كثيرٌ منا سمع عن البوصلة وعن أنها أداة لتحديد الاتجاهات، بيد أن غالبيتنا لا يعرف كيف تُستخدم نظراً لعدم الحاجة إليها في الحياة اليومية المعتادة، وبعضٌ منا فقط هم الذين يعرفون كيفية استخدامها لاحتياجهم لها في أعمالهم أو هواياتهم، كالطيارين وقباطنة السفن والكشافة وبعض العسكريين. وعلى الرغم من أن استخدام البوصلة التقليدية قد اضمحل في الوقت الراهن، في ظل استبدالها بالبرامج الملاحية الحديثة وبأجهزة تحديد الموقع الإلكترونية والمتصلة بالأقمار الاصطناعية "GPS"، إلا أن معظم الملاحين لا يزالون يستخدمون البوصلة المغناطيسية كأداة تحقق إضافية واحتياطية للاستخدام في الطوارئ في حالة وجود أعطال فنية في أجهزتهم الأخرى.
فلو افترضنا أننا في مركب وسط المحيط ولا نعرف اتجاهنا، يحيط بنا مشهد واحد من كل الاتجاهات هو المياه، والسماء ملبَّدة بالغيوم فلا نستطيع رؤية الشمس، ولا نملك أجهزة اتصال أو أية أجهزة إلكترونية لتحديد الاتجاهات، فما العمل حينها لتحديد اتجاهنا؟ الجواب بالتأكيد هو اللجوء إلى البوصلة التي ستحدد لنا جهة الشمال، ومن ثم سنعرف موقعنا واتجاهنا بناءً على ذلك.
إذن، قبل اختراع وسائل الملاحة المتطورة التي لم تخرج من فلك البوصلة التقليدية، وقبل ظهور الأقمار الاصطناعية التي تحدد مواقع واتجاهات السفر إلى أي مكان على وجه الأرض، كانت البوصلة هي الطريقة الأسهل والأرخص لتحديد الموقع والوجهة.
تمَّ اختراع البوصلة في الصين في الفترة ما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثاني بعد الميلاد، وكانت تستخدم في البداية في التنجيم والتنبؤ بالحظ الجيد فقط. وتشير بعض الدراسات التاريخية إلى أن الإبر المغناطيسية الطافية على سطح وعاء من المياه قد استخدمت في الصين في أغراض الملاحة في الفترة ما بين 850 إلى 1050 ميلادية، إلاّ أن أقدم الاستخدامات المسجلة للبوصلة في الملاحة هي في أحد الكتب الصينية بتاريخ عام 1116 ميلادية. وبعد ذلك انتقلت البوصلة إلى أوروبا وإفريقيا الشمالية في القرن الثالث عشر، حيث استُخدمت عن طريق العرب والإيطاليين وغيرهم عند عبور البحر المتوسط، كما استخدمها العرب المسلمون كمؤشر لتحديد اتجاه القبلة الشريفة إلى مكة المكرّمة. كما استخدم "كريستوفر كولومبس" البوصلة في رحلاته البحرية عبر الأطلنطي في تسعينات القرن الخامس عشر.
وقد أُجري العديد من التحسينات على تصميم البوصلة لاستخدامها في الإبحار، بما في ذلك موازنة الإبرة المغناطيسية على مسمار حاد (كما هو الحال في بوصلة الجيب الحديثة) وأدوات الإبقاء في وضع أفقي لفصل البوصلة عن الحركات المتمايلة للسفينة. تمَّ العثور على بوصلة كتلك التي نتحدث عنها في حطام البارجة "ماري روز" الخاصة بالملك هنري الثامن والتي غرقت في عام 1546. وفي عام 1838، تمَّ اكتشاف طريقة لتحييد مغناطيسية المعادن في السفن الحديدية. كما كان من ضمن التحسينات الأخرى تخطيط التذبذب المغناطيسي حول العالم (الاختلافات ما بين الشمال الحقيقي والشمال المغناطيسي المتغيرة من وقت لآخر ومن مكان إلى آخر).
لنتعرف معاً إلى ذلك الاختراع القديم الذي ساهم في العديد من الاكتشافات، وطوَّر الحياة البشرية بشكل كبير:
ما هي البوصلة؟
البوصلة هي أداة ملاحية تساعد على معرفة وضبط الاتجاهات نسبةً إلى أقطاب الأرض المغناطيسية، عبارة عن سطح ارتكاز دائري يتوضع عليه مغناطيس حر الحركة، صغير وخفيف الوزن، موضوعٌ بشكل متوازن على نقطة محورية ملساء على السطح متأرجحٌ من جهة إلى أخرى ويستطيع الدوران بدون احتكاك، ويسمى هذا المغناطيس بالإبرة المغناطيسية، وهذه الإبرة تؤثر من الشمال إلى الجنوب، أي اتجاه الإبرة دوماً هو نحو الشمال المغناطيسي، لذلك يُكتب على أحد أطرافها عادةً حرف N الذي يرمز إلى كلمة "North" (الشمال)، أو يُلَّون هذا الطرف بلون يشير إلى أنه اتجاه الشمال.
ويمكننا من خلالها تحديد درجة اتجاهنا الذي نسير عليه من خلال القراءات المكتوبة على قرص البوصلة، وهي منسوبة إلى الشمال المغناطيسي، ولهذا تسمى "اتجاهات مغناطيسية". فعلى سبيل المثال، إذا كنا متجهين شرقاً، فإن قراءة البوصلة ستشير إلى الدرجة 90، وهذا يعني أن الزاوية بين الشمال المغناطيسي واتجاه سيرنا تساوي 90 درجة، وهكذا...
وتوجد نماذج لا تحصى من أشكال البوصلات، وذلك بحسب الشركات المُصنِّعة لها، إلا أن جميعها تتشابه في مضمون عملها، وهو تحديد الموقع من خلال معرفة جهة الشمال.
أما البوصلة السائلة التي اخترعت في أواخر القرن التاسع عشر، فهي عبارة عن بوصلة مملوءة بالسائل (نفط أو كحول) مما يجعل إبرتيها مستقرتين أكثر عند الشمال المغناطيسي، وفيها إبرتان رقيقتان قصيرتان طافيتان على مركز ثقل، ويتم معرفة الاتجاه بقياس العلاقة الصحيحة بين قطبي الإبرتين، وبالتالي فهي أدق من البوصلات الأخرى (الجافة).
أما أجزاء البوصلة، فهي:
- الغلاف الخارجي: وهو عبارة عن غلاف يحيط بالبوصلة ويحميها من التلف، مصنوع من المعدن، مثل الألمنيوم أو أي معدن لا يؤثر في انحراف مؤشر البوصلة، وبعض الأغلفة تُصنع من الخشب.
- غطاء البوصلة: وهو مصنوع من معادن لا تؤثر في انحراف البوصلة، ويغطي ميناء البوصلة، وفي بعض البوصلات يوجد على الغطاء شعيرة لتحديد الهدف المراد رصده.
- حامل البوصلة: وهو قضيب مستدير مصنوع أيضاً من معادن لا تؤثر في انحراف البوصلة، وظيفته حمل البوصلة وتوجيهها. ويكون عادة دائريّ الشكل، أو على شكل حدوة فرس.
- مكبِّر القراءة: وهو عبارة عن عدسة مكبرة تتوسط عموداً متحركاً قابلاً للطي، وظيفتها توضيح رؤية درجات البوصلة. ويوجد في نهاية رأس العمود شقّ صغير لتوسيط الشعيرة عند التوجيه لتحديد الهدف.
- مقياس المسافة: وهو عبارة عن مسطرة مصنوعة من المادة نفسها التي يصنع منها الغلاف الخارجي، ووظيفتها قياس درجات البوصلة. وبعض أنواع البوصلات فيها عدة مقاييس للمسافات.
- قرص التوجيه: وهو قرص زجاجي مُحاط بحلقة معدنية، وعليه خطان ملونان لتسهيل حساب الدرجات. ومهمته تثبيت قراءة اتجاه الهدف، ومعرفة عدد درجات انحراف الهدف.
- الغلاف الداخلي: وهو غلاف بلاستيكي شفاف يحفظ الإبرة وميناء البوصلة من التلف، كما يحافظ على المادة السائلة من فقدانها (في البوصلة السائلة)، وبالتالي يساعد المؤشر على حرية الحركة. ويوجد على طرفه صمام دقيق لحقن المادة السائلة إذا حصل تسرب لها. كما توجد فقاعة داخل المادة السائلة لتدل على توازن البوصلة عندما تكون الفقاعة في الوسط.
- ميناء البوصلة: وهو عبارة عن قرص دائري مدرَّج، مُرقَّم من 0 إلى 359 درجة، تدور عليه الإبرة 360 درجة (أي دائرة كاملة).
- مؤشر الاتجاهات: ويرمز له أول حرف من الاتجاهات الأربعة (باللغة الإنكليزية)، ويرمز للشمال عادةً بلون فوسفوري أو أحمر بالإضافة إلى حرف N، وذلك لتمييزه عن غيره. كما أن كل الحروف مطلية بمادة فوسفورية عاكسة للضوء في الليل، وذلك لتسهيل قراءتها في الليل.
- حامل المؤشر: وهو عبارة عن قضيب معدني قصير جداً ومدبب يحمل الميناء بكل توازن، ويتمركز في وسطها، أي أنه يحفظ الميناء متوازنةً عليه.
وقد يؤثر على دقة البوصلة وضعها على سطح مائل وعدم توازنها أو قربها من المعادن (كالحديد)، وقربها من الموجات الكهرومغناطيسية والتيارات الكهربائية وأبراج التوتر العالي والبطاريات وأجهزة المذياع والهاتف النقَّال... أو حتى وجودها ضمن مجموعة أخرى من الأجهزة الملاحية، ولا ننسى تأثير هيكل الطائرة أو السفينة المعدني على دقة البوصلة. وهناك طرق فلكية لتصحيح دقة البوصلة (تصحيح خطأ انحراف البوصلة).
ومن أسماء البوصلة التقليدية "البوصلة المغناطيسية" و"البوصلة الميدانية"، وقد سُميت بالبوصلة المغناطيسية لتمييزها عن البوصلة الجيروسكوبية (البوصلة الدوَّارة)، كما سنرى لاحقاً. أما بوصلة تحديد اتجاه القبلة المستخدمة لسنوات خلت، فهي بوصلة مغناطيسية عادية، فيها إشارات لتحديد اتجاه مكة المكرَّمة، وفيها مؤشر أرقام يختار منه المصلِّي الرقم المطابق لرقم المدينة الموجود فيها، حيث يُرفق بهذه البوصلة عادةً دليل يحوي رقم كل مدينة. وهناك بوصلات إلكترونية حديثة لتحديد اتجاه القبلة.
كما أن البوصلة الإلكترونية الموجودة في أجهزة الملاحة وفي بعض أجهزة الهاتف النقَّال اشتقت طريقة عملها من البوصلة التقليدية.
هذا التعريف يُبرز بساطة صنع البوصلة، إلا أن طريقة عملها أكثر إثارة من طريقة صنعها.
كيف تعمل البوصلة؟
إن الأرض نفسها تعمل كمغناطيس عملاق، إذ إن فيها نهايتين في أعلاها وأدناها تدور حول محورهما، نسميهما القطب الشمالي والقطب الجنوبي. لنتصور هذا المحور على شكل قضيب مغناطيسي عملاق، ولنفترض أن الطرف الجنوبي لذلك القضيب موجود في القطب الشمالي؛ فإذا تصورنا الكرة الأرضية بهذا الشكل، وتذكرنا القاعدة الفيزيائية المغناطيسية التي تقول "إن القطبين المختلفين يتجاذبان"، لأدركنا لماذا يتجه الطرف الشمالي لإبرة البوصلة نحو الطرف الجنوبي للقضيب المغناطيسي المفترض داخل الأرض. مع الإشارة إلى أن ذلك القضيب لا يمر تماماً في موازاة المحور الدوراني للأرض، وإنما يميل قليلاً عن المركز، ويسمى هذا الانحراف بـ "الانحراف المغناطيسي" أو "الميل الزاوي"، ويختلف مقدار هذا الميل من موقع إلى آخر على الأرض.
إن المجال المغناطيسي للأرض ضعيف نسبياً على السطح، فقطر الأرض يصل إلى 12875 كيلومتراً، ولذلك يسلك المجال المغناطيسي طريقاً طويلةً ليؤثر في البوصلة، ولهذا ينبغي أن يكون مغناطيس البوصلة خفيفاً ومرتكزاً على سطحٍ خالٍ من الاحتكاك وإلا لن تتمكن طاقة المجال المغناطيسي التي تصل إلى البوصلة من تدوير الإبرة.
ما هو سبب وجود مجال مغناطيسي في الأرض؟
لم تتبلور بعد نظريات سبب وجود مجال مغناطيسي للأرض، ولكن النظرية الأقوى تقول إن مركز الأرض يتألف بشكل أساسي من حديد مصهور، ويكون الضغط في هذا الجزء المركزي هائلاً، بحيث يتبلور الحديد الساخن جداً ويتحول إلى الحالة الصلبة. ويتسبب دوران الأرض حول نفسها والنقل الحراري الناتج عن الإشعاع الحراري من المركز، يتسببان في تحريك الحديد السائل بشكل دوراني، ويُعتقد أن هذه القوى الدورانية في طبقة الحديد السائل تؤدي إلى توليد قوى مغناطيسية ضعيفة حول محور الدوران، وتعتبر البوصلة مجرد كاشف لهذا المجال المغناطيسي الضعيف أو أي مجال مغناطيسي ناتج عن شيء آخر، مثل المجال المغناطيسي الضعيف الناتج عن سلك يحمل تياراً.
كيف يمكننا صنع بوصلة مغناطيسية؟
يمكننا القيام بتجربة صنع بوصلة بسيطة وبطريقة سريعة، وتجريبها أينما كنا لطالما أن المجال المغناطيسي للأرض موجود في أي مكان على سطح الأرض. ويلزمنا المواد التالية:
- إبرة أو أية قطعة معدنية أخرى تشبه السلك ومصنَّعة من الصلب (مثل مشبك أوراق مسوَّى على شكل مستقيم).
- قطعة فلين أو أية قطعة صغيرة مصنوعة من أية مادة خفيفة (مثل الستريوبور أو البلاستيك)، لها قابلية الطفو على سطح الماء.
- طبق مقعَّر يتراوح قطره بين 23 و30 سنتيمتراً، وموضوع فيه ماء بعمق 2.5 سنتيمتر.
نقوم بمغنطة الإبرة، وذلك بتمرير مغناطيس عليها بشكل متكرر (حوالي عشر مرات)، فتصبح الإبرة مغناطيساً. ثم نقوم بوضع قطعة الفلين في منتصف الطبق طافيةً على سطح الماء، حيث يوفر ذلك سطح ارتكاز من دون أي احتكاك يذكر. ثم نضع الإبرة الممغنطة على قطعة الفلين فتتوجه ببطءٍ نحو الشمال.
وما هي البوصلة الجيروسكوبية؟
عندما تستخدم البوصلة المغناطيسية على منصات متحركة، مثل السفن والطائرات، فإنها تفتقد شيئاً من الدقة بسبب الحركة الدائمة للسطح الموجودة عليه، إذ ينبغي أن تكون دوماً في وضع أفقي وثابت، بالإضافة إلى كونها تعدِّل اتجاهها بشكل بطيء لا يتناسب مع سرعة حركة أو دوران المنصة الموجودة عليها. ولهذا فإن معظم السفن والطائرات تستخدم البوصلات الجيروسكوبية (أو الدوَّارة أو البحرية) بدلاً من المغناطيسية (عند عدم استخدام أجهزة القياس الإلكترونية)، لتحديد اتجاهاتها ولحفظ التوازن فيها، فهي ثابتة على قاعدة خاصة بها، وذلك على العكس من البوصلة التقليدية التي تكون حرة الحركة.
تمَّ اختراع البوصلة الجيروسكوبية في عام 1908م، وهي غالباً ما تشير إلى الشمال الحقيقي، لذا سرعان ما أصبحت من أهم الأدوات المساعدة في الملاحة.
ترتكز البوصلة الجيروسكوبية (الجيروسكوب الدوَّار) على إطار وظيفته حفظ التوازن الأفقي للبوصلة، ويحافظ الجيروسكوب على الاتجاه الذي يشير إليه حتى لو تحرك الإطار أو دار. ففي بداية الرحلة يوجَّه محور البوصلة الدوَّارة نحو الشمال، وذلك باستخدام بوصلة مغناطيسية كمرجع. وهناك محرك صغير داخل البوصلة الدوَّارة وظيفته المحافظة على الحركة الدورانية للجيروسكوب، بحيث تبقى البوصلة الجيروسكوبية مشيرةً إلى جهة الشمال وتُعدِّل نفسها بشكل انسيابي وسريع ودقيق حتى لو كان البحر هائجاً أو كانت الطائرة تتعرض لمطبات هوائية عنيفة.
ويتمُّ فحص البوصلة الدوَّارة بشكل دوري في فترات منتظمة، وذلك بمقارنتها مع بوصلة مغناطيسية، لتصحيح وتصليح أي خلل قد يطرأ عليها.
وما الجديد في مجال البوصلة؟
توصَّل فريق من علماء الطبيعة إلى تصميم بوصلة جديدة تعتمد في عملها على الضوء، حيث يمكنها استخدام الحزم الضوئية لتحديد المجال المغناطيسي والاتجاهات، وهي شديدة الحساسية في تحديد الاتجاهات، وأُطلق عليها اسم "البوصلة البصرية".
وتعتمد هذه البوصلة في عملها على شعاع ضوئي يتم إطلاقه خلال عنصر "الروبيديوم" الفلزي، ويمكن لهذا الشعاع الضوئي أن يحدد بشكل مباشر وموثوق حجم وطبيعة المجال المغناطيسي، ومن ثم تحديد الاتجاهات. وسيفيد ذلك في مواقع استكشاف النفط، والملاحة والبحث عن مراكز النشاط الزلزالي الذي يتطلب بوصلات بالغة الحساسية.
وقد استخدمت بوصلات شديدة الحساسية من قبل مهندسين كانوا يحفرون آبار إغاثة في خليج المكسيك مؤخراً.
صحفي وباحث في شؤون الطيران
husam-sh@scs-net.org
المصدر : العدد 61 تموز 2012