كانت الحسبة فيما مضى وظيفة تقوم على المبدأ الإسلامي وشريعته، وكان المسلمون في العصر الذهبي الأول يفعلون ذلك احتساباً أي تطوعاً لوجه الله عزّ وجلّ ثم أصبحت في عصور الاستبداد والفساد وظيفة ديوانية بأجر وسلطة رسمية، واحتفظت بنفس الاسم "الحسبة والمحتسب".
ثم توسعت وظيفة المحتسب فلم تعد مقصورة على الأسواق، بل شملت الشوارع والأزقة بغية محاربة الفساد وفق ميزان الشرع، وبهذا الشعار الجميل كتب المؤلفون من الفقهاء وغيرهم في وظيفة المحتسب من وجهة نظر حالمة تتحدث عما ينبغي أن تكون عليه قواعد هذه الحرفة، لقد كانت وظيفة الحسبة هي الميزان الحساس الذي يبيّن عدالة الدولة أو فسادها، كما كانت أكثر الوظائف اتصالاً بالناس واحتكاكاً بهم وتأثيراً عليهم.
وقبل أن نتحدث عن المحتسب ودوره في تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس لابد أن نعرِّف الحسبة لأنها الميزان الأساسي لعملية المحتسب في إقامة العدل.
الحسبــــة: في اللغة: اسم من الاحتســـــــاب، يقال فلان حسن الحسبة في الأمر، أي حسن التدبير والنظر فيه.( 1)
وفي الشرع: هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا أظهر فعله. (2) قال تعالى: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" (3) وقال تعالى: "والذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور".( 4)
والحسبة بهذا التعريف يرجع بعض الفقهاء والمؤرخين نشأتها إلى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين.( 5) واستندوا على ذلك أنها كانت تمارَس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانت حياته عليه السلام مليئة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان يتفقد الأسواق بنفسه، كما تولى صلى الله عليه وسلم الحسبة بنفسه وقلدها غيره، فقد استعمل ابن شاهين على سوق مكة قبل الفتح ووليها سعيد بن سعيد بن العاص بعد الفتح.( 6)
ويرى بعض المؤرخين المحدثين أن لفظ المحتسب لم يظهر إلّا في العصر العباسي الأول وفي عهد الخليفة المهدي، وظل باقياً في عهد خلفائه، ويستدل هؤلاء المؤرخون على ذلك ببعض الإشارات التي وردت في بعض المصادر العربية الإسلامية ومنها ما حدث في عهد المهدي عام 163هـ - 779م إذ أمر عبد الجبار المحتسب وكان يلقب بـ(صاحب) الزنادقة بالقبض على الزنادقة.( 7)
كما يرى البعض أن الحسبة ظهرت في عهد الرشيد وأنه أول من أقام المحتسب، لكي يطوف بالأسواق ويفحص الموازين والمكاييل من الغش عندما اتسع نطاق التجارة في بغداد. (8)
وتذكر بعض المصادر العربية الإسلامية أن لفظ الحسبة ظهر قبل ذلك منذ عهد أبي جعفر المنصور ذلك عندما عين عاصم بن سليمان الأحول محتسباً وأوكل إليه مراقبة الموازيين والمكاييل، كما ولي المنصور يحيى بن عبد الله على حسبة بغداد والأسواق عام (157هـ - 773م) (9)
فوجود المحتسب في عهد المنصور ينفي الآراء التي رأت أن هذه الوظيفة ظهرت لأول مرة في عهد المهدي، وأنه هو مؤسس نظام الحسبة كما ينفي القول بأن الرشيد هو أول من أقام المحتسب لكي يطوف الأسواق ويفحص الموازين والمكاييل، فالواضح من المصادر أن وظيفة المحتسب وجدت في عهد المنصور. فأصبح صاحب السوق يسمي المحتسب، وقد تطورت هذه الوظيفة تطوراً كبيراً حتى صارت من أهم الأمور التي اهتم بها الخلفاء والولاة بعد ذلك.
ورغم عدم ذكر المؤرخين، لاسيما المحتسبين، أدوارهم السياسية في مصر والشام هناك الكثير من الإشارات التي تدل على وجود المحتسب في هذين الإقليمين، فإننا نجد بعض الألفاظ النقدية نحو "دينار" "ونصف دينار" و"ربع دينار" و"ومثاقيل طرية" و"ودنانير معسولة" وغيرها من الألفاظ وهذه الألفاظ تدل على أن هناك تحقيقاً وتدقيقاً من مصداقية وصحة الدنانير التي يتعامل بها، وهذا لا يتأتّى إلّا عن طريق الإشراف على الأسواق ومراقبة عمليات البيع والشراء، واختبار وزن الدينار واتباع كل الطرق التي تحول دون العبث بالعملة والتزييف فيها وهذه الأمور كلها من صميم عمل المحتسب. (10)
لا شك أن جميع الناس يتأففون من موظف الضرائب أو ما يشبهه في المهمات التي تسنها الحكومات لمراقبة الأسواق وضبط الأسعار، والناس دائماً يترحمون على الأيام السالفة ويعدونها أفضل من الحاضر بكثير، فلا رقيب على الأسواق ولا محاسبة، والناس أحرار فيما يفعلون في رزقهم وطرق تجارتهم، بالطبع هم مخطئون في ذلك، فالموظف الحكومي الذي توكل إليه مراقبة السوق عاصر الحياة المدنية وخبر الأسواق وأصبحت لديه ملَكة مهمة في اتخاذ القرارات المناسبة بحق المخالفين من الباعة والتجار وغيرهم.
فمنذ ولادة الحياة التجارية في أصقاع الدنيا من دلتا النيل إلى ضفاف الرافدين وربما أبعد من ذلك ظهر الموظف الحكومي ليتدخل بشؤون التجارة برمتها بدءاً من المقاييس والأوزان إلى عامل أهم هو الصحة والنظافة وصولاً إلى الضرائب وغيرها، فمن أراد العيش في هذا المجتمع الذي يعج بالحركة والحيوية والنشاط عليه أن يتعاون مع الموظف الحكومي ويتماشى مع سياسة الدولة في بسط سيادتها.
العرب في مقدمة الشعوب في تنظيم حياتهم الاقتصادية
العرب بما يملكون من باع طويل في الحياة التجارية تمكنوا خلال العصر الذهبي للإسلام أي نحو 1000م من تطوير حياتهم لتبلغ أرقى المستويات من حيث التنظيم والإدارة، فشملت من ضمن هذه الأشياء المهمة موظفاً واسع الصلاحيات توكل إليه عوامل عدة منها تأمين الانضباط بسائر أشكاله داخل المجتمع المتعدد الأطياف... هذا الموظف هو المحتسب كما ذكرنا في مقدمة بحثنا.
ومن الإجحاف ربط مهمته فقط بالتفتيش عن المقاييس والأوزان بل مهمته كانت أوسع من ذلك بكثير فقد شملت مهام أخرى جوهرية تتعلق بحياة المجتمع برمته.
التجارة وطرقها في المجتمعات الإسلامية
لدينا الكثير الكثير عن أعمال المحتسب من خلال المعلومات التي وُجدت في أمهات الكتب وكذلك المخطوطات المحفوظة في إسبانيا إذ تحدثت بعضها عن قضايا عمل المحتسب الذي كان يشرف على ضبط المقاييس والأوزان المستخدمة آنذاك، إلى جانب مسؤوليته عن ضبط كل المقاييس العامة والاجتماعية وصولاً إلى التصرفات الاجتماعية نفسها، وكان المحتسب محاطاً بفريق منظم من المفتشين والمراقبين الذين كانوا يراقبون كل الحوانيت ويسجلون جميع المخالفات بشكل دقيق ومنظم.
ومن أصعب المهمات الموكلة للمحتسب في العصر العباسي المراقبة الصحية العامة إذ كانت أصعب من مجرد مراقبة الأوزان، بل تخطت ذلك لتشمل موضوع النظافة والتخلص من النفايات التي تخلفها عملية التجارة والبيع.
للمحتسب قصب السبق في تطبيق التشريعات والقوانين
إن التنظيم في عملية الطعام والشراب لمنع انتقال الأمراض كان جوهر العمل عند علماء المسلمين في العصر العباسي ولهذا وضعت ضوابط كثيرة لتنظيم العمل ومتابعته بكل دقة وإتقان وكان للمحتسب قصب السبق في تطبيق القوانين والتشريعات ليغدو هذا المجتمع الإسلامي أكثر تنظيماً وازدهاراً من المجتمعات الأخرى.
ولهذا كان المجتمع العباسي يعج بحياة الرتابة والتنظيم، إذا كان المحتسب يراقب المهن مراقبة شديدة إذ نجد القصاب يقوم بذبح الحيوانات في المسلخ العام وتحت إشراف المحتسب، وعليه أن يفرد لحم العجل عن لحم الماعز والضأن ولا يخلط بعضها ببعض، ويبقي الذنب على الذبيحة حتى ينتهي من بيعها كاملة، وذلك بغية معرفة نوع اللحم المباع، كما كان بيع لحم الحيوانات المريضة ممنوعاً ويعاقب الحرفي على فعل ذلك إذا فعل هذا الأمر، كما كان اللحم القديم يعلق خارج الملحمة ولا يخلط باللحم الطازج.
وفي نهاية كل بيع أي عند انتهاء العمل على الحرفي أن يقوم برش الذبائح المتبقية بالملح وتغطيتها بسعف النخيل.
ومن تعليماتهم للجزارين والقصابين أن يستحب أن يكون الجزار مسلماً بالغاً عاقلاً يذكر اسم الله على الذبيحة يستقبل القبلة عند الذبح، أو ينحر الإبل معقولة، ويذبح البقرة والغنم مضطجعة على الجنب الأيسر.( 11)
أما بائع السمك فكان عليه غسل سلاله وأدواته وتمليحها يومياً، وتجفيف أو تمليح السمك غير المباع شرط استمرار جودته، وإلا فعليه رميه في مجمع مخصص للنفايات خارج المدينة، كما كان تحضير السمك وغيرها من المهن والحرف (غير النظيفة) كالصبغ والدهن يجري في مناطق خاصة بكل منها.
المحتسب عين الرقيب على المجالس وبيوت الطعام
أما المحتسب عين الرقيب فكان يتابع ويراقب مجالس وبيوت الطعام فيأمر بطلي المقالي والقدور النحاسية أو تغييرها كلياً إذا كانت غير صالحة، إلى جانب تغطيتها مع أواني الطعام لمنع اقتراب الذباب والحشرات التي كانت معروفة وخاصة الناقلة للأمراض.
المحتسب يمارس دور الرقيب على المطاعم
كما كان المحتسب وجماعته من المراقبين يراقبون عمل الأفران من ناحية النظافة الداخلية واتباع الشروط الصحية، ونوعية الطحين المستخدم، وقد وصلت سطوة المحتسب في أواخر العصر العبــــــاسي إلى اتخاذ عقوبة الإعدام في حق أي شخص يكرر القيام بأعمال تضر المجتمع.
وقد وضع المحتسب شروطاً وتعليمات لا بد أن يلتزم بها الخبازون في أن ترفع سقائف حوانيتهم، وتفتح أبوابها ويجعل في سقوف الأفران منافس واسعة يخرج منها الدخان، حتى لا يتضرر الناس، وأن ينظف الخباز التنور بقطعة قماش نظيفة قبل أن يبدأ بالخبز، وأن ينظف أوعية الماء ويغطيها وينظف المعاجن، وما يغطى به الخبز، وما يحمل عليه.( 12) والمحتسب يراقب عملية صنع الخبز.
كما لم ينس المجتمع الإسلامي الماء والحليب ودورهما في نقل الكثير من الأمراض الفتاكة، وكان دور المحتسب جلياً في هذا المضمار.
في بغداد كان الماء يقسم إلى قسمين:
الأول وهو الأفضل ويستخرج من الآبار.
الثاني وهو الأقل نظافة ويؤخذ من الأنهار.
كان الماء الأفضل يباع في جرار كبيرة توضع في ساحات المدن وحولها وتغطى بسعف النخيل، ويمنع منعاً باتاً الشرب من الجرار مباشرة، أو وضع اليد فيها، بل يسكب الماء في جرار صغيرة صنعت لهذه الغاية يجلبها الشارون، ويجب صيانة هذه الجرار يومياً وغسلها بغية المحافظة عليها. ويحق للمحتسب في حال المخالفة رمي الماء أرضاً أو إغلاق الحانوت.
أما ماء الأنهار فكان على ما يبدو أقل ضمانة من ماء الآبار. ولمنع التلوث الزائد قام الخليفة المقتدي في القرن الحادي عشر بمنع المسؤولين عن الحمامات الشعبية من جر المياه غير النظيفة إلى النهر بل إلى آبار تجميع خاصة، وجرى العمل أيضاً على منع رمي النفايات في نهر الفرات. كما كانت مياه النهر تباع في قرب جلدية، وخشية من إذابة مادة الصباغ في الماء المباع للاستهلاك الشخصي كان المحتسب يصر على ضرورة استعمال هذه القرب في أعمال البناء أولاً حتى يتلاشى خطر هذه المواد.
الحمامات الشعبية وبعض السلع الأساسية وعين المحتسب
كما لم تغب الحمامات الشعبية عن عين المحتسب، فيجب أن يكون الماء نظيفاً ومنعشاً، وكذلك أرض الحمام، كما يمنع غسل الملابس واستخدام الروائح الكريهة، بالإضافة إلى منع الأشخاص المصابين بالأمراض الجلدية نحو الجرب والجذام من دخول الحمامات.
وكان على كل حمام شعبي أن يضع جرة من الفخار تحتوي على ماء للشرب في مكان مناسب يكون في متناول الزوار.
أما الحليب وبيعه فكانت له أيضاً تعليمات صارمة من حيث النظافة والقدور النظيفة المغطاة بطريقة حسنة تمنع دخول الحشرات وغيرها، بالإضافة إلى مكان الحلب وضرورة توفر الشروط الصحية لذلك، وقد منع تخفيف الحليب أو أخذ الزبدة منه أو غشه بأي شكل كان، وكان المحتسب يجري عدة اختبارات للتأكد من جودة الحليب حرصاً على السلامة العامة.
الأدوية والأطباء وأدواتهم وبائعو الدواء ورقابة المحتسب
كما لم يغب عن عين المحتسب مراقبة الأطباء وبائعي الأدوية إذ توسعت صلاحياته من مراقبة أوجه الصحة العامة إلى مراقبة الأطباء وبائعي الأدوية وحتى طرق تحضير الدواء وكل ما يتعلق بصحة المواطن الشخصية.
الأدوية والدواء ومراقبة المحتسب
وتذكر الكتب التاريخية بأنه قبل العام 931م كان يحق لأي كان ممارسة أي مهنة طبية أو صحية يريدها دون قيد أو شرط حتى كانت وفاة أحد أفراد حاشية الخليفة المقتدي نتيجة خطأ ارتكبه أحد الأطباء، فأمر حينها الخليفة بوجوب امتحان المحتسب لكل من يدعي مهنة الطب، وإجازة الناجحين منهم فقط. وقد أجيز نتيجة ذلك (860) طبيباً في بغداد وحدها تلك السنة.
وأصبح كل من يريد أن يمارس هذه المهن التقدم إلى امتحان خاص، وكان أكثر الأطباء أو العاملين في مهنة الطب مراقبةً همْ أطباء العيون، وخاصة عند إجراء العمليات الجراحية وإزالة الماء الزرقاء من العين.
ولكن هذه التعليمات لم تنجح كثيراً وذلك لتعلق الناس أنفسهم بالكثير من المشعوذين وطرقهم وخداعهم للناس، وعدم قدرة الناس على دفع أجور الأطباء التي كانت مرتفعة حتى في تلك العصور السالفة.
لم تقتصر مراقبة المحتسب على الطبيب وعمله بل أيضاً طالت أدواته فكان يتأكد من وجود أقسام العدة كلها ويتأكد أيضاً من نوعية المعدن المصنوعة منها، خاصة أن الحرفيين أيضاً كانوا تحت القسم بأن لا يستعملوا مواد غير صحية أو طرقاً صناعية سيئة لصنع هذه الأدوات.
كما راقب المحتسب العطار (بائع الأدوية) فمنع غش وخلط الأدوية المرتفعة السعر بالأخرى الرخيصة الرديئة، وكانت العقوبة شديدة جداً وقد تصل في بعض الأوقات إلى الإعدام كما كان المحتسب يطوف على العطارين ليل نهار وفي أي وقت يشاء لمراقبة الأدوية وطريقة صنعها وترتيبها في الأماكن المخصصة لها.
شروط اختيار المحتسب
لاختيار المحتسب شروط قاسية فمن انطبقت عليه هذه الشروط فاز بهذه الوظيفة الصعبة. وأهمها:
أن يكون حراً حتى يتمكن من أداء عمله على الوجه الأكمل.
أن يكون ذا رأي وصرامة وأن يأمر عن علم ومعرفة.
أن يكون على علم بالمنكرات الظاهرة من أهل الاجتهاد في أحكام الدين ليجتهد رأيه فيما اختلف فيه.
أن يكون قادراً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن العاجز عنهما بيده وبلسانه لا تجب عليه الحسبة.
أن يكون مكلفاً من أولي الأمر حتى يؤدي واجبه على أتم وجه ويحاسب إذ قصر فيه، أما إذا كان غير مكلف فهو لا يلزم بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يحاسب إذا قصر عن القيام به.
أن يكون عارفاً بأصناف المعايش والمهن والحرف بأنواعها المختلفة وله خبرة في الموازيين والمكاييل حتى يتوصل إلى قدرة الباعة في الغش والتدليس وحتى يميز بين الصحيح وغير الصحيح وعلى معرفة بالقناطير والأرطال والمثاقيل والدراهم ليعلم تفاوت الأسعار.
كما أن العدل في رأي بعض الفقهاء واجبة على المحتسب في اتخاذ القرارات.(13)
الآداب التي يجب أن يتحلى بها المحتسب
كما كانت أيضاً مجموعات من الصفات والخصائل الحميدة التي وجب على المحتسب أن يتحلى بها أهمها:
أن يكون فطناً يقظاً بالعفاف، والثقة، عفيفاً عن أموال الناس مجتنباً قبول الهدية من أرباب الحرف والصناعات.
أن يكون قدوة حسنة يعمل بما ينصح فيه، وأن لا يكون قوله مخالفاً لفعله، حتى تكون دعوته مقبولة، وأن يقصد بقوله وفعله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وجه الله تعالى، وأن يكون مواظباً على سنن الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله.
أن يتحلى بالرفق ولين القول وحسن الخلق عند أمره للناس ونهيه لهم حتى يعملوا على تقبل أمره ونهيه بصدور رحبة وطاعة وقناعة فإن ذلك في استمالة القلوب وحصول المقصود أبلغ.
أن يكون متأنياً لا يبادر إلى العقوبة أو يأخذ أحداً بأول ذنب يصدر عنه، حتى يأمره بالبعد عن ما هو فيه من خلاف للدين وإن تأكد له تكرار عمله وثبت لديه ذلك عمل على عقابه.
أن يكون صبوراً حليماً على ما يصيبه من الأذى في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراقبة الأسواق ومراعاة مصالح الناس لأن الصبر والحلم تتوقف عليهما نجاح حسبته، فلا ينسى الحسبة أو يغفل عن دين لله. قال تعالى: " يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور". (14)
أن يكون بسيطاً قوياً جريئاً، شديداً في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم، رفيقاً لين القول، طلق الوجه، وأن يكون قصده الإصلاح على قدر ما يستطيع.
ولم تشر المصادر التي بين أيدينا إلى تحديد أجر المحتسب واقتصرت على القول بأن أجورهم من بيت المال، وإن كان بعض المؤرخين المحدثين، يذكرون أن أجر المحتسب هو ثلاثون ديناراً في الشهر، إلا أنهم لم يذكروا المصادر التي اعتمدوا عليها في ذلك. ومن ذلك ما ذكره المقريزي في تحديده لراتب المحتسب في عهد الدولة الفاطمية بثلاثين ديناراً في الشهر.( 15)
ولهذا نستطيع القول: بأن صلاحيات المحتسب شملت جوانب متعددة ولم تقتصر فقط على الأسواق والحرف والمهن بل ذهبت إلى أبعد من ذلك إذ ركزت على موضوع العبادات والأخلاق، وكذلك مراقبة الأبنية والطرقات ومخالفات البناء والتجاوزات وغير ذلك من أمور المجتمع، لقد تطورت أعمال المحتسب عبر السنين وتوسعت وأصبحت ركيزة من ركائز تنظيم المجتمع الإسلامي الناجح الذي ازدهر وتطور في فترات سابقة، إذ بلغت العلوم أرقى درجات الرقي دونها التاريخ بحروف من ذهب، لقد تمكن أجدادنا من فهم التاريخ في دراسة معمقة هادفة لتطوير مجتمعاته لتواكب هذه المجتمعات روح العصر، ولهذا كان المحتسب لغة من لغات عصر التطور والحداثة، فلماذا لم نستفد من تاريخنا العظيم تاريخ أجدادنا الكبار في تطوير مجتمعاتنا لتغدو هذه المجتمعات قادرة على الصمود في وجه العاتيات من الزمن.
ثبت المصادر والمراجع:
1- ابن منظور: لسان العرب، ج1 ص 310- 317 / الفيروز أبادي: مجد الدين محمد بن يعقوب / القاموس المحيط، تحقيق مكتب التراث في مؤسسة الرسالة، مؤسسة الرسالة ط2 1407هـ / 1978م.ص95.
2- الماوردي: الأحكام السلطانية، ص95. الفراء: الأحكام السلطانية، ص284.
-3 سورة آل عمران: آية (104).
4- سورة الحج: آية (41).
5- الماوردي الأحكام السلطانية ص250. الفراء الأحكام السلطانية ص296.
6 - سعيد بن سعيد: هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن مناف القرشي الأموي، أسلم قبل فتح مكة، خرج مع الرسول صلى الله عليـــــــه وسلم إلى الطائف واستشهد هناك / التلمســــــــاني الخزاعي: علي بن محمد بن سعود الخزاعي: تخرج الدلالات السمعية على ما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من الحرف والصنائع والمعاملات الشرعية، تحقيق أحمد محمد أبو سلامة، وزارة الأوقـــاف القاهرة 1401 هـ / 1981 م.ص299.عبد الحي الكناني – التراتيب الإدارية ج1 ص285.
7- الطبري تاريخ الأمم والملوك ج1 ص148.
8 -جميل نخلة مدور حضارة الإسلام في دار السلام، ص139.
9- الطبري تاريخ الأمم والملوك ج7ص653.
10- إبراهيم الغافقي الأندلسي، الحديث بغداد ودمشق والرملة والدينور ومصر – عبد القادر بدران: تهذيب تاريخ دمشق، ج2 ص225.
11- الماوردي: الأحكام السلطانية ص255.
12 - الشيزري: نهاية الرتبة في طلب الحسبة، ص22-27.
13- الخوارزمي: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف: مفاتيح العلوم، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة/ ط2/ 1401هـ ص11.
14- سورة لقمان: آية (17).
15- الشيزري: نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص13-14./ الماوردي: الأحكام السلطانية، ص254./ أنور الرفاعي: الإسلام في حضارته ص178.
المصدر : الباحثون العدد 68 شباط 2013