقة النووية الحميدة منها والخبيثة. ولو إنه كان قرن القومية والاشتراكية والعالمية لكنه كان أيضاً قرن صراع الحضارات الذي أدى إلى انتصار الرأسمالية, وقد تشكل فيه اقتصاد عالمي, وزالت الإمبراطوريات الاستعمارية ذات الطابع القديم واستبدلت بأشكال جديدة من العلاقات والسيطرة والتحكم, وأصبح هناك تشاركية أقوى بين البلدان الفاعلة في التجارة العالمية, ونشأ نظام متعدد الجنسيات.
وكان قرن المواطنة والديمقراطية, والمصالحة والاتحاد لبعض الدول السعيدة, لكنه كان بالمقابل قرن الجهل والتخلف والتجزئة للأمم التعيسة.
كان القرن العشرون قرن العلوم والأفكار الخلاقة والأعمال العبقرية للإنسان وقرن التغيّر والتحول, فقد شهد تطوراً للعلوم التجريبية والإنسانية.
ومع إطلالته, تم في باريس اكتشاف العناصر المشعة الأمر الذي حققه العالمان الزوجان بيير وماري كوري.
أما في الولايات المتحدة فقد بدأ "الأخوان رايت" يعدّان العدة بخطى ثابتة لتحقيق الارتفاع في الهواء بجسم ذي أجنحة تكون فيه قوة الرفع مستمدة من محرك؛ فمهّدا باختراعهما لدخول عالم الطيران من باب واسع، فشهد القرن العشرون منذ عام 1903 تقدماً هائلاً في هذا الحقل استمرَّ على مدى ما يقرب من 100 عام تطورت فيه الطائرات ودخلت عصر الإنتاج الصناعي بغزارة وتنوعت أحجامها وأشكالها ومهامها. سهَّل هذا الاختراع الحميد حركة الناس وتفاعلهم عبر الكرة الأرضية, لكنه سرعان ما تحول بفترة قصيرة من نعمة إلى نقمة بعد صناعة الطائرات الحربية كان آخرها أم القنابل (الحنونة) المجهزة بأخطر أنواع الأسلحة, التي رأيناها عبر الفضائيات تتساقط في سماء مدن عديدة من العالم, من "قنابل عنقودية, وفوسفورية ورؤوس نووية" إلى آخره من نتاج الطاقة كارهة البشر.
وينشر آينشتاين عام 1905 النظرية النسبية: الماضي والحاضر والمستقبل موجودة في آن معاً, وسرعة الضوء هي السرعة القصوى في الكون. واخترع أديسون المصباح الكهربائي نعمة الإنارة, وأنتج أول فيلم سينمائي صوتي عام 1913, ومن اختراعاته المصدح (الميكرفون) والحاكي أو الغرامافون وقد سجل أديسون باسمه أكثر من ألف اختراع.
وفي عام 1914 يحدِّد بافلوفPavlov المنعكسات التي أصبحت تسمى باسمه. وفي عام 1915، أجرى "غراهام بيل" أول مكالمة هاتفية عبر القارة الأمريكية.
نال آلبير آينشتاين جائزة نوبل عام 1921 من أجل أبحاثه في نظرية الكمّات في الطاقة المشعة التي قادته إلى مفهوم "الفوتون".
وفي عام 1923 اكتشف هانس بيرغيرHans Berger الأمواج الدماغية. وظهر الجهاز الكهربائي المستكشف للدماغ حيث يعتبر بيرغير أبو التصوير الدماغي الكهربائي. بواسطة هذا الجهاز أصبح من الممكن التعرف على ملايين من الخلايا العصبية. كما استطاع الكندي بنفيلدPenfield استكشاف القشرة الدماغية بواسطة الصعقات الكهربائية الخفيفة ووضع خريطة لتمركزات الحساسية الجسدية في القشرة الدماغية. سهلت هذه الاكتشافات لاحقاً اختراع الكومبيوتر ثم تحولت إلى نقمة في غزو الأدمغة والسيطرة عليها والتحكم بقراراتها.
وتمكن الطبيب "ألكسندر فلمنغ" من اكتشاف البنسلين ولم يُقدَّر له أن ينال اعتراف الدوائر الرسمية والطبية إلا بعد أن أثبت نجاعته في معالجة جرحى الحرب العالمية الثانية. وتتالت بعد ذلك اكتشافات المضادات الحيوية الأخرى التي نعرف نعمتها ونقمتها في تعنت البكتيريا واختلال مقاومة البدن.
وبرهنت التجارب التي أجراها أوزولد أفيريOswald Avery عام 1946 أن من بين جميع الذرّات البيولوجية، المورث الـ DNA هو وحده القادر على نقل الصفات الوراثية. كما حاز جيمس واتسون على جائزة نوبل في الطب لدوره في اكتشاف بنية المورثات، DNA، عام 1962.
في عام 1958 اخترع جهاز الليزر الذي تستخدم أشعته بدقة في العمليات الجراحية مثل جراحة المخ والقلب والأوعية الدموية والعيون والجراحة العامة.
وفي عام 1967 نفذ كريستيان بارنارChristian Barnard أول زراعة لقلب إنسان. وفي الثمانينات تم عزل فيروس السيدا VIH، واكتشاف البريون Prions أي العوامل الممرضة المختلفة عن الفيروسات التي تسبب مرض جنون البقر. وفي التسعينات ولدت النعجة "دوللي" من خلية واحدة في اسكتلندا.
حسَّن الطب من وضع الإنسان وارتفع معدل الحياة 10% عن السابق, واستمرت الجهود بشكل حثيث للسيطرة على أمراض الطفولة المشوِّهة حيث تمكن جوناس سالك عام 1952 من تركيب لقاح ضد شلل الأطفال. وتتالى تركيب اللقاحات حتى غدا تلقيح الأطفال شأناً ملزماً, فتناقصت وفيات الأطفال بمقدار 40%. كما تم في الخمسينات أول زرع كلية ناجح 1954.
وتحسنت الحماية الاجتماعية وتم ظهور الماء الجاري في المنازل (83% من البيوت والمراكز حصلت عليه), واتخذت إجراءات لإعطاء الحق في الاستراحة والعمل والصحة مع التقليل من ساعات العمل, مما أعطى دفعاً لازدياد الأمل في الحياة.
شهد النصف الثاني من القرن تطوراً هائلاً في الأتمتة وعلوم الكومبيوتر حيث انتقل الموضوع من الدماغ إلى الكومبيوتر ومن الفضاء إلى الفضائيات.
لقد تصوَّر الأمريكي جون فون نيومان John Von Neumann أول حاسوب يستخدم برامج حفظ يعتبر مرحلة حاسمة في تكوين المعلوماتية. ويعتبر فون نيومان مع نوربرت فينر مؤسس العلوم المعرفية, وقد جسد الاهتمام بالمقارنات بين آلية عمل الدماغ البشري وآلية عمل الحاسوب, ونجد ذلك في كتابه الشهير:"الكومبيوتر والدماغ" الذي صدر عام 1957.
وفي عام 1961 قام العالم الكبير كوروليوف بتحقيق أول تحليق للإنسان في الفضاء فأطلق يوري غاغارين على متن سفينة إلى المدار القريب من الأرض. في عام 1963 أرسل الاتحاد السوفييتي أول رائدة فضاء وهي فالنتينا تيريشكوفا التي أمضت 71 ساعة وأجرت 48 دورة حول الأرض, وفي عام 1965 دخل آلكسي لينوف التاريخ وكان أول رجل يسير ويسبح في الفضاء.
وفي عام 1969م، هبط رائدا الفضاء الأميركان نيل أرمسترونج وإدوين ألدرين الابن بمركبتهما أبولو 11 على سطح القمر..
وتمَّ عام 1971 تصنيع أول حاسوب تجاري ثم أول جهاز شخصي عام 1981 أطلق عليه اسم جهاز الكومبيوتر الشخصي. وفي عام 1982 ابتكر "راي توملينسون" البريد الإلكتروني باختياره الرمز @, فظهرت الشابكة (شبكة الإنترنت) إلى حيز الوجود وأصبح مئات الملايين حول العالم يستخدمون البريد الإلكتروني.
متنت العلاقات العلمية والفكرية عالمياً بفضل المعلوماتية التي قدمت دعماً ملحوظاً في هذا المضمار, ولو أنها أدت بالذاكرة لأن تصبح منذئذ تابعة للحاسوب.
ففي مجال مساحات التخزين, أعلن عام 1996 "نبأ لسبق ٍعالمي" إنه قد تم إنجاز "سيم" له ذاكرة ديناميكية بحجم الدومينو حيث أصبح بإمكاننا تخزين ما يعادل 160 كتاباً أو 8000 صفحة جريدة هذا يعني عملياً, إنه أصبح بإمكاننا أن نسافر عبر العالم وبحوزتنا مكتبة بأكملها! مكتبة الفاتيكان مثلاً تحتوي بحوثاً ومخطوطات هي من أندر المؤلفات والوثائق وخصوصاً ثمانية آلاف من الكتب التي صدرت خلال الخمسين سنة الأولى للطباعة.
نتج عن هذا المخاض العلمي أن الألفاظ القديمة اكتسبت معانيَ جديدة خلال هذا القرن (فارة, عنكبوت, ذواكر) نعني بهذه الكلمة الأخيرة "ذاكرة" من الآن فصاعداً: ذاكرة الكائن البشري وذاكرة الكومبيوترات على حدٍ سواء.
من ناحية أخرى, كانت النعمة الكبرى اكتشاف حملات التنقيب الأثرية لمدننا التاريخية والوثائق المدفونة في أرضنا والتي سلطت الأضواء على حقائق استوجبت إعادة كتابة التاريخ للوقوف على حقيقة المنطقة الثقافية - السياسية والإبداعات التي قدمتها للبشرية داحضة بنصوصها المحفورة على الألواح الآجرية الادّعاءات الماورائية والأوهام التي بنت الآراء المغلوطة والمتحكمة على مدى الزمان.
أما على الصعيد السياسي فقد كانت الأحداث تآمرية مبيّتة بالنسبة إلى العالم العربي, فبعد اندلاع شرارة الحرب العالمية الأولى قامت الثورة العربية الكبرى التي اصطدمت باتفاقية سايكس بيكو عام 1916 ثم بوعد بلفور المشؤوم عام 1917 "الوعد النقمة", الذي لا نزال نحصد أشواكه المريرة جيلاً بعد جيل. وكانت الصهيونية قد غرست أسافينها في الجنوب السوري رغم صرخات المفكرين الوطنيين الذين استشعروا الخطر ونبهوا إلى أن: "إحدى الويلات الآخذة في الحلول في الأراضي السورية كضيف ثقيل يضطر الساكنين إلى الرحيل, هي الصهيونية. فللصهيونيين جمعيات وفروع في جميع الأقطار المسكونة تعمل يداً واحدة لغاية واحدة وهي الاستيلاء على فلسطين وطرد سكانها السوريين منها".
وفي روسيا انتصرت الثورة البلشفية في أكتوبر 1917 وعُيّن لينين رئيس مجلس مفوضي الشعب من قبل مؤتمر السوفييت. ثم تم تأميم الممتلكات العقارية والصناعية وأعلن السوفييت أنه حقق ديكتاتورية البروليتاريا...خلق لينين مع غيره من البلاشفة: "الشيوعية العالمية", التي عُرف أعضاؤها بالـ:"الشيوعيين". وفي روسيا أعيد تسمية الحزب البلشيفي بالحزب الشيوعي عام 1922 وكان الحزب الوحيد المسموح له بالعمل أما الأحزاب الأخرى فكانت محظورة وتمت ملاحقة أعضائها. وتحوّلت الإمبراطورية الروسية القديمة إلى "اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية" الذي استمر حتى انحلاله عام 1991. وشاع التعبير:"الماركسية- اللينينية" وألّف لينين العديد من الكتب النظرية والفلسفية كاستمرارية للفكر الماركسي مثل: "الإمبريالية مرحلة عليا للرأسمالية", و"الدولة والثورة".
ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى أُعلن استقلال سورية وتم بعدها انعقاد المؤتمر السوري العام, الذي اعتبر بمثابة المؤسسة التشريعية التمثيلية لكل مواطني سورية الطبيعية, وكان أول برلمان في العالم العربي بعد الاستقلال, لكن في تموز من عام 1920حصل الاحتلال الفرنسي لسورية باستشهاد يوسف العظمة الذي تصدى له في ميسلون. وشهدت هذه الحقبة لاحقاً تأسيس أحزاب علمانية.
كما شهد صعود النازية في ألمانيا واندلاع الحرب العالمية الثانية 1939- 1945 التي استعمل فيها لأول مرة أسلحة الدمار الشامل التي يعود تاريخها إلى تطور العلم منذ عام 1898 عندما شرح الفيزيائي إيرنستروثرفورد أن تفكك بعض نواة الذرات ينجم عن نشاط إشعاعي.
ومع انتهاء الحرب تم في سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة إعلان ميثاق الأمم المتحدة وكان ذلك في 24\10\1945، والتي تبنت لاحقاً في قصر شايو في باريس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهو وثيقة حقوقية دولية ليست ملزمة قانونياً إلا أن الجمعية العامة تبنتها عام 1948 كمعيار مشترك لطموح الإنسانية جمعاء!...
لكن حدثت بعدها نكبات في الوطن ذات مدلولات مناقضة تماماً لحقوق الإنسان: حصلت نكبة 1948 بالاحتلال العنيف للأراضي الفلسطينية وإعلان قيام دولة العدو على أنقاض المجتمع الفلسطيني, تلاها عمليات تطهير عرقي وهجرة اليهود إلى إسرائيل.
وفي عام 1958, عام الوحدة العربية بين مصر وسورية, بدأت إسرائيل, بشكل ٍ سري, بناء ما أصبح يسمى بعد ذلك مفاعل ديمونا النووي. اعتقد مؤسسو إسرائيل أن لديهم حالة تفرض عليهم امتلاك أسلحة نووية. فمن وجهة نظر أمريكية, كانت إسرائيل تُعتَبَر دولة صغيرة وصديقة, ومُحاطة بأعداء كثر يريدون تدميرها. بهذا المعنى, تمتعت إسرائيل بدعم فريد من نوعه, دعم أهلي وقومي في الولايات المتحدة. احتلت إسرائيل عام 1967 مساحات كبيرة من أرض الوطن وهجَّرت ساكنيه ثم تمَّ استرداد القنيطرة وسقوط خط بارليف عام 1973. تبع ذلك الحرب الأهلية في لبنان واحتلال إسرائيل لجنوبه, ثم الحرب العراقية الإيرانية, وحروب الخليج الشرسة التي كانت مقدمة لاحتلال العراق وسلبه وتدمير شعبه بحجة منع سلاح الدمار الشامل تارة ونشر الديمقراطية تارة أخرى!....
وفي العقد الأخير من القرن تفكك الاتحاد السوفييتي وانهارت الأنظمة الاشتراكية وسقط جدار برلين وتوحدت ألمانيا, وتم تحرير الجنوب اللبناني عام 2000.
وفي مجال المفاهيم السياسية والاجتماعية برز في بداية القرن الفكر الجيوسياسي الذي أصبح اليوم فكراً عاماً يتناول المساحات السياسية وعلاقات القوى في آن معاً والذي يعتبره الباحثون ابناً لعلم الجغرافيا وعلم سياسة الدول, حيث أصدر فريديريك راتسل (1844- 1904) عام 1897 كتاب "الجغرافيا السياسية" وفي عام 1902 أضاف عنواناً فرعياً:"جغرافيا الدول, والتجارة, والحرب", يقترح فيه تحليلاً للعلاقات بين الشعوب وأراضيها ويحدد فيه مفهوم الدولة بالتعريف التالي: "الدولة هي جهاز عضوي ليس فقط لأنها تربط حياة الشعب وتمحوره حول ثبات واستقرار الأرض, بل لأن هذا الرابط يقوى بالتفاعل والتبادل لدرجة إنه يصبح مستحيلاً التفكير بهما إلا مع بعضهما بعضاً (...). وأهم سمات هذه الدولة هي قامتها, موقعها وحدودها؛ ثم يأتي نمط وشكل الأرض ونباتاتها, وسقايتها وأخيراً العلاقات التي تقيمها مع بقية الكرة الأرضية وخصوصاً البحار المجاورة والأراضي غير المأهولة".
أما رودولف كجيللن (1864 – 1922) من السويد فقد صاغ التعبير "جيوسياسي" عام 1916؛ ويتمحور تحليله أيضاً حول الدولة ويهدف إلى التساؤل عن حفظ وتوسع مساحتها بالأداة الخصوصية التي هي القوة العسكرية والحرب. يقترح هذان الكاتبان رؤية حتمية جداً لسياسة الدول, التي هي حبيسة الجغرافيا, مما يجعلها محكومة بالحرب من أجل الاستمرار, فيبدو التعبير "جيوسياسة" مرادفاً للقدرية الجغرافيّة.
وفي عام 1907 عرَّف بارك Park وبورجيس Burgess فكرة التفاعل في مقدمتهما"مقدمة العلم وعلماء الاجتماع" على أنها " نتيجة التفكير الذي طوَّره البشر على مدى زمن ٍ طويل في دأبهم لحلّ المفارقة القديمة للوحدة في التنوّع, وللواحد وللمتعدد, من أجل إيجاد قانون ونظام في البلبلة الظاهرة للتبدلات الفيزيائية والأحداث الاجتماعية – ولاكتشاف تفسيرات لتصرف الكون والمجتمع والإنسان".
إن التعبير "تفاعل"سوف يصطدم في الثلاثينات بحاجات الفيزياء التي سوف تستخدمه بمعنى مادي بحت, لكنه رغم ذلك فهو قد تمأسس باستخدامه في ميادين عديدة.
لكن على الرغم من تمأسس التعبير "تفاعل" فقد لوحِظ في النصف الأول من القرن غياب التناسق حيث سَّجله الصحفي الإنكليزي جيلبير كيث شيسترتونGilbert Keith Chesterton )1874 –1938) ولشهادته معنى وأهمية لا بأس بهما ونورد منها:" العالم الحديث ليس شريراً, هو طيب جداً وأكثر من اللزوم في بعض الحالات. فهو مليء بالفضائل العنيفة والمهدورة. عندما يهتز نظام ديني ما – كما حصل للمسيحية إبان الإصلاح الديني – لم تكن المثالب هي الوحيدة التي تحررت, الفضائل هي الأخرى تحررت وأحدثت أضراراً أفظع بكثير, أصبحت الفضائل مجنونة لأنها عزلت الواحدة عن الأخرى, وأجبرَت على أن تهيم كل واحدة منها في عزلتها".
وظهر في نهاية القرن مقولة تتناقض كلياً مع مفهوم "التفاعل" فهي تطرح نهاية التاريخ و"صدام الحضارات" أطلقها الأمريكي صموئيل هنتيغتون, والفكرة تقابل ذاتين متجانسين يعرِّضان هويتهما واستمراريتهما للخطر جراء استحالة الحوار فيما بينهما, لأنه سيؤدي بهما حتماً إلى قرار النضال بالقوة ضد "الآخر" حتى الوصول للغلبة بدل من البحث عن سبل التعايش معه. فإذا كانت هذه النظرية التي تضع الثقافة والهوية في صراع جاهلي, ملهمة للسياسات الخارجية خلال القرن, أمكننا فهم الحروب التي قد لا نرى نهاية لها.
انتشرت بين الثلاثينات والأربعينات من القرن حركة ثقافية تبرز أهمية وقيمة الوجود الإنساني ومعناه وهي الفلسفة الوجودية. وكان أبرز وجوهها الأديب الفرنسي "جان بول سارتر". ففي الحرب العالمية الثانية حيث كثر الموت وأصبح الفرد يعيش وحيداً ويشعر بالعبثية مع حالة القلق الوجودي وأصبح هناك حاجة فكرية لمناشدة الإنسان بأن يلتفت إلى قيمة الوجود وأهميته وحقوقه وحرياته وإلى احترام القيم الإنسانية الخالصة, والتأكيد على قيمة العمل, برزت الوجودية كحالة وعي فكري متأثرة بالعلمانية التي تقرّ بالاستقلال الذاتي للشأن الديني كما للسياسي, وبفصل المواطَنة عن أي نوع من أنواع الانتماء الديني أو الفلسفي, وبحرية الفكر والمعتقد, وحيادية السلطات العامة, ومساواة الأفراد في الحقوق والواجبات مهما كانت ديانتهم أو معتقدهم. كما تأثرت الحركة بسقراط الذي وضع قاعدة "اعرف نفسك بنفسك" وبالرواقية التي فرضت سيادة النفس.
وتميّز الفيلسوف الألماني مارتن هايديغر (1889- 1976) بتأثيره الكبير على المدارس الفلسفية في القرن العشرين, التي أهمها: الوجودية, والتأويلات, وفلسفة النقض أو التفكيكية, وما بعد الحداثة. ومن أهم إنجازاته إنه أعاد توجيه الفلسفة الغربية بعيداً عن الأسئلة الماورائية واللاهوتية والأسئلة المتعلقة بالمبحث النقدي في مبادئ العلوم وفي أصولها المنطقية, ليطرح عوضاً عنها أسئلة نظرية الوجود (الأنطولوجيا) وهي أسئلة تتركز أساساً على معنى الكينونة.
ومن دعامات الوجودية, سيمون دي بوفوار التي تعتبر أمّاً للتيار النسوي ما قبل 1968 وقد اشتهرت بصورة خاصة بفضل كتابها "الجنس الآخر" الذي نشرته عام 1949. وما تطرحه في كتابها من معاناة لواقع "امرأة" عاشت في كنف السلطة الأبوية وتحاول الخروج من أجل استرداد حريتها المسلوبة، وهو استعراض حيّ لتاريخ الحركة النسائية الغربية التي كانت فرنسا من أوائل الدول التي ظهرت فيها تلك الحركات وبالأخص بعد الثورة الفرنسية، بيد أن الحركة النسائية في ذلك الوقت لم تكن مستقلة بل كانت في يد السياسيين، كما أن تاريخ النساء كان من صنع الرجال، وكانت مسألة المرأة دائماً مسألة رجال أمسكوا بمصيرها، ولم يقرّوا بمصلحتها بل أخذوا أهدافهم ومخاوفهم وحاجاتهم.
إذا كان تاريخ النساء من صنع الرجال، فهل يعني ذلك أن المرأة هي التي سمحت للرجل أن يعتبرها جنساً آخراً؟ أم أن المجتمع هو الذي حكم عليها لتكون جنسا آخراً تابعاً خاضعاً للرجل؟ وهل اختارت أن تكون في قفص عوضاً عن أن تكون طائراً طليقاً؟ كيف أصبحت المرأة جنساً آخرَ؟ وما هي الأسباب التي جعلتها "آخرَ"؟
وهل الأسباب التي طرحتها دي بوفوار والتي مضى عليها 60 سنة، هي الأسباب ذاتها التي جعلت المرأة العربية أيضاً "آخرَ"؟
لقد كان القرن العشرون قرن تحرير المرأة؛ إذ منذ نهاية العقد الأول منه أي عام 1910 انطلقت الصحوة النسائية بصوت عال وقامت بمطالبات في مظاهرات منظمة من أجل الحصول على الحقوق المنتهكة.
وفي البحث عن أصول يوم المرأة العالمي وجذوره وفق اليونسكو, تبيّن إنه كما جميع التواريخ الرمزية لا تأخذ أصولها من حدث تاريخي واحد!.. يعود المرجع التاريخي الأساسي ليوم المرأة العالمي إلى الاضطرابات العمالية التي اندلعت عام 1857 وعام 1911 في نيويورك عندما احتجت العاملات في معامل النسيج ضد ظروف عملهن الرديئة.
والمرجعية التاريخية الأخرى هي تاريخ المؤتمر العالمي للنساء الاشتراكيات في كوبنهاغن عام 1910 وكانت الزعيمة الألمانية "كلارا تسيتكن" قد اقترحت إنشاء يوم عالمي للمرأة بغية الاعتراف بالنضال الذي تقوم به النساء في العالم كله.
أما المرجعية الثالثة فهي تاريخ مشاركة النساء العاملات في الثورة الروسية؛ ففي 8 آذار وفق التقويم الغريغوري تظاهرت نساء عاملات عام 1917 في الشوارع دعوة للإضراب العام حيث ألحقت بعد ذلك في الأعمال الثورية التي أسست الثورة الروسية البلشفية. وتعتبر العديد من المصادر أن لينين هو من أقرَّ يوم المرأة العالمي.
وفي عام 1977 أي بعد مرور سنتين على السنة العالمية للمرأة, تبنت الأمم المتحدة قراراً تدعو فيه جميع البلدان إلى تخصيص يوم للتذكير بحقوق النساء وبالسلم العالمي. فأصبح الثامن من آذار هو ذلك اليوم المعترف به في العديد من الدول؛ ثم في 18/12/1979 اتخذت خطوة رئيسية نحو تحقيق هدف منح المرأة المساواة في الحقوق عندما اعتمدت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة CEDAW حيث تضع هذه الاتفاقية المؤلفة من 30 مادة, في قالب قانوني ملزم، المبادئ والتدابير المقبولة دولياً لتحقيق المساواة في الحقوق للمرأة في كل مكان.
وتكشف هذه الاتفاقية الشاملة عمق العزلة والقيود المفروضة على المرأة على أساس الجنس لا غير. وهي تدعو إلى سن تشريعات وطنية تحرِّم التمييز وتوصي باتخاذ تدابير خاصة مؤقتة للتعجيل في تحقيق المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة وباتخاذ خطوات تستهدف تعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية التي تؤدي إلى إدامة هذا التمييز.
أما في عالمنا العربي فقد علت الأصوات لتحسين وضع المرأة وإعطائها الدور الذي تستحقه في مجتمع هو بأشد الحاجة لطاقاتها المجمدة والمهدورة في جميع الميادين وعلى الأخص في الميدان القومي, إذ "ليس العمل القومي وقفاً على الرجال, ولن يكون العمل قومياً حتى تشترك فيه المرأة وتكون عضواً عاملاً فيه, هي التي كانت في أدوار تاريخنا الخاص, عاملاً أساسياً في تقدمنا ورقينا, وفي تلك المدنيّة التي وزعناها على العالم.
لكن رغم مرور قرن من الجهاد من أجل حقوقهن, تواجه الحركات النسائية جميعها تحديات كبيرة في عملها, كعدم المساواة في البنى المرتكزة على الفروق الجندرية وعلى أشكال أخرى من الاستبعاد والتمييز بما في ذلك العمر والعرق والطبقة الاجتماعية التي لا تزال منتشرة في العالم كله.
إن أهم تحديات الألفية الجديدة التي تواجه منطقتنا بشكل خاص مسألة النهوض بأوضاع المرأة العربية. وهذا يحتم وجود استراتيجية عامة تسعى لتمكين المرأة وتشمل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إضافة لدعم التوجهات المعرفية والحقوقية للمرأة.
لكن قبل اتفاقية السيداو بعشرين عاماً تمَّ إعلان حقوق الطفل الذي اعتُمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة في 20\11\1959، وورد في نصّه عشرة مبادئ تتضمن عدم التمييز العنصري والديني, وإتاحة الفرص لنمو الطفل بكرامة, وحقه بالاسم والجنسية, حق الضمان الاجتماعي, وعناية خاصة بالطفل المعاق, حقه في الأمن المعنوي والمادي وعدم فصله عن أمّه, والاعتناء باليتامى ونفقتهم, حق التعليم المجاني والإلزامي, حق الحماية والإغاثة, الحماية من الاستغلال والاتجار, وعدم حمْله على العمل في مهنة مؤذية لنموِّه.
مع هذه الإنجازات والبحوث والإبداعات، تحوَّل القرن العشرون بشكل مكثف نحو امتزاج في العلاقات أقوى من السابق بين العلوم جميعها, حتى غدا لدرجة تسمح لنا بتسميته قرن عبر المناهجية بامتياز إذ تم فيه التعاون المثمر بين علماء الرياضيات والفيزياء والبيوكيميائيين وبين علماء النفس والمنطق والتربية واللغويين والمعلوماتيين وعلماء الفضاء والفلك والجيولوجيا وعلم الآثار والتاريخ وغيرهم, وخصوصاً بين علوم السياسة وعلوم الإعلام التي أصبح لها طابع عالمي لا يتعلق بلغة واحدة فقط إنما بالفكر الذي يُحَرك اللغات الإنسانية كلها.
ونتساءل هنا لماذا لم ينجح عالمنا العربي في نصرة عبر المناهجية واستمرَّ يفصل بين العلوم ينتقي بعضها ويتحفظ على بعضها الآخر, حتى ساد الفكر الاجتراري التكراري مغلقاً باب التجدد الذي لا يمكن أن يتم بوسائل فكرية قديمة؟
من جهة أخرى, يتساءل البعض إلى أين ستصل بنا العلوم والتكنولوجيا؟ ولا أحد يجهل التحديات التي تتعرض لها كرتنا الأرضية أن على الصعيد المناخي الذي تجلى بالاحتباس الحراري ونتائجه الوخيمة جراء إصدارات ثاني أكسيد الكربون أو على صعيد نفاد الطاقات الجوفية, أو مآسي سوء التغذية ونقص مياه الشرب, ناهيك عن الزلازل المدمرة والبراكين والعواصف والطوفانات المغرقة, بالإضافة إلى خطورة الصراعات البشرية التي قد تدمر الأرض تدميراً كاملاً, ورغم كل ذلك قلة من هم يريدون أن يعودوا للعيش في أجواء عام 1900!...
رغم كل الاضطرابات الخبيثة التي حصلت فيه, زخر هذا القرن بالفكر والحركة وانتقل بنا من النزهة في البساتين إلى النزهة عبر الكواكب ومن الكتابة بالريشة إلى الطابعة الخاصة في كل بيت, وأخذ الشعر معنى "الفكر" ومعنى "القضية" و"المقاومة".
أصبحنا في هذا القرن نتذوق الموسيقى العالمية ومعانيها الفلسفية ونستمتع بمشاهدة أجمل المسرحيات الهادفة بدءاً من مسرح القباني وصولاً إلى دار الأوبرا. وفيه شهدت سورية تظاهرة كبيرة لحركة الفن التشكيلي التي اتخذت الواقعية والتعبيرية أسلوباً لها, حيث لمعت أسماء فنانين برزوا على مستوى عالمي, وقد حاول كل فنان التعبير عن موقفه من الأحداث بأسلوبه الخاص وبرؤية جديدة. ولمع فيه عالمياً بيكاسو الرسام الإسباني الذي أطلق التكعيبية في الفن المعاصر.
وكان التلفاز اختراع العصر, ينقل الثقافة إلى منازلنا, ويعرض أبدع القصص الدرامية والكوميدية والبرامج الاجتماعية والتربوية, بالإضافة إلى المشاهد المرعبة لأفظع غارات شُنت على غزة وقبلها على العراق(37), البلد الذي علَّم البشرية كتابة الحرف وزراعة القمح وكل أسس العمران التي ُبنيت عليها المدنية.
صحيح أن الحياة" في القرن العشرين أرقى كثيراً منها في القرون الماضية. ومنذ مئة سنة إلى اليوم قد حدث في العالم تغيرات وتطورات شتّى، ومنذ الآن إلى مئة سنة أخرى سندخل في تغيرات وتطورات لم يكن يحلم بها عقل بشري من قبل، ولكنها قد ابتدأت تتحقق أمام أعيننا، فنحن نشـعر بتأثيرها الآخذ في الازدياد يوماً فيوماً". "وجودنا في القرن العشرين لم يكلفنا التمتع باختراعاته واكتشافاته وقوانينه وأنظمته شيئاً, فلنحترم القرون الماضية والأجيال السالفة لأنها دفعت من ماء قلوب بنيها ما نسر به اليوم".
وصحيح أيضاً أن القرن العشرين قد أكسبنا بغناه وغليانه وعياً يجعلنا نبحث بشكل دؤوب عن الذات القومية والثقافية وترسيخ دعائمها, كما أكسبنا مفاهيمَ تبلورت في أذهاننا لخدمة الحياة, لكن انبهارنا ونشوتنا بحصاده هي حالة ينبغي ألاّ تجعلنا ننسى أن "البشرية قد ضحت كثيراً في سبيل ارتقاء الحرية, ودفعت أثماناً فاحشة للحصول على العلوم والفنون التي تنير أنفسنا وتلطِّف حياتنا.
ومع ذلك فالحقيقة الراهنة هي إنه لا تزال أمام العالم تضحيات كثيرة وجهاد طويل قبل بلوغ ذلك العصر الذي يسود فيه السلام العام على وجه البسيطة "فيرقد الخروف مع الذئب" و"يطرح الناس الأحقاد جانباً وينصرفون إلى العمل المفيد والمباراة في الأمور النافعة وتصبح الحياة كلها قائمة على أسس ثابتة راسخة."
ورغم ما حصل ويحصل من حروب واعتداءات نجد أن عدد سكان العالم عام 1900 كان يقارب 1,5 مليار ونصف نسمة, أما في عام 2000 فأصبح 6 مليارات نسمة. وفي عام 2011 - 7 مليارات نسمة!....
المصدر : العدد 61 تموز 2012