جمالية الحياة وسعادتها مرتبطة بأخلاقية تفكيرنا وسموّ مشاعرنا
الابتسامة الصادقة تجسيد لجماليّة الحياة السعيدة ومبعث للتفاؤل والأمان
الإبداع الفني والفكري يحرّرنا من متاعب الحياة، ويغمرنا بالسعادة الحقيقية
إذا كان (الخير) موضوع (علم الأخلاق)، وإذا كان (الحق) موضوع علم المنطق، فإن (الجمال) هو موضوع (علم الجمال Esthetique).
يعتبر (علم الجمال) من أهم (العلوم الإنسانية) وأكثرها صلة بالإنسان وعواطفه وميوله، وإبداعه ورغباته وخلوده، ويُعالج (علم الجمال) كل ما له صلة (بالفن) كالفن والطبيعة، والصناعة والإنسان والعلم والمجتمع، وعلم النفس ومعيار الفن، أضف إلى ذلك التذوق الفني والنقد الفني وفن الحياة. كما يعالج (علم الجمال) كل ما له صلة (بالجمال) كالجمال والحق، والخير والإنسان والفائدة والقيم العددية والحياة والسعادة.
فكر الإنسان ينبوع سعادته:
وقد ذهب بعض المفكرين الجماليين في تقدير الجمال والحياة إلى اعتبار (كل ما هو حي جميل)، وإن كل ما يذكرنا بالحياة والسعادة جميل، وإن فكر الإنسان ينبوع سعادته، فالجمال هو أجمل مظهر من مظاهر الحياة، وإن مظهر الشعور الجمالي هو استعادة الحياة، والتمتع بفرحتها وبهجتها وغبطتها وفعاليتها، واستئناف الانسجام الداخلي.
ففي الحياة والسعادة جمال، وفي الجمال والسعادة حياة ولا يمكن البحث عن الجمال بعيداً عن الحياة والسعادة، ولا يمكن للإنسان أن يحيا كما يجب أن يحيا بدون جمال وسعادة وحياة سعيدة، فالحياة هي أجمل ما في الحياة، والحياة السعيدة هي المثل الأعلى للحياة وجماليتها. لقد تميز الإنسان بإدراكه أهمية (الحياة وجماليتها) المتميزة بالفعالية والحيوية والنشاط والعطاء، والتعاطف والفرح والغبطة والسرور، كما تميز الإنسان بقوة إحساسه بجمالية هذه الحياة الخيّرة والفعالة أو النشيطة والسعيدة والمملوءة فرحاً وغبطة، وإن كل حياة خيّرة وخصبة وفعالة وسعيدة تتميز بالطابع الجمالي، وإننا نتمتع بالجمال عندما نشعر (بتجدد الحياة) وفرحتها وغبطتها وسعادتها وفعالياتها ونشاطاتها وتطلعاتها وطموحاتها وآمالها وأمنياتها السعيدة.
فن الحياة السعيدة:
ويتميز المبدعون في مختلف ميادين الحياة بوعيهم الكبير بجمالية الحياة وسعادتها وقداستها، وإمكاناتها الكبيرة وطاقاتها المختلفة وفرحتها الحقيقية والروحية.
ويصرُّ المبدعون على وجوب الانفتاح على الحياة الجميلة والسعيدة، ويعتبرون أجمل الفنون هو (فن الحياة السعيدة). ويعتبر الجماليون الطبيعة جميلة، وهي التي علّمت الإنسان دروس الجمال وعبّرت عن أجمل مظاهر الحياة الجميلة والسعيدة، ومنحت الإنسان سروراً جمالياً وإحساساً قوياً بجمالية الحياة وسعادتها. وهكذا فقد تكامل جمال الطبيعة مع فرحة الإنسان وسعادته في حياة سعيدة.
لقد أحب الإنسان الطبيعة لأن حب الطبيعة من طبيعة الإنسان، وإن جمال الأشجار والثمار والورود والأزهار، ونضرة النباتات وتعدّد ألوانها الطبيعية تجذب انتباهنا، وتثير إعجابنا وتبعث في نفوسنا الفرح والسرور والشعور بالسعادة الحقيقية، لأنها تعبير عن حياة جميلة عامرة بالقوة الحياتية وجماليتها، في حين أن منظر الشجرة اليابسة أو الزهرة الذابلة قبيح لأنه مجرد من الحياة، فالإحساس بالجمال ينتج عن الشعور الكامل بالحياة الجميلة والسعيدة التي تجعلنا نرى الجمال في كل ما يحببنا بهذه الحياة الجميلة السعيدة، ويزيدها جمالاً وخصباً وثراءً وقوة وسعادة حقيقية متميزة.
جمال الماء مصدر الإلهام:
وقد اهتم الأستاذ الفرنسي (جاستون باشلار) بدراسة (جمالية الماء والأحلام)، لأن كثيرين من الشعراء والأدباء يستوحون روائعهم قرب شواطئ البحار وضفاف الأنهار ومواقع البحيرات والشلالات، وإذا كان القرآن الكريم ذكر (جمالية الماء) وفوائده في الآية الكريمة «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» [الأنبياء : 30]
فإنّ تأمّل جريان مياه الأنهار وتلاطم أمواج البحار، يوحي بأن (جمالية الماء في الحياة) تبدو بمثابة نمط لمصير معيّن، وإن للكائن البشري مصير هذا الماء الجاري، فالماء لا يكف عن الجريان، وإن آلام الإنسان مستمرة ولا تنتهي، وتبدو سلسلة صور تحت صور المياه السطحية، فيجد الشعراء والأدباء والمفكرون والفنانون موسيقا متميزة في جريان مياه الأنهار وتلاطم أمواج البحار، كما يجدون فيها مصدر إلهامهم الأدبي والفني والفكري والجمالي، وذلك لأن أصوات هذه المياه تعتبر بمثابة لغة شاعرية جذابة وموحية ومنشطة، علّمت الإنسان والطير فنون الكلام والغناء الجميل، وقد استنتج الأستاذ (جاستون باشلار) وجود تشابه بين جريان مياه الأنهار ومضي الأيام المتوالية، وأكّد بأن الأيام التي تمضي تبدو مثل مياه الأنهار التي تجري، فهي لا تعود.
ويبدو للصحة البدنيّة والنفسية إسهامها الكبير في جمالية حياتنا وإحساسنا بالحياة الجميلة والسعيدة، ففي نضارة الشباب يتجسد جمال الحياة وفرحتها وسعادتها، كما يتمثل فيها ربيع العمر وزهرة الصبا، ويتألق جمال المستقبل السعيد وآفاقه وإشراقاته الجميلة.
وإن الإحساس بالجمال أتاح للإنسان فرصة الانتصار على أزمات الحياة المختلفة المبللة بالدموع، والمخنوقة بالبكاء، والمشحونة بالبؤس، والمملوءة بالأسى، المغمورة بالحزن، والمتصفة باليأس، وتعد سيمفونية الموسيقار الكبير «بيتهوفن» التاسعة بمثابة زحف مقدس مكلّل بالنصر للوصول إلى آفاق الفرح الإنساني المطلوب، وعالم السرور الحقيقي المنشود، وفردوس الحياة الإنسانية المثالية السعيدة.
ويبدو إحساسنا بجمالية الحياة وسعادتها مرتبطاً بأخلاقية تفكيرنا وأفكارنا، ومدى نشاطنا وفعالياتنا، وتفاؤلنا ونجاحنا في ميادين الحياة المختلفة. وإن أكثرنا حباً للخير والإحسان هو أكثرنا فرحاً وسعادة حقيقية في الحياة، وإن الحياة الخيِّرة والفعالة السعيدة هي مصدر الإحساس بالجمال وإدراكه.
لا جمال بغير الإنسان:
ويعتبر الإنسان مقياس المقاييس الجمالية، وزينة هذا الوجود الجميل، ودعامة الحياة الجميلة السعيدة، فلا جمال في أي مكان مقفر ولا سعادة بدون الإنسان المتميز بالوعي الإنساني، وكان الفنان «جياكوميتي» يقول: (عندما أذهب إلى متحف اللوفر في باريس، أؤكد أن أجمل تمثال في العالم يبدو تافهاً بالمقارنة مع المرأة العجوز التي تقف أمامه).
فالإنسان هو زينة هذا الكون الجميل والوجود الكوني في الغامض المملوء بالأسرار، فليس هناك أجمل من جسم الإنسان، وليس هناك أزكى من عقل الإنسان، وليس هناك أمهر من يد الإنسان المبدع، وإن ابتسامة الإنسان تجسّد جمالية الحياة السعيدة وتبعث جمال التفاؤل في الحياة ومدى الحياة، وفي الحديث الشريف: «ابتسامتك في وجه أخيك صدقة»، وفي القول المأثور: (الوجه مرآة الروح).
وإن الجمال يلازمنا في حياتنا مدى حياتنا، ويطبع بطابعه الجميل كل فرحة من أفراحنا في حياتنا ومناسباتنا المختلفة، وكل أمنية من أمنيات حياتنا السعيدة.
ويبدو الجمال بمثابة إشعاع جميل دائم ومستمر، ينبع من أعماقنا وأفكارنا فينير دروب حياتنا الغامضة، ويمنحنا فرحة الحياة السعيدة وغبطتها وسرورها وسعادتها، مما يجعل الحياة فعلاً سعيدة.
ويبدو الجمال بمثابة تفتّح الوجود وزهرة الحياة الجميلة والسعيدة، وتبدو الحياة كأجمل ما في الحياة. وإن حبنا للحياة السعيدة يدفعنا إلى استمرار عملية الإبداع الرائع والجميل الذي يبعث فينا ضياء الحياة الإنسانية الجميلة والسعيدة في هذا الكون الجميل وكائناته الجميلة، وفي قلب كل من يحب الحياة، ويعمل كل ما يلزم لها، فيتممه بنعمة الإحساس بالجمال والحياة المثالية السعيدة.
الجمال والقيم الإنسانية:
وإن علم الجمال بطابعه الإنساني المثالي المتميز وصلته بالحياة الإنسانية الخيّرة والنشيطة والفعالة والسعيدة، يبدو هذا العلم بمثابة (كتاب الحياة السعيدة)، يهدف إلى إرشادنا إلى عالم القيم الإنسانية وفردوس الحياة السعيدة.
ويبدو (الجمال الأخلاقي) خير رفيق لنا في رحلتنا الحياتية، وممارستنا اليومية، فهو خير ملازم لنا في غربتنا الروحية، يشجعنا على المضي والتمتع بالحياة الخيّرة والجميلة والسعيدة. والإلهام في صنع (تاريخ الإنسان الحضاري) وإغناء التراث الثقافي الإنساني، وجعل مآسي الحياة (مثلاً أعلى للحياة البطولية)، كما تجعل من الليمون الحامض شراباً عذباً ومنشّطاً في الحياة.
وتمرّ بحياة الإنسان مراحل متميزة تكون بمثابة (واحات سعيدة) نلجأ إليها، ونستعرض فيها كل ما يدور في أذهاننا، فيعبّر الإنسان في هذه المحطات الحياتية عن أفكاره ومشاعره، ومعاناته ومأساته، بل وقصة حياته..
وتتميّز حياة الإنسان المبدع بالبعد الإنساني والسموّ الروحي وحسن التصميم على الإبداع الإنساني الجميل في ميادين الفن والآداب والعلوم والفكر.. مما يساعده على التحرّر من شدّة المعاناة وأثر المأساة.. ويحقّق له الكشف عن عالم الجمال وآفاقه الواسعة في ميادين الحياة الخيّرة والجميلة والفعالة والسعيدة، وتصوير كل ما كان غامضاً ومستتراً ومحجوباً وراء مظاهر الحياة العابرة.
الإبداع الفني أفضل تعبير عن المشاعر الإنسانية:
إن الإنسان فنان بالفطرة، وبطل في هذا الكون الواسع والغامض، وهو زينة هذا العالم الجميل، وهو خير من يبني حياته السعيدة من تجارب الحياة، ويخترق مصاعب الحياة وعقباتها بعزم وتصميم، وذلك بما يبدعه وينتجه ويبتكره من روائع فنية وأدبية وفكرية متميزة، تملأ وجوده الذاتي بآثاره ومآثره التي يؤكد بها وجوده الجميل، ويزيّن بها حياته الجميلة والسعيدة.
وهكذا استطاع الإنسان المبدع أن يكتشف خير مناسبة فيما يبدعه ويبتكره، وأفضل وسيلة يعبّر بها عما يختزنه في أعماقه من آلام وأحلام، وتطلعات وأمنيات في حياة متميزة بالجمال والسعادة.. مما يجعل الإبداع الفني والأدبي والفكري يحرّرنا من متاعب الحياة وهمومها، كما تحرّرنا الكتابة من الحزن والكآبة، ويملأ العمل المفيد والجديد فراغنا، ويغمر نجاحه حياتنا بالفرح والسرور والسعادة الحقيقية.
وإننا في الفن ننشد حياة روحية أغنى من حياتنا المادية والعادية، ولا بدّ للإنسان أن يتحرّر من متاعب الحياة وعبء الصعوبات والعقبات والأزمات المختلفة، وذلك كي يتصل بعالم الجمال والحياة السعيدة والقيم الإنسانية، ومن ملاحظات الشاعر (إيليا أبو ماضي) الجمالية قوله:
والذي نفسهُ بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً
ويُعدّ علم الجمال أعظم مربّ للإنسان والإنسانية، وإذا كانت الحياة من أهداف الحياة الإنسانية، فإن الفنون الجميلة تلبي حاجة الإنسان إلى التعبير بحريّة واعية من حياته. وإنّ كلّ ما هو حرّ فإنه جميل، وإن الجمال صفة كل عمل مبتكر وأصيل، وإن كل عمل فني أصيل يعتبر بمثابة نداء جميل إلى جمالية الحياة ونشيدٍ جميل يتغنّى بجمالية الحياة الجميلة والسعيدة.
العلم أجمل الفضائل:
ويُعدّ (العمل فضيلة)، بل أعظم الفضائل في الحياة، فهو مصدر سعادة الإنسان، وإن المستقبل يشرق لمن يعل بإخلاص، ويتقن ما يبدعه، وكأن أحد المفكرين قد عبّر عن أمنيته الجميلة في الحياة وذلك بممارسة عمل جميل ومفيد فقال: (آه لو كانت يدي يد رسام لكي تعبّر عمّا رأيته، ولكي تضيف الوهج والضوء الذي يشه أبداً من بحر أو أرض)، ذاك الذي كان قداسة الشاعر وحلمه.
فالجمال صورة من صور المثل الأعلى الإنساني في الحياة السعيدة التي تحدّث عنها الكثيرون في (المدينة الفاضلة) و(جزيرة الأحلام) أو (مملكة الأحلام) أو (إمبراطورية الخيال)
المصدر : العدد 61 تموز 2012