ما من إنسان يعمل في المسرح، أو له صلة بالمسرح، أو لديه ثقافة مسرحية، أو من المثقفين بشكل عام، بل وكثير من عامة الناس، إلا ولديهم معرفة بـ (بريخت)، الذي أصبح مشهوراً على نطاق واسع في العالم أجمع، منذ مطلع القرن العشرين وإلى الآن. وما من كاتب مسرحي عالمي، بعد شكسبير، قد تردد اسمه على ألسنة المسرحيين، والممثلين، والمهتمين بالمسرح، في حواراتهم ونقاشاتهم، مثلما تردد اسم (بريخت). وما من كاتب مسرحي أثار من النقاش والجدل الشيء الكثير، مثلما أثاره (بريخت)، هذا الشخص الذي يعد من أبرز الأعلام في مسيرة المسرح العالمي، والذي كان له تأثير كبير على العملية المسرحية المعاصرة، سواء من حيث النص، أو من حيث العرض المسرحي، وما يتعلق بهما من أمور أخرى.
لم يكن بريخت مجرد كاتب مسرحي عبقري، بل كان ممثلاً، ومخرجاً، وشاعراً، وقاصاً، عمل في المسرح والسينما والتلفزة مؤلفاً وممثلاً وسيناريست وكاتب حوار وغيرها. وكانت له آراؤه، ومنهجه الخاص، في العملية المسرحية من حيث الكتابة والتمثيل والإخراج، حتى عُدّ مدرسة منفردة عن غيرها. ومضاهياً للمخرج المسرحي الروسي الشهير (ستانيسلافسكي). وقد عمل بريخت في كثير من الدول الأوروبية مؤلفاً ومخرجاً وممثلاً، كما عمل في أمريكا وروسيا وعمل الكثير من المسرحيات، ليس مسرحياته فقط، بل ومسرحيات كتاب آخرين معاصرين له. كما أخرج مسرحيات معدلة ومحورة من قبله عن مسرحيات يونانية وشكسبيرية، ومسرحيات تاريخية أخرى. كما كتب المسرحيات الغنائية، والأوبرا، والباليه، حتى أصبح يُصنَّف من الكتاب المسرحيين العالميين ونال الكثير من الجوائز على بعض أعماله من بلده ومن بلدان أخرى.
أما في الوطن العربي فلم يُعرف بريخت إلا بدءاً من ستينات القرن الماضي، ولم تكن معرفته في البداية مباشرة عن الألمانية، وإنما بواسطة ترجمات إنكليزية وفرنسية، أو عن طريق ترجمات ألمانية سيئة. لذلك نتج الكثير من سوء الفهم لآرائه ومبادئه في الإخراج والتمثيل. كما حصل الكثير من الخلاف والإرباك بين رجالات المسرح العربي في عملية التطبيق الإخراجية. فظن بعضهم أن المنهج البريختي هو مخالفة المنهج الأرسطي، أو التوجه في الكلام إلى الجمهور، أو نزول الممثل إلى الصالة، أو استخدام الموسيقى والأغاني والقصائد في العرض المسرحي، أو الإتيان بأشياء غريبة ومدهشة وجديدة على المسرح، أو تحويل العرض المسرحي إلى دروس تعليمية بقصد توعية المشاهدين، وما إلى ذلك. وغاب عنهم أن مسرح بريخت أيديولوجي بشكل أكثر وضوحاً وصراحة من الكثير من المسارح الأخرى. فله موقف من الطبيعة، والعمل، والعنصرية، والفاشية والتاريخ، والحرب، والاستلاب. ومع هذا فهو مسرح الوعي لا الفعل، مسرح التساؤل لا الحل، وجميع مسرحيات بريخت تتضمن دعوة المشاهد إلى البحث عن المخرج، وتكون وسيلته إليه، تحليل رموز مادية العرض بأكمله كي يخلص المشاهد إلى الوعي بحالة عدم الوعي، أي تحقيق وعي الجمهور في الصالة كحالة عدم الوعي التي تسود الشخصيات على المسرح. هذا هو مسرح بريخت. وهذا يفسر لنا كون هذا المسرح عظيم الدلالة، قليل المواعظ.
إن معرفة مسرح بريخت تتطلب ممن يهتم به، أن يلم بمسيرته وبأعماله، وبدراسة آرائه وتجاربه وملاحظاته المسرحية، ومن ثم دراسة منهجه عن خبرة ودراية ووعي، وأن يلم بكل ما يتعلق بالعمل المسرحي. وفيما يلي نستعرض حياته وأعماله بشكل تاريخي (بيبليوغرافي):
بريخت: حياته وأعماله
ولد (أوجين برتولد بريخت) في (10) شباط من عام (1898) في مدينة (أوجسبورغ)، من أب بافاري بروتستاني هو (برتولد فريدريك بريخت). وكان يعمل في معمل للورق في (أوجسبورغ) كموظف مبيعات. وأخذ بالصعود في مركزه إلى أن أصبح مديراً عاماً للمصنع عام (1914). أما أمه (صوفي برتسينغ) فقد كانت ابنة موظف كبير في الغابة السوداء.
والتحق بريخيت بالمدرسة الابتدائية عام (1904) في (فولكسكوله)، ثم أصبح تلميذاً في ثانوية (أوجسبورج) عام (1908) وبقي فيها حتى عام (1916). وقد نشر بريخت ما بين عامي (1913 – 1914) بعض نصوصه الأولى الشعرية والقصصية في مجلة الثانوية، وفي مجلة (أخبار أوجسبورج) باسم مستعار هو (بروتولد أوجين) وبعنوان (أفكار حول عصرنا، والأسطورة الحديثة) وذلك كرد فعل على اندلاع الحرب العالمية الأولى إيجاباً. وفي العامين التاليين تطور موقف بريخت من الحرب نحو مناهضتها، ويكتشف في وقت مبكر جداً بؤس الشعب، ويثور على عالم الغنى والتفاوت الذي يعيش فيه. وفي عام (1917) حصل على الشهادة الثانوية، ثم انتسب إلى كلية الفلسفة، قسم الآداب في جامعة (لويس ماكسيميليان) في (ميونخ). وفي هذه الفترة بدأ يهتم بالمسرح. وكان محباً للكاتب (فيدكيند). وبعدها بعام واحد التحق بجامعة (ميونخ) ليدرس الطب. وفي هذه الأثناء يموت (فيدكيند) فيحزن بريخت عليه كثيراً. وفي عام (1918) سيق بريخت إلى خدمة العلم كممرض في أحد مشافي (أوجسبورج). وفي هذه الفترة كتب قصيدة (أسطورة الجندي الميت) والتي تعبر أصدق تعبير عن عدائه الشديد للحرب. كما كتب النسخة الأولى لمسرحية (بعل). وعاد إلى (ميونخ) عام (1919) وكون صداقات مع بعض الأدباء المعروفين. وسار في صفوف (الحركة السبارتاكية). وفي نفس العام ولد له ابن غير شرعي من (باولا بانهولستر) أسماه (فرانك). وكان يتابع دراسة الطب، ولكن بصورة شكلية. وكتب أثناءها مسرحية (سبارتا كوس)، والتي أسماها فيما بعد (طبول في الليل). كما عمل على كتابة زاوية عن المسرح في جريدة (فولكسفيل)، وهي جريدة اشتراكية يسارية وظل يعمل فيها إلى بداية عام (1921). وكتب خلال ذلك أيضاً (العرس عند البورجوازيين الصغار) و( نور في الظلمات) و(المتسول، أو الكلب الميت) و( التعويذة) و( الربح الوافر). وأيضاً شارك في عروض الكوميدي الألماني الشهير (كارل فالنتين). في عام (1920) قام بريخت برحلة إلى برلين وألف خلال هذه الفترة العديد من القصص لمجلات دورية، كما كتب مسرحية (في غابة المدن) وبعدها، أي في عام (1922)، قُدمت مسرحيته (طبول في الليل) على مسرح (ميونيخ) وقد لاقت نجاحاً باهراً، وتلقى نتيجة ذلك جائزة (كلايست) للأدب.
تزوج بريخت من الممثلة (ماريان تسوف) في العام نفسه، وكتب قصيدته المشهورة (عن المسكين ب. ب). وبدأ بكتابة مسرحية (هانيبال). وفي عام (1923) ولدت زوجته (ما ريان تسوف) ابنة سماها (هانة مريانة). كما قُدمت مسرحياته على بعض المسارح الألمانية. وعمل بريخت (دراما تورغ) في مسرح الحجرة. وأعد بعض النصوص المسرحية، لمؤلفين آخرين مثل (إدوارد الثاني) للمؤلف (مارلو).
واشتهر بريخت ككاتب ومخرج مسرحي بدءاً من عام (1924). وفي هذه السنة ولدت له (هيلين فايجل) ابنه (استيفان). كما كتب مسرحية بعنوان (رجل لرجل). وبدأ بريخت يكتب لكثير من الصحف الألمانية، وينشر فيها قصائد وقصصاً.. وكتب الأعمال التالية: (طيران ليندبيرغ، أهمية التفاهم، النهاية السعيدة، أوبرا الموافق، الإجراء) وفي السنة التالية رزق بابنته الثانية (بربارة) من زوجته (هيلين فايجل)، ثم كتب المسرحيات التالية (القائل نعم، القائل لا، القاعدة والإستثناء، قديسة المسالخ يوهانا، المعارض، الأم) والمسرحية الأخيرة معدة عن رواية لـ (مكسيم جوركي). وفي عام (1932) سافر بريخت إلى روسيا لأول مرة وكتب مسرحية (الرؤوس المستديرة والرؤوس المدببة) وهي معدة عن مسرحية لشكسبير. وفي عام (1933) هرب بريخت مع عائلته إلى سويسسرا. وفي نفس العام عرضت له (باليه الخطايا السبع المميتة) في باريس. وانتقل بعدها إلى (الدانمرك) وهناك كتب مسرحية (الهوراسيون والكوراسيون) وبعض القصائد والأغاني. ثم قام برحلة إلى (إنكلترا وهولندا وروسيا) وبعدها إلى (فرنسا) ثم (أمريكا). وهناك بدأ العمل بمسرحية (رعب وبؤس الرايخ الثالث)، كما كتب بعض الدراسات النظرية عن المسرح. وتوالت عروض مسرحياته في العواصم الأوربية ومنها (بنادق السيدة كارارا، صفقات السيد يوليوس قيصر، حياة غاليليه، إنسان ستشوان الطيب، مه تي: كتاب التحولات).في عام (1939) غادر بريخت إلى (السويد) بسبب خطر الحرب، ثم مات والده بنفس العام. وكتب مسرحيتي (محاكمة لوكولوس، الأم الشجاعة وأولادها). كما نشر مقالاً حول الشعر الحر ومجموعة (قصائد سفيند بورغ). وبعد ذلك بعام انتقل إلى (فنلندا) ثم (النرويج) وبدأ بكتابة (السيد بونتيلا وتابعه ماني) وحوارية (المنفيين). كما نشر مقالاً عن (تقنية جديدة لفن التمثيل). وكتب مسرحية (صعود أرتورو آدي الممكن إيقافه). وغادر بريخت (فنلندا) إلى روسيا ومنها إلى أمريكا حيث استقر فيها. وهناك كتب (رؤى سيمون ماشار) و(شفيك في الحرب العالمية الثانية) كما خطط مشاريع أفلام لـ (هوليود). وبدأ العمل في عام (1943) بأوبرا (رحلات إله الحظ) كما كتب مسرحية (دائرة الطباشير القوقازية) وفي عام (1947) حوكم في (واشنطن) بسبب تصرفاته غير الأمريكية واتهامه بالشيوعية. وقد نفى أنه عضو في الحزب الشيوعي، وسمح له بمغادرة أمريكا، فذهب إلى (سويسرا) وكتب هناك مسرحية (أنتيغون) المعدة عن مسرحية لـ(سوفوكليس) بنفس الاسم. وغادر (سويسرا) إلى (ألمانيا الشرقية)، حيث قسمت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية إلى شرقية وغربية. وفي ألمانيا الشرقية كتب (الأورغانون الصغير للمسرح) وفيه أهم نظرياته عن المسرح، كما كتب مسرحيته (أيام الكمونة). وأسس (البرلينر أمنسامبل) أي فرقة (برلين). ونشر كذلك (أقاصيص التقويم) و(رواية القروش الثلاثة) ومسرحية (معلم القصر). كما أصبح في عام (1950) عضواً في أكاديمية الفنون، بعد تأسيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية.
ومنذ عام (1950) إلى وفاته عمل بريخت بمسرحيتي (توراندوت، ومؤتمر غاسلي الأدمغة) كما أعد (دون جوان) عن (موليير) و( كوريولان) عن (شكسبير) و( طبول وأبواق) عن (فاركار) ومحاكمة (جان دارك) عن (آناسيغرز)، بالإضافة إلى كتاب (مه – تي: كتاب التحولات). وأصبحت فرقة (البرلينر أمنسامبل) أحد أهم المسارح الرائدة في العالم. كما منح جائزة الدولة من الدرجة الأولى عام (1951).
ثم كتب مسرحية (تقرير هرنبورغ)، ونشر مجموعة (مئة قصيدة) و(تربية الذرة) وكتابه الهام (العمل المسرحي).
وفي عام (1954) حصلت فرقته المسرحية في باريس على الجائزة الأولى بمناسبة عرضها لمسرحية (الأم الشجاعة). وبعد عام واحد سافر بريخت إلى (موسكو) لتلقي جائزة (لينين للسلام). كما كتب رواية (معركة الشتاء)، والتي أخرجها كمسرحية عام (1955). وفي العام التالي سافر إلى إيطاليا لحضور عرض مسرحية (أوبرا القروش الثلاثة). وفي الربيع من نفس العام مرض بريخت فاضطر إلى قطع بروفات (حياة غاليليه) ودخل المشفى للعلاج ؛ لكنه عاد إلى المسرح قبل أن يشفى تماماً، فساءت حالته ومات بالسكتة القلبية في (14) تموز من عام (1956). ودفن بالمقبرة المجاورة لمنزله بناء على طلبه. وهكذا انطفأت شعلة هذا العبقري النشيط الذي ملأ دنيا المسرح بمؤلفاته الغزيرة، وبطرق إخراجه الجديدة، وبآرائه وأفكاره ونظرياته المبدعة، والتي جعلت المسرح ينتفض ويقوم بشكل جديد غير مألوف للناس، والذي ترك بصماته في كل عواصم أوربا، بل وفي العالم كله. والذي كان حقاً عبقرياً متعدد الوجوه في شتى نشاطات المسرح والفن والأدب.
بريخت المسرحي
دخل بريخت المسرح الألماني كواحد من المؤلفين المسرحيين الشباب في وقت كان فيه الإخراج المسرحي في دوامة من التجريب. وقد اعترف بريخت بفضل خاص لـ (بيسكاتور) وفكرته عن المسرح الملحمي. فقد عمل الرجلان معاً على مسرح (فولكسبونة) من عام (1919) إلى عام (1930). كما كان بريخت أيضاً مساعداً لـ (رينهارت)، واستطاع مراقبة تدريبات المواسم الكبيرة للأعوام (1924 – 1925) و(1925 – 1926)، وإضافة إلى هذه التأثيرات الكبيرة كان بريخت متأثراً أيضاً بالكاتب (فيدكيند) ثم (بوشنر)، الذي أعيد اكتشافه حديثاً. وخلال هذه الفترة كان بريخت يثقف نفسه بشغف بكل شكل من أشكال التأليف المسرحي الطقسي تمكن من العثور عليه في الدراما الإغريقية، والإليزابيثية، ولم يتمرد بريخت فقط على الأسلوب الممل للواقعية الألمانية مثل الآخرين، بل تمرد كذلك على طريقة (رينهارت) الباروكية وعلى حمى التعبيريين الجدد. لقد كان البطل التعبيري مثالياً، رجلاً برؤية غير مقبولة، شاعراً لكنه بأسوأ حالاته أبله مغرور. إن تحرر بريخت من الوهم دفَعه إلى خرق المثالية التعبيرية. لقد كان بريخت مخرجاً ومؤلفاً مسرحياً يراقب دوماً تجاربه وتجارب الآخرين، فيأخذ عن الآخرين، ويرفض، ويعدل النظرية بالممارسة. يغيّر أفكاره عند تصور واختبار أي عرض جديد. وخلال مهنته، لم يتوقف عن العودة إلى الماضي، وخصوصاً شكسبير، والقرن الثامن عشر، بحثاً عن المادة التي تبدو قابلة للتكيّف مع طريقته، ومناسبة لموضوعاته. لقد أدت محاولاته العديدة من أجل تطبيق أيديولوجية تعليمية، وأحياناً سياسية، على خشبة المسرح، إلى جمالية جديدة هامة للمسرح، نظرية أثبتت من ذلك الحين، أنها مقبولة بشكل كبير بالنسبة للروح المتشككة في عصرنا. وقد وصفه (كارل فيبر) قائلاً: (حاول بريخت أن يقدم في مسرحه وجهة نظر حقيقية عن العالم. لم يحاول طرح صور مذهّبة عن أبطال مزيّفين، ولا أن يعرض صوراً لأرانب منهمكة في قرض الملفوف، إن ما قدم على خشبته كان الشك في الآلهة، الذين هم من صنع البشر. والشك في الأحكام التي هي من صنع البشر، وفي كل ما قيل للإنسان أن يقبله: لقد استخدم بريخت مسرحه كمختبر. فقام بالتجريب على المسرحيات والممثلين. وقد استكشف السلوك الإنساني، والمواقف الإنسانية، والضعف الإنساني، وكل ما يمت للإنسان بصلة، وبحث فيه، وعراه تماماً أمام الجمهور، الذي كان غالباً ما يرفض أن يميز صورته بكل هذا الوضوح، وقد انعكست أحياناً في مرآة ذات إطار متين. إن المعالجة الواقعية للأمور التي كان بريخت يتطلبها من أول ساعة له في المسرح وحتى آخر لحظة، كانت أكثر من مجرد احتجاج رجل مسرح على تقاليد المسرح الفاسدة، فبالنسبة له كانت الخشبة نموذجاً للعالم، العالم الذي نعيش كلنا فيه.).
ويقول عنه البروفسور "بنكا": (لقد كان بريخت في مطلع شبابه فوضوياً. وكان ضد كل شيء. وكتب مسرحياته الأولى (طبول في الليل) و(في أدغال المدن) ليقول للمجتمع وللمسرح البرجوازي على الخصوص كلمته الكبيرة (لا). ولكنه بدأ بالارتداد عن هذا الاتجاه الفوضوي في مسرحياته التي تلت ذلك، وبدأ بالانفكاك عن هذا الموقف، وخاصة عندما بدأ بوضع اللمسات الأولى لنظرية (المسرح الملحمي). فقد كان المسرح الملحمي ضرورة كبيرة كنقيض للمسرح البرجوازي لقد بيّن بريخت وبرر دون لبس مكان وموقع المسرح الدلالي. وأدرك إنه من الممكن تناول العمل المسرحي باصطلاحات معرفية، لا باصطلاحات انفعالية عاطفية، فاختار أن يرى المسرح بشكل عقلاني، رادماً بذلك الهوة الأسطورية بين الإبداع والتفكر، بين الطبيعة والنظام، بين العفوي والعقلاني، بين القلب والعقل. فليس مسرحه بالمسرح المثير للشفقة، ولا هو بالمسرح العقلي. بل هو مسرح يقوم على دعائم منطقية سليمة.
وقرر بريخت أن للأشكال المسرحية مسؤوليات سياسية. فمكان (البروجكتور) الإضاءة، أو قطع مشهد بأغنية، أو رفع لوحة، أو درجة اهتراء رداء، تدل على موقف ما، لا من الفن فحسب، بل من الإنسان ومن العالم. باختصار، فإن مادية العرض، لدى بريخت، ليست مستقاة بأكملها من جمالية أو سيكولوجية العاطفة، بل أيضاً وبشكل رئيسي من تقنية الدلالة.
لقد كان مسرح بريخت الملحمي، مثل مسرح (بيسكاتور)، يرمي تبعاً لذلك إلى بحث سياسي في المجتمع والعناصر الفاعلة فيه، مثل البنية الطبقية، أو النظام الاقتصادي. وكان بريخت يسعى لتقديم مسرحيات تعليمية، وتكون مسلية بقدر ما هي مسرح ناجح. وكان ينظر إلى الدراما باعتبارها تمحيصاً نقدياً للحياة، نقداً كان يجسده بشكل متزايد في بنية مسرحياته وقد ظلت السخرية التهكمية، واجتماع الأضداد، وحتى النهاية، مصدر الحيوية في مسرحه.
إن بريخت، كمؤلف مسرحي، ملتزم، وغزير الإنتاج. وهو مخرج وفيلسوف مسرح، يمثل النموذج البارز في العصر الحديث لفنان المسرح الذي آمن إنه من الضروري لأي جانب من الصناعة المسرحية أن يخضع لإعادة تفكير جذرية منتظمة، وكمبدع لا يستقر في كل الأوقات، ظل يصر على أن حيوية الدراما تعتمد على الاختبار المتواصل، وعلى النقاش والتعديل، كسيرورة لا نهائية. لقد كان رجل المسرح الكامل، وقد شدّ من خلال رؤياه كل مخرج خطَر بباله أن عملية إخراج مسرحية ما هو إلا تحد إبداعي حقيقي في التواصل الدرامي. إن نظرياته عن مسرح منطقي، وسعيه وراء الحيل المتعددة، من أجل تبعيد الخشبة، وتلاعبه بجمهوره، دفعت الدراما الحديثة نحو نوع جديد من الكوميديا، صريحة وذكية، لكنها بالضرورة ليست خالية من العاطفة. وهي أحياناً مؤثرة كمسرح.
المسرح الملحمي
(التغريب): إن المسرح الملحمي، باتجاهه وأفكاره وحرفيته، يعارض المسرح التقليدي، أو الدرامي، أو الأرسطي، كما يسميه بريخت. ويعتمد المسرح الملحمي أساساً على سرد الأحداث لا تجربتها على خشبة المسرح تجربة درامية. وعلى جعل المتفرج مجرد مشاهد يقظ الفاعلية، وعلى مواجهته بقضية تحمله على اتخاذ موقف ثوري ضدها، بعد دراستها وتأملها عقلانياً. وإذا كانت المسرحية الملحمية البريختية مفككة المشاهد، وسردية الطابع، فإن خطرها يكون في مطالبة متفرجيها بتغيير الوضع الاجتماعي والاقتصادي القائم. وقد أراد بريخت تجنّب تكون الوهم في المسرحيات. كما أراد دائماً إثارة المشاهد حتى يطور لنفسه موقفاً نقدياً وتأملاً نقدياً. وكانت وسيلته في هدم وخلق مسافة بين المتفرج وبين العمل المسرحي، هي تقنية أطلق عليها اسم (تأثير التغريب) ويعني به العمل على تغيير المظاهر المعتادة. فكثيراً ما تخللت مسرحياته عناوين جانبية، وأغنيات. كما أن كثيراً من مسرحياته تتكون من مشاهد متفرقة تقع أحداثها في أزمنة مختلفة. وإن وظيفة أثر (التغريب) أن يبرز للنظر شيئاً عادياً، شيئاً جد مألوف بحيث لم يكن يُلحظ، وأن يبرزه على إنه مضيء وجديد. فما كان شيئاً طبيعياً، وما كان جزءاً من رتابة الحياة اليومية، يصبح فجأة هاماً وغريباً، بل و(صادماً) وغير متوقع. ومن شأن ذلك أن يساعد على الحكم عليه، من منظور لم يُعرف من قبل.
وقد أصر بريخت على أن يحتفظ الممثلون بمساحة واعية بينهم وبين الأدوار التي يقومون بتمثيلها. وإذا كان على الممثل أن يقوم بعمله بموضوعية، فيجب أن يتكلم بشيء من التحفظ أو البُعد، أو يعيد عملاً ما ببطء، أو يتوقف ليوضح للجمهور ما كان يقوم به. من خلال هذا السلوك سيخلق الممثل (مؤثر التقريب) المطلوب في المسرح الملحمي. ففي المسرحية التي تبعَّد بهذه الطريقة، ويكون الانتقال بالحدث من التمثيل إلى التعليق، والعكس بالعكس، سمة مميزة وثابتة. ومع تطور النظرية بيَّن بريخت أن على جميع فناني المسرح، من الكاتب وحتى مهندس الإضاءة، أن يتعاونوا لإحداث مؤثر التبعيد، وجعل العرض موضوعياً فعلاً. وقد تقلص تعريف بريخت النهائي للتمثيل الذي يقوم على مؤثر التقريب، ليصبح كما يلي: (التمثيل الذي يغرِّب، هو التمثيل الذي يسمح لنا بمعرفة موضوعه، لكنه في الوقت ذاته يجعله يبدو غير مألوف. ويجب أن يكون كلام الممثل ،حركته، إيماءاته، حقيقية) وهكذا لا ينبغي للممثل أن يتقمص الشخصية التي يمثلها كلياً، وأن يكتفي بإظهارها للمشاهد، وبالتالي لا يندمج المشاهد به عاطفياً بسهولة. ولا ينبغي للممثل أبداً أن يرتعد، ينبغي أن يظل دائماً مالكاً لنفسه. ويجب عرض الحدث وكأنه تجربة، أو بيان عملي. وعلى الخشبة يجب أن يكون الفرق بين الممثل والشخصية التي يقوم بدورها واضحاً دون عناء. وفي هذه الأيام بوسعنا القول إن ممثل بريخت لاعب دور. وقد شرح بريخت الفرق بين المسرح التقليدي (الدرامي) وبين مسرحه السردي بإعطاء المثالين التاليين: (يقول المشاهد في المسرح الدرامي : نعم. هذا ما شعرت به أيضاً. هذا هو أنا. هذا طبيعي. إن عذاب هذا الإنسان يهزني، لأنه لا يجد لنفسه مخرجاً. هذا فن عظيم. كل شيء هنا بديهي. أنا أبكي مع الباكين، وأضحك مع الضاحكين. أما المشاهد في المسرح الملحمي فيقول: أنا لم أكن لأفكر بهذه الطريقة. هذا ليس تصرفاً سليماً. إنه لأمر مثير للانتباه حقاً. إنه أمر لا يصدق. هذه أمور لا بد من أن تنتهي. إن عذاب هذا الإنسان يهزني لأنه يستطيع أن يجد له مخرجاً. هذا فن عظيم. كل شيء ليس بديهياً. فأنا أضحك على الباكين، وأبكي على الضاحكين.)
بريخت الشاعر والقاص
إن بريخت هو بريخت. فهو ككل مؤلف عظيم، لا يمكن أن تكون له سلالة عبقرية. تلك هي أسباب حضور هذا الرجل، الذي منحنا قبل غيره، على نحو واسع ومتعدد، رؤية واقعية للعالم، صافية وإنسانية، لأننا نريد، على حد قوله، أن نهيئ التربة للصداقة. هو الذي وضع الجدلية في قلب غناء (الأم الشجاعة) سواء أبكت ابنتها الميتة أم لا:
ارقدي يا حبيبتي / نامي يا كنزي
عند الجارة يرتفع الصراخ / وعندنا يشيع الدلال
الجميع يتسكعون في حمأة الطين/ وأنت تمضين في الحرير
في ثوب ملاك / أعيد تفصيله من أجلك.
لقد آثر بريخت أن يتعلم المشاهد نفسه من المسرحيات، وليس شخوص المسرحية. والعالم المسرحي لديه يربط مجرى الأحداث مع الأغنيات التي لا تكون وظيفتها مجرد توضيح الحدث والتعليق عليه، بل توضيح الحدث على خشبة المسرح وتفسيره:
انظروا، لم يأت الليل بعد/ ولكن العالم رأى نتائجه
هذا ما جلبته الاستقامة عليه/ سعيد الحظ من لا يملكها.
ورأى بريخت، في وقت مبكر، بؤس الشعب وشقاءه، فثار على عالم الغنى والتفاوت الذي يعيش فيه. لقد جلس بين عمال المسالخ والمصانع، فهتف يقول متأثراً:
لن آكل إلا ما يأكلون/ فإن أعطوهم حفنة ثلج
فسوف آكل ذلك الثلج/ وكذلك سأعمل عملهم
وإذا لم يكن ثمة عمل/ فسأبقى مثلهم بلا عمل.
وهكذا فإن بريخت، باستخدامه الإنساني للغة، يبلغ الشاعرية الإنسانية، وهي شاعرية حادة من غير شك، لكنها مقوية، ومنبهة ومنفتحة على جميع الناس الحسني النية، وعلى جميع الذين ما يزالون يودون سماع كلمات العدل، والسلام، والحقيقة، والطيبة.
أما بريخت، القاص والروائي، فهو لا يختلف عن بريخت المسرحي. فهو يستخدم الملحمية حتى في قصصه ورواياته. فالقصة والمسرحية وجهان لعملة واحدة، هي إثارة وعي القارئ للقصة مثل المشاهد للمسرحية تماماً بمشاكله الاجتماعية، وقضاياه السياسية، واتخاذ موقف واضح منهما.
المصادر والمراجع :
1 – عصور الأدب الألماني – بارباره باومان وبريجيتا أوبرله – ترجمة هبة شريف - سلسلة عالم المعرفة العدد (278) – الكويت – 2002.
2 – الدراما الحديثة – ج. ل. ستيان – ترجمة محمد جمول – وزارة الثقافة – دمشق - 1995.
3 – برتولد بريشت – جاك دي سوشيه – ترجمة صياح جهيم – وزارة الثقافة – دمشق – 1993.
4 – ستانسلافسكي وبريشت – تمارا سورينا – ترجمة ضيف الله مراد – وزارة الثقافة – دمشق 1994.
5 – مقالات نقدية في المسرح – رولان بارت – ترجمة سهى بشور – وزارة الثقافة – دمشق – 1987.
6 – طبيعة الدراما – إبراهيم حمادة – دار المعارف – القاهرة – 1977.
7 – مسرحية أنتيغون – ب. بريشت – ترجمة مشهور مصطفى – إبداعات عالمية (352) – الكويت – 2005.
8 – الحياة المسرحية – العدد (46) عدد خاص عن بريخت ولوركا – وزارة الثقافة – دمشق – 1999.
9 - الحياة المسرحية – العدد (24 - 25) – منهج العمل لدى بريشت – ترجمة نبيل الحفار – وزارة الثقافة – دمشق – 1985.
10 – الحياة المسرحية – العدد (21) – بريشت وتعزيز الشخصية الثقافية والوطنية – ترجمة توفيق الأسدي – وزارة الثقافة – دمشق – 1984.
11 – الحياة المسرحية – العدد (4 – 5) بريشت والذكرى الثمانين لميلاده – وزارة الثقافة – دمشق – 1978.
المصدر : الباحثون العدد 68 شباط 2013