الزمن: إنه غريب جداً، لكنه بالغ الألفة إن استشعارنا للمكان يتجاوز ثلاثمئة مليون ضعف تحسسنا للزمن. قد يُعزى ذلك إلى أننا ندرك الأحداث ولا نستطيع تجريب الزمن، هل يعني ما تقدم أن الزمن لغة تذهنية تنجح في خلق علاقة مع الأحداث، هذا ما يذهب إليه الفيزيائيون المعاصرون، ما هو الحدث في الفيزياء؟ تبدو الحوادث شواخصاً على الطريق الزمني، ينطوي رصد الحدث على سبر أحداث جزئية كثيرة.
على سبيل المثال وليس الحصر: حركة العين وحركة اليد وسلوك جهاز الاختبار وتهيئة ظروف التجربة وسواها، هل تحدد الأحداث الزمن أم أن الزمن يهيئ للأحداث.
كيف تُعنى الفيزياء بالمستقبل! يستخدم الفيزيائيون نظرية الاحتمال في الفيزياء الإحصائية كما في الميكانيك الكوانتي، أما في الكهرمغنطيسية فيمكن للموجة أن تنطلق إلى الماضي وإلى المستقبل على حد سواء، ليس بمقدورنا أن نجعل من المادة مرجعاً لأن الفيزياء الحديثة تختزل المادة إلى الفراغ.
وكانت البوذية قد طرحت أفكاراً مماثلة، يحتل مبدأ السببية موقع الصدارة في العلم، إذا كان السبب يسبق النتيجة زمنياً ويقررها، وإن كانت النتيجة لا تتخلق إلا عبر هذا السبب، إذن تقرر النتيجة بدورها سببها، ينطبق ذلك على حالة الأسباب المتعددة، بذا يتحول مبدأ السببية إلى مقولة ميتافيزيائية، تستخدم الفيزياء الشكلانية الصورية للزمن بتوظيفها متغيراً رياضياً في المعادلات يُطلق عليه اسم الزمن بهدف ترجمة الانتظام الظاهر في الطبيعة إلى قوانين.
أما الزمن المعنوي فتحجم الفيزياء عن معاجلته على أي حال عندما نؤثر في حدث عند اللحظة الراهنة (إن كان ذلك صحيحاً) فإنما نبدل الزمن والمستقبل بل ولربما الماضي، لابد من أن نذكّر بأن العالم لا يصبح عالماً والحدث لا يصبح حدثاً بدون الزمن.
نقرأ في أدبيات الفيزياء عن مفهوم المجال: هناك المجال الكهرمغنطيسي والمجال الثقالي وسواهما.
إن تواجد نمط مادي في موضع يقضي بالضرورة انتشار الآثار الفاعلة للنمط في المحيط حوله. إنه المجال الذي ينطوي على فعل الاتصالية والاستمرارية الزمنية، تنتفي ضرورة المجال في الفيزياء إن حاولنا تجاهل مبدأ السببية باعتباره مقولة ميتافيزيائية كما أشرنا للتو.
تتناول الفيزياء بالبحث ظاهرية الأحداث، أما لدى صياغة القوانين فلا توظف الفيزياء البنى الرياضية التي تعنى بالسمة الظاهرية للوجود، إننا نرى العالم بسمته الظاهرية عبر المنظور لذا يلتقي خطا سكة حديد عند الأفق، تدرس الهندسة الإسقاطية المكانية الأحوال الظاهرية بنجاعة، يلزم لتحقيق الاتساق في هذه الهندسة إضافة نقطة عند اللانهاية.
نظراً لأن المكان والزمان من جبلّة واحدة ويتحقق التماس معهما عبر الحدود الظاهرية وحسب، فَلِم لا نلجأ لهندسة إسقاطية زمنية مماثلة، إذّاك نضطر للقبول بوجود نقطة زمنية لا نهائية، نواجه هنا مفارقة، لو حاولنا أن ننطلق من الآن نحو النقطة الزمنية اللانهائية عبر سلسلة لحظات متتالية: 1 2 3 4 ..
وهكذا لما بلغناها، كذا أمر الانحدار من النقطة الزمنية اللانهائية عند الأزل صوب لحظة الآن، إنه أمر مستحيل، بدوره رأى أينشتاين في المكان والزمن نمطين من أنماط الإلهام الذي لا ينفصل عن الإدراك.
عود إلى المجال، إن الفعل عن بعد بدون مجال هو فعل لا سببي، يستند الفعل في هذه الحالة إلى انتشار جسيمات متماثلة لا تمييز بينها، يسقط مبدأ الفعل ورد الفعل على هامش اللاتمييز المذكور.
في هذه الحالة يؤثر الماضي وكذلك المستقبل في لحظة الآن، إن الراصد في الكون محلي في مكانه وزمنه: هذا هو معنى السببية، على العكس يتحول الكون إلى محل إجمالي بدون السببية، على أي حال، إن المحلي يُملى من مجمل الكون، ترتكز نظرية النسبية على مفهوم محلية العالم، يرى الراصد المحلي نفس القوانين الفيزيائية مهما كان موضعه، في النسبية الخاصة يقع الراصد عند رأس مخروطين يتحدان بهذا الرأس.
يمثل أحد المخروطين الأحداث التي تقع في ماضي الراصد، بينما يمثل الآخر الأحداث التالية في مستقبله، يرتبط الراصد بالأحداث الماضية والمستقبلية عبر الأسباب.
أما الأحداث الواقعة خارج المخروطين فإنها تعدم أي ارتباط بالراصد وتوصف بأنها منفصلة عنه سببياً، في النسبية الخاصة يرى كل راصد زمن أي راصد آخر وقد تباطأ.
أما في النسبية العامة فإن الزمن يتباطأ في جوار الكتل الكبيرة، هكذا يتباطأ الزمن في جوار الشمس بمعدلات تفوق تباطؤه في جوار الأرض، يترتب على ذلك أن يكون بعد الأرض عن الشمس أكبر من بعد الشمس عن الأرض، إن مخروطي النسبية أزليان أبديان، أما حدود المخروطين فهي "الآن" وهي وفق ذلك آن أزلية أبدية.
يدفعنا التشوق إلى بحث موضوع الزمن والتأمل بكل الظواهر، وكما قال المتنبي: وكثير من السؤال اشتياق وكثير من رده تعليل وطالما أن الحديث عن التأمل، نتأمل التساؤل التالي الذي يتمخض عن سبر وجودي عميق: "أوليس الأفضل هو ذاك الذي لم يدلف إلى الوجود، إنه أفضل ممن حضر إلى الكون".
هل تتحدد الذات الفردية أي الأنا بمجمل خصائص، وهل تساعد الخصائص في تحسس الزمن ورصد كيفيته وامتداده، يرتبط النضوج والكبَر ببناء المفاهيم والفرضيات والتحول إلى الأفعال الطقسية كتبني التوقيت كمبدأ للحياة اليومية، هل يتوسع الذهن إذ ذاك للإحاطة بالعالم أم أن العالم ينبثق ويتفتق إزاء الوعي والذهن، فالعالم، وفق يوجين ويغنر أحد أئمة الميكانيك الكوانتي، هيولي عديم الهيئة تتحدد تفاصيله تلبية للوعي لدى ارتطامه بذلك الوعي.
هل يؤدي مبدأ الرضا مع اللازمنية إلى ولادة الزمن الذاتي، إن هناك أنماطاً من ذوات زمنية: الذات المتحسسة- الذات المفكرة- الذات المستشعرة- الذات البدهية المبدعة، لا نجد هنا حيزاً للذات الاقتصادية التي تجد في الزمن منفعة اقتصادية ومردوداً مالياً.
قد تتغير مواصفات الذات وإيقاعاتها الزمنية حسب الفصول، هل الموت هو نهاية الزمن أم لعلّه لا زمن، هل تستطيع الذات تأجيل الموت بانتظار وقوعات هامة، لا يتواجد الزمن إلا باشتراط الذات وتتغير خصائصه حسب الحالة النفسية للذات، فالذات هي الرابط غير المرئي لبنيوية محسوسة كشأن الزمن تماماً، فهل الذات هي الزمن؟ تختلف اللحظات الزمنية الذاتية: لحظة ملتقطة- لحظة معاشة (كما أشار الكاتب الكبير دوستويفسكي: أوليست الحياة لحظة بكاملها من سعادة خالصة)- لحظة خام غير ناجزة- لحظة متوقعة- لحظة متشوقة- لحظة منتظرة، ما هي الذاكرة: هل هي زمنية: هل يُحدد الراصد بتتالي ذكرياته، هل الدماغ بهذا المعنى آلة للزمن تمكن العقل من التجول عبر الزمن لاسيما وأن الدماغ هو حامل العقل؟.
لا نستطيع بالتوقيت والبرمجة أن نسيطر على الزمن.
نطرح لإيضاح الطابع الضيق للتوقيت المثال التالي:
نفرض مجرتين على بعد ستين مليون سنة ضوئية إحداهما عن الأخرى، السنة الضوئية هي وحدة لقياس المسافات الكونية وتساوي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة زمنية كاملة مرتحلاً بسرعته المعهودة: ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية، تكافئ السنة الضوئية حوالي عشرة مليون مليون كيلو متراً، كما نفرض أن انفجاراً لنجم هائل وقع في المجرة الأولى ويتفق العلماء على كوكب منتمٍ لهذه المجرة على اعتبار الانفجار المذكور بداية تقويمهم.
بعد عشرة ملايين سنة يحدث انفجار مماثل في المجرة الثانية يعتبر من قبل علماء على كوكب من هذه المجرة أنه بداية التقويم، يصل وميض الانفجار من المجرة الأولى إلى الثانية بعد ستين مليون سنة ويؤرخ علماء المجرة الثانية لهذا الحدث على أنه وقع في السنة "خمسين مليون" بينما كان علماء المجرة الأولى قد ثبتوا وقوعه في السنة "صفر" وفق تقويمهم، بشكل مناظر يحدد علماء المجرة الأولى الانفجار في المجرة الثانية على أنه وقع في السنة "سبعين مليون" بينما كان علماء المجرة الثانية قد اعتبروه بداية التقويم، نستنتج تبعاً لذلك أن مسألة التوقيت والتقويم هي مسألة نسبية صرفة قد نحسبها ذات طبيعة مطلقة بسبب توترات الحياة اليومية.
تصور نيوتن إمكانية وجود المكان والزمن بلا مادة، لكنه أكد على حقيقة أن لا مادة بلا مكان وزمن، ثبّت أينشتاين بدوره هذه الحقيقة: لا مادة بلا مكان وزمن، لكنه عكس المقولة فغدت: لا مكان ولا زمن بلا مادة، نجري في هذه السياق القياس التالي: من المتفق عليه أن النفس لا توجد بلا زمن، بدورنا نؤكد أن الزمن لا يوجد بلا نفس، ألا يوجد طابع زمني للنفس وطابع نفسي للزمن: زمن التوقع طويل، أما الفترة السعيدة فهي بالغة القصر.
لابد من أن نضع الزمن في المقام الأول، ذلك أنني عندما أتحرك أبلغ مكاناً ككل الأمكنة، وكأنني أتحرك إلى لا مكان بينما يتقدم زمني بإضافة لحظة تالية لم تكن أبداً، إن الحلم تخيلي ذلك أن الاستيقاظ يلغيه، كذا شأن المكان: إنه تخيلي، فلو تحركت إلى موضع أستطيع إلغاء الحركة بالعودة نحو نقطة الانطلاق، أما الزمن فهو حقيقي، إن التيار الزمني مفروض علينا بمعنى من المعاني: هكذا نتقدم بالسن وننحدر صوب الموت، إن وجدت جسيمات بمقدورها تجاوز سرعة الضوء، تفيدنا الفيزياء في هذه الحالة أن مكان تلك الجسيمات يكون حقيقياً، بينما زمنها يكون تخيلياً.
المراجع:
1- peter coveney and roger highfield:
The arrow of time: ballantine books: 1990.
2- james trefil: the edge of the unknown: hovghton Mifflin: 1996.
3- n.v. efimov: higher geometry: mir publishers Moscow: 1980.
4- v.a. vgarov special theory of relativety: mir publishers Moscow:1979.
المصدر : الباحثون 35 - أيار 2010