تعد ملحمة جلجامش الرافدية، أهم وأكمل عمل إبداعي أسطوري شعري، كتبت سطوره منذ العهد السومري في المرحلة الواقعة بين (2750و2350) قبل الميلاد عن الملك جلجامش الذي عاش في مدينة أوروك «الوركاء» الواقعة في وادي الرافدين على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وقد تشكلت حول شخصه باقة من الحكايات الأسطورية والبطولية، التي تسرد أخبار أعماله الخارقة، وسعيه المستميت إلى معرفة سر الحياة الخالدة.
لقد تطورت هذه الملحمة في إبداعات شعرية كُتبت على الرقم الكتابية المسمارية منذ العهد السومري، ثم تلتها محاولات في العهود الأكادية والحثية والبابلية والحورية، وكان ظهورها بشكل كامل في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، وهي الصيغة التي كشفتها أعمال التنقيب الأثري من مكتبة قصر الملك «آشور بانيبال» في مكتبة نينوى.
لقد كتب عن هذه الملحمة دراسات لا تعد ولا تحصى، وأُشبعت نقداً وتمحيصاً ومعالجة، ومع ذلك مازلنا نتابع بين الحين والآخر دراسات جديدة عنها، ونقرأ روايات وقصص ومعالجات إبداعية مستمدة من وحيها، وأعتقد أن السّر في هذا الاهتمام والإعجاب يعود إلى أن هذه الملحمة مازالت متلفَّعة بغطاء الخيال، ومعتمرة طاقية الأسطورة، وتشخّص واقع الإنسان ومشكلاته الأبدية، التي يتمحور حولها السؤال الأزلي: ما الغاية من الحياة؟! ولماذا نموت بعد أن جئنا إلى ساحة الحياة ومشينا في دروبها ؟! وهذه الأسئلة لا إجابة قاطعة حولها.. الأدب الحقيقي هو الذي يعالج ما يعجز عنه العلم، ويواجه أزمات الإنسان النفسية، ويداوي آلامه، ويضيء آماله.. من هنا يمكننا أن نعرف سر هذا الاهتمام العالمي بملحمة جلجامش التي تحلّق بنا في فضاءات بعيدة عن الواقع المأساوي، إلى عالم مثالي زاخر بالخير والحق والجمال...
لقد مزجت هذه الملحمة الحقيقي بالأسطوري، والواقع بالخيال، وكانت واقعيتها مزخرفة بالحكمة، وخيالها متسربل بالرمزية.. هي واقعية من حيث تناول الإنسان حياة وموتاً، وهي رمزية لأن أحداثها المفرطة ذات دلالات عميقة، وأسطورتها ذات مرامٍ بعيدة، حول هذه الفكرة يقول الدكتور علي القاسمي: «جَزَعُ جلجامش بعد موت صديقه الحميم أنكيدو، هو شعور ينتاب كل إنسان لدى فقدان عزيز عليه.. أما إطاحة جلجامش للأسوار الحصينة، ونزاله مع الثور السماوي الهائج، وصراعه مع الجنّي «خمبابا» الذي اعترض طريقه في غابة الأرز، إنمّا ترمز إلى هدم الإنسان للحواجز التي تعيق تواصله مع أخيه الإنسان، وإلى الصراع بين الخير والشر».
تشكل النصوص الكتابية التي اكتشفت عن جلجامش، في مراحل زمنية مختلفة، مجموعة من الأعمال التي حددت في مايلي:
1- ملحمة جلجامش وأجا: التي تعكس ظاهرة الصراع على السلطة السياسية بين دويلات المدن السومرية، إذ يبدو من سير الأحداث أن مدينة «كيش» التي قامت فيها أول سلالة حاكمة بعد الطوفان، كانت ترى في مدينة أوروك «الوركاء» منافساً شديداً لها على السلطة، وبخاصة في زمن ملكها «جلجامش» ولذلك أرسل «أجا» ملك كيش إنذاراً إلى جلجامش يطلب منه الاستسلام، وإلا فإنه يتحمّل العواقب كافة، وفي مقدمتها الهجوم على أوروك «الوركاء» التي عسكرَ عند مشارفها، وبالرغم من أن جلجامش كان مصمماً على المقاومة وعدم الانصياع، فقد كان الموقف يستلزم الرجوع إلى مواطنيه لأخذ مشورتهم فبل اتخاذ أي قرار نهائي، فعرض الأمر على مجلس الشيوخ مذكراً إياهم بوجوب عدم الاستسلام لمطالب ملك «كيش» وضرورة حمل السلاح والمقاومة، لكن الشيوخ خذلوه وفضلوا الاستسلام على حمل السلاح... عندئذٍ التجأ جلجامش إلى مجلس «رجال المدينة» الذي يضم رجال المدينة من المحاربين، وكان جوابهم واضحاً صريحاً:
((لا تذعن لبيت كيش، واضربه بالسلاح
إن مدينة الوركاء من صنع يـد الآلهة
ومـعبد «أي-أنا» النازل من السماء
الآلهـة العظيمة هي التي صنعت أجزاءه
وهاهي أسوارها العظيمة تلامس الغيوم))
لقد سرّ جلجامش كثيراً بما سمعه من رجاله، وتذكر القصة السومرية أن جلجامش أطل بوجهه من على سور المدينة ليلقي نظرة فاحصة على جيش خصمه «أجا» فلما رآه الجند أبهرهم سنا طلعته فدب في صفوفهم الذعر واستولى عليهم الهلع، فنهضوا مذعورين وولوا الأدبار وهم يتمرغون في التراب.
2- جلجامش وأرض الحياة: محتواها يمثّل ملخصاً لما هو معروف من تفاصيل ورد ذكرها في «ملحمة جلجامش البابلية» عن مغامرات البطل في غابات الأرز.. وفي هذه القصة نجد جلجامش قد عقد العزم على القيام برحلة إلى «أرض الحياة» البعيدة لقطع أشجارها الشهيرة ونقلها إلى مدينة الوركاء، فنصحه رفيقه «أنكيدو» بأن يعرض الأمر على الإله «أوتو» لأنه المسؤول عن «أرض الحياة» ويبدو أن الإله «أوتو» لم يكن واثقاً من قدرات جلجامش على إنجاز تلك الرحلة الخطرة، ولكن نزولاً عند إصرار جلجامش، فقد أشفق عليه ووعده بأن يسخر له«عفاريت الجو السبعة» الذين لولا تدخله، لعطلوا الرحلة وأحاطوها بأخطار جسيمة.
يذكر النص أن جلجامش قد فرح فرحاً شديداً بموافقة الإله «أوتو» واختار لمرافقته خمسين من خيرة رجاله، وسار الجميع إلى «أرض الحياة» بعد أن تزودوا بما يحتاجون من مؤونة وسلاح وقد قطع جلجامش مسافات طويلة عبَر خلالها سبعة جبال، حتى وصل إلى مشارف غابة الأرز، فأخذ يقطع أشجارها، يساعده في ذلك رفيقه أنكيدو، فيما أخذ بقية الرجال يجمعون الأشجار المقطوعة ويكدسون بعضها فوق بعض، ولما علم «خواوا» بذلك استطاع بقدرته الخارقة أن ينزل سباتاً على جلجامش، فجعله يغط في نوم عميق استغرق مدة طويلة، ولما أفاق من غيبوبته، واستعاد وعيه، أقسم بأمه الآلهة وبأبيه البطل المقدس «لوغال بندا» إنه لن يعود إلى مدينة الوركاء إلاّ بعد أن يقضي على الوحش «خواوا» الذي كان يراقب جلجامش ورجاله عن بعد، وبالرغم من محاولاته المتكررة إخافة جلجامش وإدخال الرعب إلى قلبه إلا أن جلجامش بقي صامداً، ثابت الجنان، وتنتهي القصة بغلبة جلجامش وذبح الوحش «خواوا» على يد أنكيدو، ثم عودة الجميع إلى الوركاء، ومعهم رأس الوحش، ويبدو أن الإله إنليل كان غاضباً لمقتل «خواوا» إلى حد أنه أنزل اللعنة بالبطل جلجامش ورفيقه أنكيدو، ولكن جلجامش بادر إلى درء شرور اللعنة بمنحه «سبعة أشعة» يعرف كل منها في السومرية بكلمة «ميلام» حسب دراسة الدكتور فاضل عبد الواحد علي، علماً بأن مدلول الخاتمة لهذه القصة مازال غامضاً حتى الآن..
3- جلجامش وأنكيدو والعالم السفلي: تبدأ هذه القصة الملحمية بالحديث عن مسألة خلق الكون، بفصل السماء عن الأرض، ثم خلق الإنسان بعد ذلك، وصراع إله المياه السومري «أنكي» مع العالم الأسفل الذي تجسّد في هيئة تنين، وبعد ذلك يدخل الشاعر في تفاصيل القصة، فيتحدث عن شجرة اسمها «خولوبو» لعلها شجرة الصفصاف، التي كانت تنبت في قديم الزمان على ضفاف نهر الفرات، وذات يوم هبّت ريح الجنوب فاقتلعتها من جذورها وقطعت «تاجها» وحملها النهر بعيداً في مياهه، وبينما كانت الشجرة تتجول على ضفاف الفرات، فانتشلتها من النهر «إنانا» العذراء الضحوك، وقررت زرعها مجدداً في بستانها المثمر، على أمل أن تكبر فتصنع منها عرشاً تجلس عليه، وسريراً تنام فيه، ونمت الشجرة لكن جذعها لم يورق لأن «الأفعى» بنت عشها في جذورها، وعلى رأسها وضع الطائر «انذو» صغاره وفي وسطها بنت «ليليت» العفريتة بيتها، فذهبت الإلهة إنانا إلى أخيها إله الشمس «أوتو» وأخبرته بما حصل، وطلبت منه أن يخلصها من أولئك الدخلاء الأشرار، لكن أخاها «أوتو» لم يستجب لندائها، فلاذت بالبطل جلجامش الذي هبّ على الفور لنجدتها، وهجم على الأفعى عند أسفل الشجرة وقتلها، فلما رأى الطائر «أنذو» ما حل بها فرّ هارباً إلى الجبال، ومثله فعلت العفريتة «ليليت» إذ هدمت بيتها وفرّت إلى القفار البعيدة، وبعد ذلك استطاع جلجامش ورجاله أن يقطعوا الشجرة ويقدموها إلى الإلهة إنانا، واعترافاً منها بالجميل، تقوم إنانا بإهداء جلجامش طبلاً وعصا لدقّه، ويبدو أنه أسرف في استعمالها، فأثقل على كاهل مواطنيه من رجال الوركاء، وبسبب صرخات النسوة سقط الطبل والعصا من يد جلجامش في أعماق العالم السفلي، فجلس حزيناً، واستعان برفيقه أنكيدو، الذي لم يتردد في النزول إلى عالم الأموات لاسترداد الطبل والعصا، ويبدو أنه كان على أنكيدو أشياء كثيرة يجب تجنبها، ولكنه لم يلتزم بها، فتمكنت منه «صرخة العالم السفلي» ولم يستطع الإفلات منها، والعودة إلى دنيا الأحياء، وقد حاول جلجامش إنقاذه وتخليصه من قبضة العالم السفلي من خلال وساطة وتدخل بعض الآلهة، ولكن مساعيه باءت بالفشل، وكل ما استطاع إله الحكمة «أنكي» فعله أن يحدث فتحة في العالم الأسفل ليخرج من خلالها شيخ «أنكيدو» إلى الأرض، وذلك كل ما تبقى منه، وعندئذ تعانق الاثنان، وراح جلجامش يسأل رفيقه عما رأى في ذلك العالم المخيف، عالم الأموات.
4- موت جلجامش: يفهم من بقايا هذه القصة، أن على جلجامش ألا يعقد الآمال للحصول على حياة أبدية، لأن الإله «إنليل» (أبو الآلهة) لم يقدر لجلجامش الخلود، ولكنه قدر له بدلاً من ذلك الملوكية والرفعة والشجاعة والبأس في المعارك، ويلي ذلك الإشارة إلى موت جلجامش وقيامه بتقديم القرابين والهدايا إلى عدد من الآلهة، ويظهر في نهاية القصة استحالة حصول البطل جلجامش على الخلود رغم قوته ومآثره الفذّة، وهذه النهاية وُظّفت بشكل مباشر في الملحمة البابلية لتصبح الأساسية المعروفة التي تؤكد على نفاذ قضاء الآلهة بوجوب موت الإنسان، وأن الخلود للفعل والعمل الصالح.
يقول العالم «سبايزر» في تعليقه على طبيعة ملحمة جلجامش: إن ملحمة جلجامش تتعامل مع أشياء من عالمنا الدينوي مثل الإنسان والطبيعة، والحب والمغامرة، والصداقة والحرب.. وقد أمكن مزجها جميعاً ببراعة متناهية لتكون خلفية لموضوع الملحمة الرئيسي ألا وهو «حقيقة الموت المطلقة».. إن الكفاح الشديد لبطل الملحمة من أجل تغيير مصيره المحتوم، عن طريق معرفة سر الخلود، من رجل الطوفان، ينتهي بالفشل في نهاية الأمر، ولكن مع ذلك الفشل يأتي شعور هادئ بالاستسلام، ولأول مرة في تاريخ العالم، نجد تجربة عميقة بهذا المستوى البطولي بأسلوب شعري رفيع، وهذا ما جعلها تنال إعجاب الناس في كل العصور، والأزمنة، لذلك وجدت أجزاء منها في أماكن عديدة خارج بلاد الرافدين، وتم ترجمتها إلى لغات كثيرة، ولاحظ الباحثون أن تأثيراتها وجدت في ملحمتي «هوميروس» (الإلياذة والأوديسا)، وهناك من قارب «اكيليس» بطل الإلياذة ورفيقه باتروكليس بالبطل جلجامش ورفيقه أنكيدو.
في دراسة للدكتور علي القاسمي عن «عودة جلجامش» يرى أن ملحمة جلجامش تصدت لثلاث قضايا هي: الحياة والحب والموت..
ولنبدأ من النهاية بالموت، لأن النهاية ليست أقل شأناً من البداية.. إن موت أنكيدو جعل صديقه جلجامش يتيه في بيداء الحزن والأسى والوحدة... لقد انغمس جلجامش في تفكيره الحزين عن الكيفية التي يمكن للإنسان أن يتخلّص بها من الموت ليبقى مخلداً كالآلهة، لو كان الإنسان قد توصل إلى ذلك لما مات صديقه انكيدو، ولما ارتعب خوفاً من الموت المرتقب، ولهذا كله ينطلق جلجامش في رحلة الأهوال والمخاطر للحصول على نبتة الحياة في أغوار المحيطات.
يقطع جلجامش أصقاع الأهوال والبراري، ويعبر مياه الموت ويغوص في أعماق المحيط، ويحصل على تلك النبتة.. نبتة الخلود، ليحملها إلى أرض أوروك «الوركاء» ويقوم بزراعتها ويكثرها، لينالها جميع أهالي المدينة، والنبتة هنا، هي رمز الحياة، رمز المعرفة، معرفة سر الخلود، ولكن جلجامش يفقد النبتة، وهو في طريقه إلى الوطن، فقد ابتلعتها الأفعى عندما كان جلجامش نائماً، وعندما أفاق من نومه، لم يرَ سوى أفعى تنساب إلى جحرها بنشاط متجدد مخلفة وراءها جلدها القديم بعد أن نزعته، وهنا يعتصر الأسى قلب جلجامش، ويتوقف في حانة على الطريق ليشرب حتى الثمالة والدموع تنهمر من عينيه فترأف صاحبة الحانة لحاله، وتطلب منه أن يغتنم الحياة الآفلة ويتمتع بالصبح مادام فيه، ولكن جلجامش يقرر أن يفعل شيئاً يخلّد ذكره وفكره، إن لم يستطع أن يخلّد جسمه وشكله، فيعود إلى مدينته الوركاء، ويقوم بإرساء قواعد العدل في البلاد، وينشر المدارس والتعليم بين العباد، فالمعرفة تهب الحياة معنى ومذاقاً متجددين.
للاستزادة يمكن الرجوع إلى المصادر التالية: