"إن روح الشعب، ومستوى ثقافته، وبنيته الاجتماعية، والأعمال التي قد تعد سياسة له، كل ذلك وأكثر منه مكتوب في تاريخه المالي.. إن من يعرف كيف يستمع إلى رسوله هنا فسوف يميز الصوت المدوي لتاريخ العالم بشكل أوضح من أي مكان آخر". (جوزيف شامبيتر)
من روح هذا الكلمات نجد إنه حين كان هناك عدد من المفكرين يبشرون بأن الثورات المستمرة أمر مستحيل، لم يكن في وسع علماء الاقتصاد تجاهل الجيوش الضخمة من الفقراء في العالم الذين أحدثوا العديد من الثورات تاريخياً والتي سبق لنا في بحثنا السابق الذي سلطنا الضوء فيه على دور الاقتصاد الأساسي في إشعال الثورات وتغيير مجرى العالم والتي كان من بينها الثورة الأمريكية والإسبانية وهنا نكمل السلسلة كي يكون البحث أكثر عمقاً وشمولية لنبحث في الثورة الفرنسية وبالطبع لن نتحدث عن مجريات حدوثها وإحداثياتها بل سيكون البحث هنا حول كواليس الثورة (الأحداث التي آلت لحدوث الثورة الفرنسية) والتي تمنح الظروف الاقتصادية دوراً مهماً في إحداثها.
فرنسا في منتصف 1700 والسوابق للثورة
كانت فرنسا تقع في إقليم واسع، وكان عدد سكانها يقدر بحوالي 19 مليون نسمة في عام 1700، ما يشكل أكثر من ثلاثة أضعاف عدد سكان بريطانيا، وربما أكثر من ستة أضعاف عدد سكان هولندا المتحدة، وستة أضعاف عدد سكان الفنلنديين والسويديين التي كانت محكومة من قبل ملك السويد.
في تلك الأوقات تمكنت فرنسا بأن تشكل قوة عظمى مستفيدة من كون ألمانيا وإيطاليا مقسمة، وتراجع إسبانيا كقوة عظمى.
أزمة الزراعة والغذاء والضرائب
يذكر أن فرنسا كانت تمتلك العديد من الأراضي الصالحة للزراعة، وكان المزارعون الفرنسيون يحصلون على معلومات لتطوير مجال الزراعة من قبل الهولنديين، لكن مع زيادة عدد السكان بدأت الأسر الزراعية في فرنسا بتقسيم الأراضي بين أبنائها ما أدى هذا إلى أن نشوب صراعات بين الأسر الزراعية على بضعة دونمات زراعية، إضافةً لافتقادها لما كانت تمتلكه إنكلترا بوفرة من شبكة أنهار وقنوات لحمل شحنات الحبوب، وكان أن ذكرت العديد من الأبحاث مواضيع عدة حول (متاهة من الامتيازات الإقطاعية البيزنطية) والتي جعلت نقل البضائع صعباً جداً، بحيث يمكن أن يشعر بالجوع عدد من الناس في منطقة واحدة في حين إن الحبوب متوفرة في منطقة أخرى.
لقد كانت القوانين المحيرة تعثر وتخفض من وجود مبادرين، كما أن الأوضاع التي حصل عليها العمال والفلاحون كانت تحبط مرحلة التطور الاقتصادي، فقد كانت سياسات الملكية ومالكي الأراضي غير مشجعة لتطوير التقنيات الزراعية، فحين ارتفع سعر الغذاء وبدلاً من ترك ثروة صغيرة بيد المزارعين، قامت الملكية بزيادة الضرائب على المزارعين وأعادت للإقطاعيين إحياء امتيازاتهم كمالكين للأراضي وأهدرت ما تملكه من ثروة، ما أدى إلى إفقار المزارعين المستأجرين.
في تلك الأثناء بقي محصول الأراضي الزراعية في فرنسا، أعلى بقليل فقط من إنتاج الأراضي الزراعية في اليونان القديمة أو ما كانت تنتجه فرنسا عام 1200، حيث كانت الأراضي الزراعية الفرنسية تنتج في الدونم ثمن ما تم إنتاجه في نهاية القرن العشرين، وكان في فرنسا المد الواحد من البذور ينتج 5 أو 6 أمداد من الحبوب.
ازدياد نشر الكتب والتجارة
بقي عامة الناس في فرنسا أميين بشكل كبير، خاصةً في المناطق الجنوبية من الريف، لكن القراءة أصبحت بين المتعلمين موضة كما تبعها عدد من الموضات مثل:(الحلاقة، وارتداء البيروكات من قبل الرجال والنساء).
لقد جذبت الأفكار الجديدة العديد من الناس ,وأثارت العديد من النقاشات المثيرة لكونها بدت غير موقرة وأصبحت من الأشياء التي يتم التحدث بها مع الأصدقاء وازداد نشر الكتب مع التجارة، وكانت الكتب تترأس وسائل الإعلام في تلك الأيام. ولقد كان من السهل تهريب المواد المطبوعة من هولندا إلى فرنسا، وكانت كتابات (بيري بايل) تُقرأ على نطاق واسع كما هو الحال في بريطانيا وبعد فترة وجيزة أصبحت كتابات مونتسيكو شعبية أيضاً.
الظروف الاقتصادية
بينما كانت مستعمرات بريطانيا تعمل باتجاه تحول إلى الولايات المتحدة الأمريكية كانت فرنسا تعاني من أزمة اقتصادية تسير باتجاه ثورتها الخاصة.
الثورة التي استخدم فيها نفس اللغة التي استخدمت من قبل الليبراليين البريطانيين والثوريين الأمريكيين، في الواقع إن التغيرات في بريطانيا دفعت بالعديد من الفرنسيين للاعتقاد بأن نظام مملكتهم الملكي القديم يجب إصلاحه.
تصدير السكر والقهوة الفرنسية
وبين عامي 1715 و1771 ازدادت التجارة الفرنسية بما يقارب 8 أضعاف وأصبحت فرنسا في المرتبة الثانية بعد بريطانيا العظمى من ناحية التجارة، حيث كانت تصدر السكر، والقهوة، واللون الأرجواني، الذي تم تطويره في مستعمرات الكاريبي، كذلك تطورت وسائل النقل، فمثلاً في عام 1788 فإن مسافة 600 كيلو متر بين باريس وتولوز كانت تستغرق ثمانية أيام بدلاً من 15 يوماً كانت تستغرقها عام 1760، لكن التقدم التجاري لم ينتج الرفاهية لعامة الناس، وكان النمو السكاني في فرنسا بين 24 و26 مليون، حيث ارتفع من 19 مليون نسمة في عام 1700، لكنه لم يترافق معه نمو في إنتاج الأغذية، حيث كان المزارعون في مختلف أنحاء باريس يستهلكون أكثر من 80% مما يزرعون، ولذلك حتى لو انخفض المحصول بحوالي 10% والذي كان شائعاً فإن الناس كانت ستشعر بالجوع.
انتقال المعاناة من الزراعة إلى الصناعة
لقد كان هناك عدم كفاية في التخطيط الحكومي، وكان تخزين الحبوب لحالات الطوارئ لا يكفي، فقد كانت الزراعة تشكل ثلاثة أرباع حجم الاقتصاد الفرنسي لكنها كانت متخلفة مقارنة بالزراعة في بريطانيا وهولندا المتحدة، وبقيت مثقلة بالترتيبات الإقطاعية، حيث عانى الناس أيضاً نتيجة انخفاض صناعة الغزل والنسيج الفرنسية عام 1780، وكانوا يستوردون الغزل والنسيج من بريطانيا، لكونها أرخص وأفضل من حيث النوعية، من الغزل والنسيج الفرنسي ما تسبب بإحداث بطالة بين عمال المغازل والنسيج الفرنسيين.
البطالة ودورها في توسيع فجوة الفقر
بلغ عدد سكان باريس حوالي 650 ألف نسمة والعديد منهم كانوا دون عمل نظامي جنباً إلى جنب مع عمال النسيج والغزل العاطلين عن العمل، وكانوا يبيعون سلعاً مستعملة أو يقومون بأعمال بسيطة مثل (حمل المياه) كل هؤلاء عانوا من ازدياد مشقة الزمن.
لقد كان لدى باريس العديد ممن بقوا على قيد الحياة نتيجة قيامهم بسرقات صغيرة أو عملهم في البغاء أو الاثنين معاً، وكان يجري دفن الناس يومياً دون مراسم في مقابر مجهولة، وكان العديد ممن بقوا على قيد الحياة في باريس ومدن فرنسية أخرى يعانون من الجوع.
حرب السنوات السبع
لقد كانت الحكومة الفرنسية تعيش في أزمة مالية لعدة سنوات، وكان وزراء البلاط الملكي يعتقدون أنهم بحاجة إلى المزيد من العائدات، إذا كانت فرنسا تريد الحفاظ على وضعها في الشؤون العالمية ومراعاة شؤونها المحلية، وكان ملوك فرنسا عادة يدفعون تكاليف الحكم من الثروة المنتجة من أراضيهم الخاصة، وبمساعدة في حالات الطوارئ من مجالس الناس الذين كانوا يمنحون الخزينة الملكية عائدات الضرائب، حيث أصبحت حالة الطوارئ أبدية في ذلك الوقت.
خلال حرب السنوات السبع وخلال مساعدة فرنسا للثورة الأمريكية، كان النظام الملكي يغرق في الديون، حيث كانت الحكومة تفرض الضرائب على عامة الناس بانتظام وتدفع نصف العائدات لتغطي ديونها المستحقة لأرستقراطيين ومقرضين آخرين، ونظر لويس السادس عشر في إمكانية الضرائب من أجل طبقتين مميزتين في فرنسا هما (النبلاء والكنيسة الكاثوليكية)، ومع تفكيره بهذه الخطوة ومن أجل إجراء إصلاحات أخرى مثل :(إزالة التعرفة الجمركية على الحواجز الداخلية).
مجالس الأعيان والهيئات الاستشارية
وفي عام 1787 في شهر شباط عقدت حكومة الملك هيئة استشارية من النبلاء ورجال الدين دعيت باسم مجالس الأعيان، وبقي النبلاء ورجال الدين معارضين لدفع الضرائب وفي شهر أيار حُلّت جمعية الأعيان، ووضعت خطط لعقد هيئة استشارية أوسع تضم كافة الطبقات وهي: الطبقة العامة والتي تتألف من أعضاء في الكنيسة (الطبقة الأولى) وطبقة النبلاء (الطبقة الثانية) وكل المتبقين من الشعب (الطبقة الثالثة) وتم التخطيط لأول لقاء من الطبقات العامة منذ العام 1614 .
أسوأ حصاد خلال 40 عاماً
في تموز عام 1788 دمرت عاصفة برد محصول الأراضي الفرنسية، وكان أسوأ حصاد لفرنسا خلال أربعين عاماً، وكان شتاء 1788-1789 شديداً، وبسبب عدم حصولهم على ما يخفف جوعهم بدأ الناس يقومون بأفعال شغب، فانخفض الاقتصاد بشكل أكبر.
أفعال الشغب والتمهيد لاندلاع الثورة
وفي باريس انضم عمال البناء إلى صفوف العاطلين عن العمل، وبدأ الناس يُطردون من منازلهم المستأجرة وأصبح الخبز أكثر ندرة وارتفع سعره. وكانت الوجبة الأساسية للناس هي الخبز واستهلك الكثير من أجور العاملين الذين استمروا بالعمل للحصول عليه، وكانت الكنيسة توزع الخبز والحليب كذلك قام وزير الاقتصاد الملكي جاكو نيكرز بفعل ما يستطيع، حيث منع تصدير الحبوب وأطلق برنامجاً لاستيراد الغذاء وهذا حقق نجاحاً بسيطاً، لكن أوروبا كانت تعاني من نقص المعروض من الغذاء بشكل عام وكان تجمُّد الأنهار والقنوات يعيق النقل، وبالتالي فإن جملة هذه الظروف والعوامل تسببت في اندلاع الثورة الفرنسية.
المراجع:
http://www.fsmitha.com
France in the mid-1700 s: antecedents to revolution
المصدر : العدد 61 تموز 2012