"بيير بروجل القديم علامة مميزة جداً في فن بشمال أوروبا "منطقة الفلمنك (هولاندا وبلجيكا)" خلال عصر النهضة في القرن السادس عشر كرس جهود حياته العملية في فن التصوير بالتعبير عن نبض الحياة الشعبية في دقة طبيعية (خيالات تكوينية تنم عن التماسك وحيوية حركات العناصر الإنسانية الطريفة, مما جعله يلقب بـ (فنان العصر الخارق)".
بيير بروجل رسام فلمنكي, ولد في قرية صغيرة قرب مدينة (بريدا 1525, وتوفي في بروكسل 1569) كما يدعى رسام الملهاة الإنسانية حسب وصف (ليونيللو فنتوري L. Venturi) مؤرخ الفن الإيطالي الشهير, كما يعتبر الأكثر طاقة إبداعية في طرح التكوينات الإنسانية المعبرة عن جزيئات الحياة الشعبية والاجتماعية مما دفعهم إلى دعوته (الفنان الخارق) حسب الشخصيات القروية والفلاحية في جزيئات حياتهم وحركات أعمالهم وألعابهم بأسلوب يضج بالحياة من جانبها المشرق. كما اعتبره آخرون مراقباً للحروب والاضطرابات الدينية والتكتلات السياسية في عصره ورغم غموض طفولته إلا أن تاريخ مولده قد توافق عليه الجميع ما بين (1525-1530) دون تحديد اليوم والشهر, ولد في قرية صغيرة تدعى (برابان Braban) قرب مدينة (بريدا Breda) وتقع اليوم في الأراضي الهولندية ومنها أخذ اسمه بروجل, أما من حيث تعليمه الفني فقد التحق يافعاً في مرسم Pierre Coecke وقد تزوج ابنته 1563.
وبعد وفات حميه انتقل إلى مرسم ومشغل الرسام الشهير Jerome Cock الذي كان يدعى (مشغل الرياح الأربع) والذي سيصبح فيما بعد أكبر مركز للثقافة والفنون الإيطالية في بلاد الفلمنك وهذا أتاح للفنان بروجل أن يتعرف على إنتاج الأساتذة الإيطاليين العظام ومن بينهم ميكلانجلو ورافايللو وتيسيان وسواهم وذلك من خلال المطبوعات (فن الحفر).
وفي عام 1551 كان عليه أن يرحل إلى إيطاليا كي يتعمق أكثر في معارفه وخبراته الفنية, حسب تقاليد العصر المتداولة, ومن خلال الرسوم الكثيرة التي نفذها خلال هذه الرحلة الطويلة أتاح لنا التعرف أين حط رحاله (ليون - فيبينا - شمال إيطاليا - روما - نابولي - وصقلية).
إن رسومه السريعة التي كان ينفذها خلال تجواله تكشف لنا كأنها شاهد حي على ذلك:
مشهد النهر في المنظر الغربي - متحف اللوفر
الشاطئ الكبير - مجموعة خاصة
منظر من كالابريا - متحف روتردام
بالإضافة إلى مشاهد الصخور الجبلية التي أنجزها خلال اجتيازه جبال الألب وكان يرسمها بدقة عجيبة, إذ كان يصعد على الصخور الخطيرة ليدقق تركيباتها وتجاويفها ويرسم جزيئاتها في دراسات تخطيطية ناعمة جداً وكبيرة الحجم وقد استخدمها فيما بعد في رسم لوحاته الكبيرة بالألوان. وكانت أمانته الواقعية للطبيعية تدعوه إلى ذلك.
استأنف نشاطه بعد عودته 1554 في مشغل الرياح الأربع ونفذ موضوعات كبيرة الحجم منها المجموعة الشهيرة باسم (المناظر الطبيعية الكبيرة) نشرت عام 1555 وعلق عليها (روبرت ديلفوي R. Delevoy) تبدو هذه المشاهد قد نقلت الواقع في حقيقته العضوية.
وأتبعها بعد ذلك في رائعته (الخطايا السبع الرئيسية) ثم (الفضائل السبع) إلى جانب مجموعات من اللوحات الاستعراضية للحياة الاجتماعية.
وفي لوحاته دائماً الموضوع الأساسي في الوسط, كتلة من الهيئات الإنسانية المترابطة - وتقنية القرون الوسطى- وحولها تدور أحداث متممة ولكن بروح عصرية.
خلال إقامته في المشغل (الرياح الأربع) ارتبط بصداقات مع عدد كبير من المثقفين والمفكرين في الوقت الذي كانت تتأجج فيه الصراعات الاجتماعية والفكرية والدينية, وكان يشاطر مواطنيه الاهتمام بمشاكلهم بروح مضيئة فيها الكثير من الإثارة وانعكس ذلك على أعماله في فن التصوير وبخاصة الاحتفالات الدينية ومهرجانات القرى والفلاحين جسدها في لوحات كبيرة عديدة يحتفظ أغلبها (متحف فيينا للفنون).
ويجمع الباحثون والنقاد حول وضعية الفنان الراقية وموضوعاته الإنسانية: الخطايا والفضائل, وعلينا أن ننوه عن لوحات الأمثال الفلمنكية أيضاً (متحف انفرس) Anvers الاثني عشر ولكن تبقى لوحة (ألعاب الأطفال 1560 - متحف فيينا) الأكثر حيوية والموضوع الأكثر تمثيلاً لعبقريته: لاحظ العناصر الإنسانية في تموضعها وترابطها وحركاتها وتوزيعاتها وأعدادها التي لا تحصى على سطح واحد دون أفق, وتدور المشاهد الجزئية: رفض شعبي, قفز, لعب, فوضويّ ومنظم, كثافة حركية متداخلة نُفذت بدقة وحيوية معجزة.
هذا ولم يبتعد عن رسم الموضوعات الدينية المألوفة, وكان ينفذها على التوالي, وبأحجام كبيرة, مشحونة بتعابير المآسي المختلفة ومرتبطة بعصريتها من خلال الأزياء وكانت تبدو في رؤية مدهشة (حمل الصليب 1563) عبادة الملوك - الوقوف في بيت لحم - مذبحة المجهولين - رؤى القديس بولص... الخ
في عام 1565, كان ينفذ سلسلة لوحات (أشهر السنة) التي لم يبق منها اليوم سوى خمس لوحات: الصيادون في الثلج - اليوم القاتم - عودة القطيع (متحف فيينا) حصاد العشب, في هذه اللوحات يركز على نصبية الإيقاع في ترابط العناصر الطبيعية في المشهد كي يخدم عمق المنظور الفسيح فالمشهد الذي يطرح الطبيعية غالباً ما يكون مختلفاً (منظر سهول, الفلامنك). لما تتواجد فيه عناصر متراكبة (هيئات إنسانية أو كتل صخرية) التي تخدم الرؤية في مقدمة اللوحة التي ترتبط بالعناصر الأخرى.
وهذا يتهيأ في (عودة الرعاة, الحصاد, الصيد, جمع العشب...الخ).
وما هي إلا أسس ينطلق منها إلى الإيقاع الشامل في عناصر الطبيعة أو الإنسان: الاتساع, وبساطة الأشكال, التوازن في الكتل والحجوم والألوان الجريئة النقية, تسبح عبر الدرجات اللونية المسطحة ومندمجة بتفاعل ليخدم الفكرة الأساسية, وتعطي العمل التصويري بعداً فضائياً منسجماً.
قبل عام من وفاته رسم بروجل لوحة (المتسولون الجائعون) حيث الفاجعة والدراما القاسية أكثر من (طابور العميان) هذه اللوحة تمثل مقطعاً من الإنجيل وبالتأكيد هي العمل الأكثر تحديداً لرؤية الفنان, الهدوء في الخلفية يتقابل مع العناصر الإنسانية المتحركة.
هذا ويعتبر بروجل عند بعض النقاد ناقل المسرة في عالم الخيال حيث يستخدم المخلوقات الأكثر غرابةً, كما اعتبر من قبل معاصرية (الكوميدي الكبير) في المدرسة الفلمنكية. ومع ذلك فهو من هؤلاء الذين يقدمون المسرة مثل قناع يغطي الكآبة والحزن وتفاعلات الزمن حيث الحياة الإنسانية تعتبر في قليل العبارة: كالثورة في الروح وفي القلب.
المصدر : العدد 61 تموز 2012