إنها كذلك مهما حاول البعض من الدارسين أو المؤرخين أن يصفوها بقولهم إنها فن. وفي هذا السياق جاء من يقول بأن الحرب هي حقاً فن، بينما قال آخرون إن الحرب خدعة قد تؤدي إلى نصر أو إلى هزيمة. وبالرغم من ذلك تبقى الحرب، في اعتقادنا ساحة مشرّعة للقتل وسفك الدماء، سواء حقق أحد الطرفين أو الأطراف نصراً أو مُني بهزيمة.
في سياق هذه الوقفة مع الحرب كحرب لا شيء آخر، وحتى يخرج بنتيجة تفيد قارئه قد لا يملك أحدنا الخيار إلا أن يقرأ شيئاً عن الحرب هنا وهناك ليتعرف على رأي الآخر حول الحرب فيما إذا كانت ساحة قتال أم فناً بين الفنون. ولا أظن أن ثمة آراءً، في هذا الصدد تحديداً، أكثر شهرة من آراء الزعيم الصيني المعروف "صن تزو" التي أوردها في كتابه "فن الحرب"، علماً بأن "تزو" لم يكن قائداً عسكرياً أو محارباً مخضرماً فحسب، بل كان أيضاً زعيماً سياسياً وفيلسوفاً ومفكراً عظيماً في بلاده. ويقال إنه أول من اخترع "فن الحرب" حوالي عام 500 قبل الميلاد، وإلى ذلك كان أول من أقنع جنوده بأن الحروب ليست مجرد دماء فقط وإنما تفكير وخطط وسوى ذلك مما يندرج تحت بند الخدعة لا الفن.
ويذكر أن كتاب "فن الحرب" حظي بشهرة عالمية في كل العصور وتُرجم إلى كثير من اللغات حتى قال عنه اليابانيون "إن تأثير تزو على الفكر العسكري وبناء الجيش الياباني قد تجاوز إسهامات الشخصيّات العظيمة في تاريخ اليابان قديماً وحديثاً". وفي أوراق التاريخ أيضاً ثمة معلومة تؤكد أن نابليون بونابرت كان لا يكف عن قراءة الكتاب حتى في غمار المعارك. وهذه المعلومة تذكرنا بأن القيادة الأمريكية كانت قد أفادت مما ورد في الكتاب وأبدت حرصها على أن يقرأ جنودها الكتاب خلال الحرب التي شنتها بلادهم على العراق في العام 2003.
إن أهمية الكتاب هنا توضحها آراء لا غنى عن المرور بها ليتبيّن القارئ سبب شهرة الكتاب واعتماده من قبل دول كبرى كفرنسا بونابرت وأمريكا بوش وقبل ذلك الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت الذي قارب عدد مرات قراءته للكتاب المئة.
وفي الآونة الأخيرة، في سياق إشارة المفكر المصري أنور عبد الملك في إحدى مقالاته، وصف "صن تزو" بأنه أستاذ أساتذة الفكر الاستراتيجي العالمي. وكانت حجته في ذلك عودته إلى عدد من آراء وردت في الكتاب، نقتبس منها، على سبيل المثال الآتي:
1- عندما يقع الناس في خطر يصبحون قادرين على الكفاح من أجل النصر.
2- أنْ تحقق مئة نصر في مئة معركة ليس قمة المهارة، أنْ تخضع عدوك دون قتال فتلك هي قمة المهارة.
3- إذا كنت تجهل عدوك ونفسك فتأكد أنك في خطر.
4- تظاهر بالنقص وشجع غطرسة عدوك.
5- قدّر جندك كما لو كانوا أطفالك وسيتبعونك إلى أعمق الوديان. انظر إليهم كما لو كانوا أبناءك المحبوبين وسيقفون إلى جانبك حتى الموت.
6- القائد الذي يتقدم غير راغب بالشهرة وينسحب دون خشية للعار وينصبُّ فكره فقط على حماية بلده هو جوهر المملكة.
7- جودة القرار بمثابة الانقضاض الجيد التوقيت بالنسبة لصقر يمكنه توجيه الضربة وتحطيم الضحية.
8- لم يسبق أن كانت هناك حرب طويلة استفاد منها أي بلد.
إن ما اخترته من آراء "تزو" هو غيض من فيض، ومع ذلك فإن الإمعان في كل رأي من الآراء التي اخترتها، كمجرد أمثلة، تستدعي التوقف عنده واستخلاص ما يفيد المعنيين في ظرف خطر يمر به بلد من بلدان العالم، كحالة تفرض نفسها على هذا الطرف أو ذاك، وذلك على نحو ما تعيشه سورية هذه الأيام.
ففي قوله مثلاً: " قدّر جندك كما لو كانوا أطفالك.. " تزاح، ولا أقول تُختصر، بل تزاح كافة المسافات التي تبعد الإنسان عن الإنسان لا القائد عن جنده ولا الرؤساء عن مرؤوسيهم، وبذلك يزداد تلاحم القائد مع جنده كما بين المواطن والمواطن، وبذلك تتشكل بيئة صحيّة يشعر كل من هؤلاء بأن دفاعهم عن أنفسهم دفاع عن وجودهم لا عن أرضهم وتاريخهم فقط.
وفي قوله "إن كنت تجهل عدوك ونفسك فتأكد أنك في خطر" ماذا يستخلص المتتبع لما يحدث في سورية حالياً على سبيل المثال، سوى وجوب عدم استهانة أحدنا بقدرة العدو ومحاولاته المتكررة لإحداث ثغرة في بنياننا الوطني بغية تمزيق الوحدة الوطنية وخلق كانتونات نفسية إن صح التعبير بين أبناء الوطن الواحد، سواء على مستوى المعتقد أو الجنس أو الانتماء وسوى ذلك؟
ولا أعتقد أن قارئ الآراء التي سبق أن أشرت إليها، لا أعتقد أنها بحاجة إلى قراءة تحليلية وما شابه ذلك، لأن وضوح معانيها تجعلها لزوم ما يلزم لا لزوم ما لا يلزم، في زمن التآمر على بلدنا سورية. وحين يشار في الكتاب إلى إنه لم يسبق أن كانت هناك حرب طويلة استفاد منها أي بلد، نقدّر قيمة هذه الرؤية من خلال عودتنا إلى كتب التاريخ، قديماً وحديثاً في آن. ومن الأمثلة التي يمكننا الإشارة إليها وقائع الحربين العالميتين الأولى والثانية وتبعاتهما على الأرض : دماراً وقتلاً وتشريداً واستباحةً لكل ما تنأى عنه كتب الأخلاق منذ الأزل وحتى اليوم.
من هذا المنطلق، ومع إيماننا بأن فرصة تأمين أنفسنا ضد الهزيمة في أيدينا، فإن فرصة هزم العدو يقدمها العدو نفسه على حد قول " تزو" في كتابه "فن الحرب". وفي هذا السياق أيضاً يمكننا القول بأن كتاب " تزو" قد يستحق هذا الوصف لأن مواجهة العدو في أي معركة، لا بدّ أن تستند إلى دراية بالإمكانيات الذاتية لدولة المواجهة قبل كل شيء وكذلك وجوب الدراية بالإمكانيات الذاتية لدولة العدوان. ومن جملة الإمكانيات التي سبق أن أشير إليها مرات في كتابات المختصين بالشؤون العسكرية في سورية وخارجها تحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو. وفي سورية كانت الدعوة للعمل على تحقيق هكذا توازن وتفهّم المعنيين أن المسألة لا تتعلق بدبابة مقابل دبابة أو طائرة مقابل طائرة أو صاروخ مقابل صاروخ وسوى ذلك، بل تتعلق بعالم مقابل عالم، بباحث مقابل باحث، بمبدع مقابل مبدع وهكذا، أي أنها تتعلق بتوازن الطاقات الكامنة في الإنسان، أياً كان موقعه في بلده، وجعلها في خدمة هدف مخطط الوصول إليه بأسرع وقت وبأقل خسارة.
ومع ذلك فإن الحرب هي الحرب، لأنها كما النابض إذا ما أُفلت من يد حامله لم يعد سهلاً تطويعه لإرادته بسهولة. كذلك هي الحرب حين تبدأ، لا يستطيع أحد أن يتنبأ كيف ومتى تنتهي، وقد تبدأ بفعل شرارة ولكنها تنتهي بما لا يمكن أن يتصوره إنسان، على صعيد المآسي التي لا توصف، حتى بالنسبة لمطلق الشرارة.
لهذا الاعتبار نعيد القول بأن الحرب هي الحرب، وتبقى عبارة الفن تخص وسيلة التعامل معها بغية تحقيق النصر وهزم العدو. ومن الوسائل التي استخدمت بالأمس البعيد نسبياً حرب العصابات التي أتقنها الثوار الفيتناميون كما هو معروف، وطرد الغزاة الأمريكيين من أراضيهم. وهي إحدى الوسائل التي نراها ممكنة في أي مكان وفي أي زمان، هذا فضلاً عن وسائل أخرى قد تلجأ إليها القوى الكبرى في العالم لإيذاء القوى الأضعف بحرمان شعوبها من مستلزمات معيشتها اليومية على غرار ما تواجهه سورية اليوم وهذه الوسائل وإن لم توصف بأنها وجه من وجوه الحرب المعلنة فهي حرب بكل معنى الكلمة. فالحرب حرب مهما كان وصف الآخرين لها.
المصدر : الباحثون العدد 68 شباط 2013