يستمد الحديث عن الشاعر العربي الكبير بدوي الجبل (1904 – 1981), إلى نصوصه الشعرية, ويستمد مسوغاته من القناعة بأن البحث في الشعر لن يتوقف, فقد كتب عن الشاعر في الماضي, وسيكتب عنه في المستقبل, وعندما يتم تسليط الضوء على الشعر من حين إلى حين, فذلك لأننا نكتشف في كل قراءة جديدة أشياء جديدة, وكل دراسة للشعر هي في حقيقة الأمر إعادة خلق.
لقد حمل الشاعر محمد سليمان الأحمد «بدوي الجبل» لواء الكلاسيكية, ومثّل مع خمسة من الشعراء السوريين دور الريادة, وهؤلاء الشعراء هم: محمد البزم (1887- 1955) وخير الدين الزركلي (1893- 1976) وخليل مردم (1895 -1959) وشفيق جبري (1898-1980) وعمر أبو ريشة (1908- 1990) وقد ارتفع هؤلاء الشعراء إلى مستوى أندادهم العرب, وكانوا لسورية, كما كان البارودي وشوقي وحافظ لمصر, وكما كان الزهاوي والرصافي والجواهري للعراق, وأسهموا في إحياء الشعر العربي بعد هجعته الطويلة, وجعلوا من شعرهم جسور عبور إلى العصر, ونافحوا بهذا الشعر عن حرية بلادهم واستقلالها, وجمعت بينهم ظروف عامة ومعاناة متشابهة...
ولد بدوي الجبل في محافظة اللاذقية, ونظم الشعر وله من العمر أحد عشر عاماً, وكان للبيئة الشاعرية, والثقافة التراثية الرفيعة, والطبيعة الريفية الأخاذة, دورها في ميلاد موهبة الشاعر, وفي نبوغه.. نشر أعماله الشعرية الأولى عام 1924, في ديوان «الشفق» واشتمل على قصائد وطنية ووجدانية وغزلية, تنّم عن الملامح الأولى لشخصية الشاعر الإبداعية, وقد احتفى النقاد بهذا الديوان كثيراً, مما كان له الأثر الكبير في إبداعاته اللاحقة التي رصدت كفاح الشعب العربي من أجل نيل الحرية والتحرير, وصوّرت الواقع المأساوي للعرب بعد أن تكسّرت أحلامهم في بناء الدولة العربية الواحدة, وبعد أن تمكنت الحركة الصهيونية من اختراق الجغرافيا العربية, وإقامة الدولة الإسرائيلية البغيضة في جزء من بلاد الشام.
ابتهالات الغربة
يكاد شعر الغربة لدى بدوي الجبل أن يكون ديواناً كاملاً, وقد حمل هذا الشعر إضافات جديدة على شعره, وتجلّت فيه خصائص وسمات تشجّع على القول إن الشاعر منح أدب الغربة السوري شعراً جديداً, فقد بعثت الغربة في هذا الشعر شجناً يتتالى, نبع من الشرخ الذي أحدثه ابتعاد الشاعر عن وطنه, وقد أذكت هذه الغربة النزعة الوجدانية المتأصلة في شعره, وألهبت جمرها, فكانت ابتهالات الغربة التي تجسد بتنوعها وغناها نوعاً من الشعر الذي يعيد إلى الأذهان «اعتذاريات» النابغة «وروميات» «أبي فراس» فهي تنطوي على سمات خاصة تميزّها عن غيرها من قصائده, فقد آمن الشاعر بالحب في هذه الابتهالات وتمسّك بحباله وتمثله خيراً ونعمة, ونثر هذا الحب على وطنه وأطفال هذا الوطن, وغمسه بالشوق والحنين الدائم له, وكان التواصل منظومة من الذكريات الحزينة والمفرحة عبّر عنها البدوي في شعره ونثره, وعمدّها بالمراثي التي أحيا فيها صفحات من تاريخ بلاده, وقد شكل اليقين عنصر الصمود الذي أنقذ الشاعر من الضياع, وهكذا فالحب والتواصل واليقين هي أبرز خصائص قصائد الغربة, على تنوعها وتعدد أغراضها, وقد رسمت هذه «الابتهالات» مرحلة من أهم المراحل في حياة الشاعر, واستغرقت عقداً كاملاً من حياته الغنيّة, وانتهت بعودته إلى الوطن الغالي الذي يعشق:
وأعشق برق الشام إن كان ممطراً
حنوناً بسقياه وإن كان خُلبا
وأهوى الأديم السمح ريّان مخضباً
سنابله نشوى, وأهواه مُجدبا
مآرب لي في الربوتين ودُمّر
فمن شم عطراً شمّ لي فيه مأربا
سقى الله عند اللاذقية شاطئاً
مُراحاً لأحلامي ومغنى وملعبا
وأرضي ذرى الطود الأشم فطالما
تحدّى وسامى كل نجم وأتعبا
وجاد ثرى الشهباء عطراً كأنه
على القبر من قلبي أريق وذوّبا
وحيّا فلم يخطئ حماة غمامةً
وزف لحمص العيش ريّان طيبا
ونضّر في حوران سهلاً وشاهقاً
وباكر بالنعمى غنياً ومُترِبا
وجلجل في أرض الجزيرة صيِّب
يزاحم في السقيا وفي الحسن صيِّبا
خصائص شعره
في دراسة عن خصائص شعر بدوي الجبل, يرى الناقد سيف الدين القنطار أن البدوي أحب الشعر العربي القديم, ووجد مع تنامي وعيه كل الأسباب لاقتناء أثر هذا الشعر والإقتداء به, وكان البدوي يرى أن النموذج الذي يحاكي فيه القدماء هو الشعر ولا شعر غيره, غير أن للحياة قوانينها, فلقد شهد الشعر العربي انعطافاً عصف ببنية القصيدة التراثية وخرج عن نسقها الإيقاعي, وجاء ذلك في غمرة التفاعل مع الأدب الإنساني, ومع حاجة الذات العربية إلى التطور والتجدد, وعرف النموذج الجديد بشعر «التفعيلة». غير أن البدوي ظلّ على يقينه بأن كل مسّ بالقصيدة العربية لا يعبّر عن التجديد, وإنما يتمثّل التجديد بقدرة الشاعر على النهوض بالطاقة الكامنة في القصيدة العربية, وببراعته في دمج جمالات هذه القصيدة بمسائل العصر الفنية وهمومه الفكرية, وحاول أن يبرهن على ذلك بالكلمة والصورة وموسيقا الشعر..
لبنان, يا حلم الفردوس, أبدعَه
على غرار ذراك الواحد الصمد
وزاهدين بحسن أنت غُرته
لو آمنوا بجمال الله ما زهدوا
كأنما الشمُّ من لبنان في سفرٍ
البدر يقرب والغبراء تبتعد
الحسن منسجم فيه ومختلف
والحسن مجتمع فيه ومنفرد
جرى سنى البدر ماء في خمائله
فرحتُ بالموجة الزهراء أبتردُ
يرى بدوي الجبل أن الاختيار الصائب للكلمة هو الذي يكسو القصيدة الجمال, وبغير ذلك لا يكون الشعر, وينّم اختياره للكلمة عن معرفة عميقة وواسعة باللغة وأسرارها, وكان للديباجة في شعره جمالها وإشراقها, ووظّف الصورة في شعره توظيفاً جديداً, وقد خففها من ثوبها التراثي, وأصبحت أكثر رقة, بعد أن يُخضعها لقانون الولادة واليفاعة والنضج, وكانت الموسيقا من أركان شعره, فعرف كيف يعزف على قيثارة الشعر العربي أنغامه, وظلّ طوال حياته يكتب القصيدة العمودية المستندة إلى موسيقا البحر, وإيقاع القافية الواحدة, وعبّرت موسيقا شعره عن رحابة المدى, وطول النفس, ولعل ذلك يعود إلى طبيعة الشاعر الهادئة, وإلى كلاسيكيّته المفعمة بالفخامة, وبكل ما هو جليل وبهيّ, يقول في قصيدة ألقاها في مهرجان المعرّي:
لا تصلح الدنيا ويصلح أمرها
إلا بفكر كالشعاع صراحِ
خير العقائد في هواي عقيدة
شماء ذات توثب وجماحِ
وأحمل بكفيك الحياة تحديّاً
منها لأول معتدٍ في الساحِ
وأنا الذي وسع الهمومَ حنانُه
وبكى لكل معذّب ملتاحِ
أشقى لمن حمل الشقاء كأنما
أتراحُ كل أخي هوى أتراحي
تمر السنوات.. ويبقى بدوي الجبل واحداً من أبرز الشعراء العرب الذين أسهموا في تأسيس الشعر العربي السوري الحديث, وعلى مدى نصف قرن ويزيد شعّت حروف قصائده بقيم أمتنا العربية الرفيعة, وكان شاعرنا الكبير الراحل نزار قباني صادقاً حين وصفه بـ «السيف اليماني الوحيد المعلّق على جدار الشعر العربي».
المصادر:
1- بدوي الجبل, تأليف: سيف الدين القنطار - وزارة الثقافة - دمشق 2000م
2- بدوي الجبل, تأليف: أكرم زعيتر - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 1986م.
3- سامي الدهان – الشعراء الأعلام في سورية – دار الأنوار – بيروت طبعة ثانية 1968م.
4- بدوي الجبل, الديوان الكامل – دار العودة – بيروت 1978م.
المصدر : العدد 61 تموز 2012