بعد اكتشاف أمريكا من قبل «كريستوف كولومبس»، حاول العديد من المستكشفين الأوروبيين الوصول إلى مدنها، حيث كان منهم الرحالة الإسباني برونو هيسيتا عام 1792م، والقبطان الإنكليزي روبيت كاري؛ اللذان اكتشفا نهر كولومبيا، وفان كوفر المنطقة الساحلية، في 1889م جاءت اتفاقية «أرجين» حيث اعتمد واشنطن رقم 42 وانضمت للاتحاد الأمريكي. إن واشنطن التي أسسها جورج واشنطن - ذلك المستغرب الإنكليزي- استقر بها ودعم وجود المستكشفين لذلك الغرب، فأقر بقوته المالية أن تكون عاصمة للولايات المتحدة الأمريكية، في عام 1800م حدد جورج واشنطن الموقع على نهر كولومبيا بعد أن اختارها بدلاً من فيلاديلفيا، حيث كانت العاصمة السابقة المقترحة، وإن من صمم واشنطن هو المهندس الفرنسي شارل لانفلانت، والذي أقام أيضاً المسلة التذكارية، وكان المهندس الأيرلندي جيمس هوبان هو الذي صمم البيت الأبيض، حيث فاز بمسابقة إنشائه عام 1792م، واستمر بناؤه حتى عام 1800م. بالتأكيد: فإن حرب الاستقلال التي انتهت في 1783م؛ والتي أسست نواة الولايات المتحدة الأمريكية، حملت 13 ولاية هيأت ظهور الدولة العظمى على حساب السكان الأصليين أصحاب الحضارة القديمة جداً، وهم الهنود الحمر، و هو الاسم الذي أطلقه عليهم كريستوف كولومبس لاعتقاده الأولي أنه وصل إلى الهند، وبعد أن عرف أنه في أمريكا بقي الاسم عليهم بين المستوطنين الأمريكيين الجدد. وفي حقيقة الأمر أنهم الهنود الأمريكان أصحاب الحضارة الحقيقية، لقد كانوا قبائل مشكّلة من شعب بيبلو وكومانش وبيمان ويمان، سكنوا أمريكا وشمال المكسيك وكندا أيضاً، عرفوا صناعة النحاس والسلاسل، أجادوا الصيد بالرماح في البر والبحر، طردهم المستوطنون الجدد، وللأسف لم يصلنا من تاريخهم القديم إلا القليل القليل، فهم لا يمثلون اليوم في أمريكا إلا 1.5% من السكان يمثلون بقايا مئات القبائل، والذين أنجزوا حضارة المايا؛ والتي أنجزت حضارة متطورة في كونتمال والمكسيك وهندوراس والسلفادور، وهي مرافقة ولها توءمة مع حضارة الأنكا، وحضارة الأنكا قبل آلاف السنين من الميلاد، الانكا إمبراطورية قديمة بنتها شعوب الهنود الحمر في أمريكا الجنوبية، وهي موغلة في القدم، أرضها بوليفيا، والبيرو، والإكوادور، وتشيلي، والأرجنتين، وامتدادها كانت أمريكا الشمالية حتى حدود كندا، واستمر حتى الغزو الإسباني عام 1532م، والغزو الأوروبي الذي تسبب في دمار هاتين الحضارتين، كما أن الحدثين اللذين جريا في 1492م وهما سقوط غرناطة الأندلسية العربية الإسلامية بيد الأوروبيين الإسبان، واكتشاف كولومبس لأمريكا ووصوله إلى جزر البهاما، وتحول الكشف والسقوط إلى أحداث عظيمة، وبكون كولومبس أوجد أول صلة بين أوروبا وأمريكا، فيعتبر فاتحاً لها، حيث تبعه الأوروبيون على اختلاف أشكالهم تجاراً وباحثين وعلماء ورجال دين، لقد اعتبر سكان أمريكا قبل 1773م مواطنين بريطانيين أرغموا على دفع الضرائب لبريطانيا العظمى، وفي هذا التاريخ الذي ذكرنا تمرَّد سكان بوسطن على دفع الضرائب مقابل استيراد الشاي، فسميت ثورة الشاي من أجل الاستقلال، وأشعلت بها فتيل حرب استقلال الولايات المتحدة الأمريكية، في 1776م أعلن المجلس القاري الأمريكي الاستقلال عن بريطانيا، واستمرت الحرب حتى معركة يوركتاون بفرجينا 1781م، ثم وقَّع الطرفان معاهدة فيرساي الأولى في 1783م، وعند نهاية الثورة الأمريكية في 1787م وقع المندوبون من جميع الولايات المتحدة الأمريكية على اتفاقية دستور أمريكا، وصُدقت عام 1788م، اتجهت بعدها إلى الاهتمام بالاقتصاد الزراعي، وتنظيم المجتمع الريفي، فظهرت خلالها حضارة الكاوبوي، لتتحول بعدها إلى أعظم وأغنى دولة صناعية، وأضخم قوة حضارية حديثة، تمتلك زمام العالم أجمع في كل المجالات، وتحتكر أولوية الأشياء المادية كما تدير سياسة الفكر الروحي.
أتجه من واشنطن غرباً أي: من خلف الكرة الأرضية لنشرف على طوكيو، ماذا سنجد، نراها قرية صيد صغيرة تدعى (أيدو) ومعناها في اليابانية ميناء الخليج، اكتشفت عام 1457م بنى قلعتها أوتا دوكان، وفي 1590م تحولت إلى عاصمة لليابان، وحملت اسم طوكيو في القرن السابع عشر ميلادي، وتعني باليابانية العاصمة الشرقية، وبالعودة إلى أيدو المتحولة إلى أكبر مدن العالم في وقت الإمبراطور كيوتو، والذي أطيح به في شوغين في عام 1869م تحت شعار استعادة الحكم، وانتقال الإمبراطور نيجي إليها، لتغدو أعظم مدينة سياسية وثقافية تقع في أقصى الشرق الأقصى في عام 1870م، أجل أصبحت من كبرى المدن العالمية، وفدت إليها الشركات الكبرى وأُحدثت فيها الجامعات، ليتحول مظهرها مع الإنارة العمومية التي تعمل بالغاز في شوارعها، من خلال تشييد المحطات المركزية، وبناء شبكة القطارات وإشادة المباني الحكومية -كما ذكرنا- ضمن مدن الحداثة التي نلاحظ أن أكبرها عمراً لم يصل إلى ثلاثمئة عام، تتشابه في نشأتها فجميعها نشأ على شكل تجمعات صغيرة لا تمتلك أي حضارة، وجميعهم سكانها وفدوا إلى هذه المدن من الشرق الأصلي الذي فيه الشرق الأوسط، ومدن الروح التي ذكرناها وسجلناها، حيث وصلت إلى: موسكو، وبرلين، وباريس، ولندن، وواشنطن، والآن طوكيو ذات الأصول الصينية، فغزا الشرق شرقه منجزاً فيه عاصمة حديثة حملت أسرع نظم الحداثة، وتعرضت في القرن التاسع عشر إلى أكبر زلزال تاريخي في عام 1923م، حيث قُتل وفقد مئات الألوف، ومن ثم تدميرها أثناء الحرب العالمية الثانية، وأعيد بناؤها لتكون فاعلة ضمن القبضة الحديدية على مدن الإبداع الروحي مع مثيلاتها المادية .
نتابع إلى المدينة (الدسر) أو المفتاح القادم في قفل المدن السبع، وهي بكين والتي عرفت في عهد سلالة تشو باسم (جي)، وفي زمن الممالك الصينية المتحاربة أصبحت أقوى عاصمة لمملكة (يان)، أهملت واختفت لعشرات القرون، لتعود مع سلالة (لياو) فعُرفت باسم (يانجينغ)، كان هذا في مطلع القرن العاشر الميلادي، وفي أواسط القرن الثاني عشر تحولت إلى مدينة (جينغتشنغ)، أي أنها عاصمة لمملكة أسرة جين، وفي أواسط القرن الثالث عشر، ومع ظهور مملكة (يوان) التي وحّدت الصين، وأنشأت العاصمة الجديدة وسمتها (دادو)، لقد ظهر في بكين معبد (تايمياو) لعبادة الأسلاف الإمبراطورية، كما بني فيها منصة (شهجي) لعبادة إله الأرض والحبوب، يذكر التاريخ الصيني أنه عند وصول المسلمين إلى بكين أعيد بناؤها على شكل عاصمة الرشيد بغداد، مع إدخال الطابع الصيني، وكان ذلك على يد مهندس عربي حمل اسم (اختيار الدين) وأنه صاحب خطط مدينة بكين، كما أن السيد الأجّل «شمس الدين» تولى القضاء في مدينة دادو بكين، وعدة مناصب أخرى أثناء وجوده مع الإمبراطور المغولي قبلاي خان، وفي عام 1368م ومع دخول حكم أسرة (مينغ) تحولت العاصمة إلى نان جينغ جنوب الصين، ومن ثم عادت لتحتل مدينة دادو وتحويل اسمها إلى مدينة بيبنغ، وفي عام 1420م تحول اسمها نهائياً إلى بيجنغ وتعني (بكين). لماذا بكين نُدخلها إلى قائمة الدول السبع، وفي حقيقة أمرها هي الرقم الثامن في مدن المادة، بعد إدخال روما ضمن قائمة المدن السبع، وكنا قد تحدثنا أن مدن الروح احتاجت في بنائها الروحي لـ 2000 عام وأكثر قبل الميلاد، حسب رؤى الكتب المقدسة، والتي هي جزء من المرجعية التأريخية ضمن السياق التاريخي، إذاً عنى رقم سبعة علم التكوين للمدن الروحية، كما عنى ذات الرقم سبعة علم التكوين للمدن المادية، فإن دخول بكين وانضمامها إلى مدن المادة بعد اكتمال دورة التكوين بين الشرق والغرب، فإن الرقم ثمانية يعني دخول مدن المادة القرار النهائي في السيطرة والتحكم على العالم أجمع، وفي الاستناد إلى شرحه نجد أن القديس (امبروسيوس) رأى في الرقم ثمانية رمزاً للتجدد، ويرى القديس أغسطينوس أنه رمز للقيامة المجيدة، وبالاستناد إلى السيد المسيح يعتبر أنه انتصر في اليوم الثامن، أي أنه رمز لقيام الإنسان، وفي عظته على الجبل قدّم ثماني تطويبات (متى 5: 3- 11)،
في بابل اعتُقد برقم ثمانية أنه رمز الشر، واعتُبر رقم سبعة عدد الكمال، وبه تنتهي الدورة الحياتية، وما زاد فوقه هو زيف سببه قوة الشر، ويعتبر الهنود البراهمة الثمانية عدداً مقدساً، حيث آمنوا بالإلهة الأم وهي أم ذات ثماني أذرع، تربض فوق أسد وتقتل أطفالها باستمرار، وقام الإسلام على ثمانية أسهم: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، وحج البيت، والأمر بالمعرف، والنهي عن المنكر، والصوم، والجهاد في سبيل الله، كما أن الوصول إلى مرتبة النبيل في النيربانا يحتاج إلى ثمانية فروع للتخلص من الشهوات، واليوغا تقسم إلى ثمانية أقسام، وبوذا طالب أتباعه بسلوك ثماني قواعد في الحياة، الإيمان بالحق، القرار الحق الكلام الحق، السلوك الحق، العمل الحق، الجهد الحق، التأمل الحق، التركيز الحق، وتقول المثولوجيا الاسكندنافية إن الإله الخالق يملك حصاناً له ثماني قوائم، والاعتقاد في وسط إفريقيا أن الكون وجد من خلال ثمانية آلهة، وثماني عائلات إنسانية ولدت من ثمانية أجداد: أربعة ذكور، وأربع نساء، عند التوراتيين في سفر التكوين يختن كل ذكر ابن ثمانية أيام (17: 12)، عبدت مصر ثمانية عقارب مقدسة، وبحسب هيرودوتس بدأ حكم الآلهة في مصر بواسطة ثمانية آلهة على رأسهم (بان)، وبدأ نشيد فيثاغورث بالثمانية وهو رمز الحب والشهوة، والألعاب الوطنية الإغريقية كانت تقام كل ثماني سنوات، ويقسم الكهنوت الفارسي إلى ثماني درجات، كما مثّل رقم ثمانية العدد السحري منذ الأزمنة السحيقة، ويسميه الإغريق عدد العدالة بسبب قسمته المتساوية للأعداد الشفعية، وفي القرآن الكريم «يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية» (17الحاقة) والصخرة محاطة بمثمن، وبوابة الفضاء لها شكل مثمن، وشعار وكالة ناسا الفضائية مثمن، وشعار شفرات الحلاقة كولكيت هو ثمانية، لذلك هو رقم السيطرة والتحكم، اعتمده الغرب بعد اكتمال تكوينه، وحينما ننظر إلى إشارة (قف) (stop) نجدها تقع ضمن مثمن. والذي يعني لنا أن مع نهاية الألفية الثانية اكتمل التكوين المادي، وضم بكين، يعني دخول عصر السيطرة والتحكم، هذا يعني لنا حقيقة فهم علماء الغرب ومفكريه لعلوم الروح والسيطرة عليها، وحصرها بهم، ورمي أشكالها إلى مدن الروح لتتيه فيها، وفي ذات الوقت ينجز الغرب علومه المادية الكاملة، وسيطرته الهائلة قبل الوصول إلى الرقم تسعة؛ الذي يحمل معنى اكتمال الدورة الحياتية أي نهايتها، حيث الاستعداد للولادة الجديدة عبر طوفان نوح جديد، يعيد الكرّة في تأسيس البحث عن فهم الروح، الذي لا بد منه كتهذيب للسلوك وبناء الأخلاق، ومن ثم الظهور المادي، وهذه فكرة الحياة والتطور، فمن ورقة التين والتوت، والصيد بالحجر، والنوم على أغصان الشجر، إلى التكوين المادي المفرط في البذخ والإسراف والإسفاف فيه، وفقدان الأخلاقيات والسلوك، وتحول المجتمعات من علاقات إنسانية اجتماعية محكومة بنظم الروحانيات، إلى مجتمعات الأدوار والأقفال والتسلح والتمتع بالخوف، بدل الخشية والحب، وظهور أنظمة المكائد والشِّراك، والاجتهاد في أفكار التسلط والاستعباد والاستعمار، من خلال الإبداع المادي الذي سخَّر العلم من أجل السيطرة لا من أجل التواصل الإنساني.
بالتأكيد تأملت ملياً في مدن الروح فوجدتها تبحث من أعماق التاريخ وحتى اللحظة التي أخط فيها هذه الكلمات بقضايا الجوهر، حيث تعلقت به فتاهت فيه، ولم تصل إليه حتى اللحظة، بينما درس الغرب المظهر وحلّله وفهمه، فعرف غناه الذي أعطاه فهم الجوهر، ومن المظهر أحدث كل ذاك التطور الهائل المظهري الجميل، فحينما تأمل في شكل الطير راقبه في حركته الظاهرة كيف يطير ويهبط، وكيف يقلع مرفرفاً بجناحيه ورافعاً رأسه وذيله والعكس في هبوطه، أوجد الطائرة، وتأمل الحوت فصنع الغواصة، وتأمل البعوضة فأنجز الهيلوكبتر، بينما الشرق والجنوب بقي روحياً مقلداً لا أكثر ولا أقل، حضوره حضور الكومبارس يبحث عن روحه منحصراً في خلاصه، خائفاً من النار، طالباً الجنة كمعبود، يخاف من عبد بدلاً من البحث في مكونات المكون الأزلي، والاستفادة من حضورها في محيطه: أمامه وخلفه ويمنة ويسرة وفوقه وتحته، يبحث عن لقمة عيشه لاهثاً دون تأمل ودون تفكر، لذلك لم يعد الوحي يسعفه ولا يأتي إليه، لم أشأ من هذا الاستعراض الوصول إلى الإحباط، ولكن في حقيقة الأمر قصدت أن نصدم أنفسنا بالعودة لقراءة التاريخ بشكل دقيق، وفهم ما أشبع فكرنا تأريخياً بقصد وتخطيط مبرمجين، وللأسف فإن الكثيرين من المدّعين بين علماء الأمة وجهابذتها، سوّقوا للتخلف من خلال الإيمان المطلق بالتأريخ، دون فهم وعلم بحقيقة التاريخ، فمثلاً المسلم يُمنع من قراءة الإنجيل والتوراة، وكذلك المسيحي يمنع من قراءة القرآن، أما اليهودي فهو اللاعب الحقيقي الذي إن تنبه له المسلم والمسيحي عرف خبثه التاريخي والمغريات التي نسجها كي يشوه التاريخ، إنها لعبة الندرة والكثرة، فإذا تفهمناها - والعالم المسيحي والإسلامي يشكلان ثلثي البشرية- قد نحصد نتائج مهمة تقلب المعادلات الصعبة حول فلسفة التاريخ، كما يحدث تفاهم ولقاء بين المادة والروح اللتين لا تستغنيان عن بعضهما، فهما العقل والقلب، أي العلم والعواطف، والتجوال بينهما هو العلمانية الحقيقية لا فصل الدين عن السياسة، ولا فصل العلم عن الدين، ولا فصل العلم عن السياسة، لكل حاله وله الدعم من بعضه، إنها سلوكيات وأخلاق فلسفة التكوين الفكري، والخشية التي تنبع من الحب الحقيقي، لا فلسفة الخوف والسيطرة التي تشتت الفكر، كما يحدث في مدن الروح الممتدة روحياً إلى عالم الكثرة، العالم الثالث النامي المتخلف، وعالم العقل العلم والإبداع، ومدنه الملتفة من الشمال حول العالم بأسره مشكّلة كماشة أو قبضة حديدية عليه.
سؤال: من أوجد (التابو) أي المحرم والمقدس ومن صنعه، ومن أوجد السلطات الثلاث: السياسة (السلطة)- والدين- والجنس، وماذا يعني لنا انحصار كامل الفلسفات الدينية بجوهرها ومظهرها ضمن مدن الروح، التي امتلكت كامل أنواع العبادات والديانات بقصصها وأساطيرها، لماذا إبرام أبراهام إبراهيم وسلالته مصدر لكامل تاريخ الإنسانية الروحي، من دوَّن كل هذا وأسكنه عقل البشرية جمعاء، وما معنى أن يكون محمد مكة هو آخر النبوات، وأيضاً ما معنى أن تتحول كامل تلك الأساطير والقصص والرؤى إلى معجزات، سكنت العقل الإنساني كحقائق ممنوع الاقتراب منها، ما معنى المدن السبع التي شكلت مدن منابع الروح، وما معنى الأسماء التي وردت بها من آلهة تخيلية وتصورية ووثنية وأسلاف، وطوطم وأشتاف وسحر وقبائل، من أوجد المذاهب والطوائف في الديانات الثلاث، ما معنى أن يساعد هارون موسى، وأن يساعد الحواريون عيسى، وأن يساعد الخلفاء الراشدون محمد عليهم السلام جميعاً، ما معنى المدن السبع التي أوجدت الخلق المادي بكل أبعاده؟؛ ففي مدن الروح تم إنجاز الأخلاق والسلوك والردع، وصناعة الإنسان بتحويله من بشر إلى إنسان، وفي مدن المادة تمت صناعة أدوات الإنسان ووسائل عيشه ووسائط حمايته وحركته.
الغرب بمدنه السبع ينجز التكوين المادي، ويسيطر على الأرض والسماء وما بينهما بالقوة الفكرية؛ القادمة من القوة المادية المحكومة بنتاج القوة الفكرية وهي العلم، وإيمانه بالعمل الذي يحقق الحضور، لماذا هذا الغرب يحكم العالم دون تردد؟، لم يمتلك الغرب المواد الأولية، وهذا ما دعاه لتطوير الفكر، وبعث فيه روح التجربة والاستكشاف والبحث، لذلك نؤكد على أن القوة الفكرية هي التي تصنع المادة وتوجد التطور، بعد التأمل العميق والتفكر السليم الذي ينجب العلم الحقيقي تعمل بلا خوف، وهذا ما يخرجك من أطر التجريب الغيبية وغير المعروفة، إلى نظم التجربة التي لا تتم إلا بعد توفير المكونات، فإذا لم تحصل على نتائج تعيد البحث والتدقيق، ستعلم أين أخطأت وأين أصبت، فالتجربة علم والتجريب جهل، وبقاء أمم الروح هائمة على وجهها خوفاً من الغيب، وتقضي جلَّ وقتها بحثاً عنه وعلى وجودها من موجدها، هو أهم أسباب تخلفها، وتقدم مدن المادة وسيطرتها لأنها امتلكت فهم جوهر الروح، واتجهت إلى فهم الصورة المشوهة وإعادة تصحيحها، بخلق الشخصية الثقافية في عالم الغرب، وطرحها للأفكار ذات الجمالية المتفوقة، والتي تشكل بظهورها طموح العالم الثالث خارج مدنه السبع، فالموسيقا- والرسم- والنحت- والمسرح- والتمثيل- والعمارة- والتصوير، سبعة فنون تكوينية ،حدثت ثورة الشوق والحلم وحضور الغرب في ذاكرة كامل الشرق والغرب والجنوب الإنساني أينما ظهر، وأيضاً ثقافة القبعة والبنطال، وأناقة الرجل الأبيض، وإعطاؤه صورة الإله الأبيض المفكر والحامي والمبدع والمخترع، وإضعاف ثقافة الآخر وإلهاؤه بالبحث خلف بدهيات التكوين، أنجز للغرب في مدنه السبع حضوراً مختلفاً تسلطياً جميلاً ومرعباً في آن، وعليه نلاحظ أن شعوب المدن السبع المادية فهمت فن اللعبة، فأجادت صنعها وتصويرها، أغرت بها عالم الروح وتركته يلهث خلفها، إنها لعبة الصور لا لعبة الجوهر، إغراء وإلهاء ونهب لماديات وعقول دول العالم الثالث، وعمل دؤوب في العالم الأول أي الغرب، من أجل امتلاك العالم أكثر، والسيطرة عليه بقوى ووسائط أفضل.
من ذلك كانت الرؤية في كتابة هذا البحث، عسى ولعل ندقق فيه، فنعلم ماهية الشرق والغرب، والشروق للأمم وأفولها أو غروب حضورها، فلماذا مر بنا الشرق وغَرب، وظهر في الغرب ولم يغرب بعد، من يحكم العالم منذ ذلك التاريخ الموغل في القدم، ومن يخطط له، من أوجد الأديان، ما معنى البناؤون الأحرار (الماسون) وفرسان الهيكل، والصوفية والهندوسية، والبوذية واليهودية، والمسيحية والإسلامية، ما معنى الرأسمالية والاشتراكية، ما معنى ثورات الزنج والعبيد والهنود الحمر، من أوجد الكيانات (العنصرية الصهيونية والأبارتيد)، من أحدث الحروب العالمية الكبرى، ومن أجل ماذا؟ من أجل أن تموت الملايين، من اخترع الإيدز والسارس والإيبولا وجنون البقر وإنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير، لماذا تظهر جميع الأمراض خارج المدن السبع، ولماذا تنسب إلى العالم الثالث، هل هناك حكومة سرية تحكم العالم، من يختار رؤساء العالم، من يصنعهم، من يشير إليهم من يراقبهم، فإذا كان الإله اختار أنبياءه في عالم الروح، فلابد أن هناك من يختار القادة في عالم المادة، هل هناك حكومة أمنية تحكم العالم، من أوجد هذه الحكومات، ما هو الفرق بين الحقيقة والخيال، ولماذا هناك صراع أزلي بين المادة والروح، بين العلم والدين، بين المظهر والجوهر، متى سيحدث التصالح، كيف أحدثت مساحة جغرافية الأمم والدول من شكل نظمها الفكرية، هل العالم الحي هرم له قاعدة ورأس، أين هو؟، وإذا كان عبارة عن أهرامات، وطالما أن الفكرة آمنت بالتوحيد الروحي فلا بد من وجود توحيد مادي، فكما أن في الروح غيب وله عالم الغيب والشهادة، كذلك لا بد من وجود قائد للتحكم والسيطرة في عالم المادة.
التدقيق في الغرب يقودنا إلى ملاحظة استثنائية يجب التوقف عندها ملياً ومراجعتها، والسؤال لماذا فعل الغرب كل هذا في الفكر العالمي الروحي والمادي في آن، لماذا صنع الغرب اليهود صناعة الرعب، هل كان يحتاجهم بعد أن درس مدن الروح بعمق فهمي شديد؛ مستفيداً من التناقض الأسطوري المعزز في الفكر المسيحي والإسلامي، لماذا حوَّل الغرب المنهج اليهودي البسيط إلى عالم من القوى اللامرئية الخطيرة، يحمله كل فرد يعيش على وجه الكرة الأرضية خوفاً وهلعاً من هذا النهج، ولماذا كانت له إرادة حصر اليهود في فلسطين السورية الكنعانية كصورة؛ سعى لتثبيتها على جغرافيا تتحول هذه الصورة رويداً رويداً إلى سلطة تقاد من الخارج، وينظر إليها كأداة رعب عالمية، هي ليست موجهة فقط إلى سكانها الفلسطينيين الأصليين، ولا إلى العرب المسلمين، ولا إلى المسيحيين في العالم أجمع؛ على الرغم من القناعة بأن المسؤولية المسيحية أولاً، والإسلامية ثانياً، وحدهما يحملان وزر تقديم اليهود من خلال زرعهم في الكتب المقدسة، فالمسيحية ضمت التوراة إلى إنجيلها المقدس، واعتبرته حاضنتها وقاعدتها التي ترتكز عليها، وأوجدته مطلقة عليه العهد القديم في كتابها الذي يضم العهد الجديد، والإسلام وفي القرآن الكريم أيضاً سكنه اليهود، حيث شغلوا ثلث مساحته وربما أكثر قليلاً، هذا التنزيل والإقحام الذي ما كان للغرب أن يشتغل عليه لولا وجود الإقرار، وعلى الرغم من أن المقدسين المسيحية والإسلام عززا ذلك الدور التاريخي الأسطوري المنهوب والمنسوب إلى اليهود بطريقة اختلاس التاريخ وتحويله إلى تأريخ، لقد ابتلع اليهود التاريخ حقيقة، وصيغ على هواهم الذي اخترعوا منه إلهاً أطلق عليه اسم (يهوه) من الهوى، وهم الذين لم يمتلكوا عبر كل التاريخ حضوراً حقيقياً، فلم يكن لديهم ثقافة- موسيقى- رسم- نحت- أثر تراثي، وكما ذكرت في معرض ما كتبت أن لغتهم مزيج من لغة آكاد وكنعان المسروقتين، وكتابهم التوراة التورية أيضاً مزيج من عبادات الفراعنة والبراهما الهندية وأساطير السومريين، تجمعوا لمرة واحدة أثناء تيه سيناء، لم يعمروا أيَّ مملكة في فلسطين لا في شرقها ولا غربها، وإن قصة هيكل سليمان ابن داود الحنيفيين الموحدين ما هي إلا استلاب يهودي، وغاية تعزيز كذبهم بكذب مضاف، فالهيكل المزعوم هو معبد انتشر نظامه المعماري في كامل البلاد السورية القديمة في بعلبك، ودمشق، وحلب، ومدائن صالح، والعراق القديم أي حضارة ما بين النهريين. هي ملاحظة أدعوكم لدراستها والبحث فيها أعود لأحمّل الغرب مسؤولية العبث في التاريخ والاعتماد على التأريخ التوراتي للعالم أجمع، فلا يوجد مبحث علمي أو تاريخي أو إنساني إلا ويتم الاستناد إلى شخصية يهودية أو تاريخ يهودي، الموجود فقط في التوراة وأسفاره الوضعية لا الحقيقية، عليه أطالب الغرب كما أطالب المسيحية والإسلام بأن يعودوا للبحث الحقيقي حول جذور الحقيقة، والبناء عليها من جديد، بكوننا نعيش دورة حياتية نقترب من نهايتها، فالتاريخ الإنساني الذي بلغ ملايين السنين التي كشفت عنه حتى الآن؛ يعطينا لمحة عمّا جرى في الدورات الحياتية، فماذا سنترك للدورة الحياتية الجديدة القادمة بعد دورتنا، وكل دورة تبدأ من نقطة على الصفر تظهر الواحد وتنتهي بالتسعة، حيث الولادة الجديدة تعود دائماً من جديد مع العشرة المتشكلة من صفر و واحد بعد نزول النقطة، يظهر من جديد نوح جديد يعمر الأرض، تُروى عنه الأساطير المتدحرجة ككرة الثلج تكبر رويداً رويداً، نؤمن بها ونؤسس لها القضايا نقدّسها، ونشرّع من خلالها كي نحمي أنفسنا من أنفسنا.
شرق وشرق وشرق سبعة شروق، وغرب تكون من سبعة مدن مشرقة في الغرب، تتطلع على هذه الشروق خوفاً من أن ينتهي، ولكننا جميعنا سننتهي وسنظهر من جديد في دورة حياتية جديدة، تنهل العقول القامة من عقولنا التي عادت إلى الثرى، كما نهلنا نحن من ثرى الأقدمين.