الكتابة هي رموز خطية بها تصان الأفكار والمعلومات، فهي إذن وسيلة صيانة ووسيلة اتصال، وهي أيضاً وسيلة من وسائل التعبير أسوة بالحركة والكلام.
ولقد شهدت بلاد الرافدين موطن أقدم طريقة للتدوين في القسم الجنوبي منها.
ويعتبر اختراع الكتابة من أعظم المبتكرات الحضارية في تاريخ البشرية، فهي الوسيلة التي نقلت المجتمعات القديمة من ظلام عصور ما قبل التاريخ إلى عصور فجر التاريخ، وعرف السومريون الكتابة لأول مرة في التاريخ، وكانت المدرسة السومرية ثمرة اكتشاف الكتابة وتطورها، وقد ظهرت هذه الوسيلة على شكل صور ورموز ومن ثم مقاطع في الحضارات الأولى للإنسان كالحضارة السومرية في الكتابة المسمارية وفي حضارة مصر القديمة بالكتابة الهيروغليفية، ولتصبح فيما بعد حروفاً هجائية عند الكنعانيين والفينيقيين فعمَّ استعمالها في أكثر مناطق العالم القديم تحضراً.
وانتقلت الكتابة بالحروف الهجائية إلى الآراميين وأخذ الأنباط خطهم من الآراميين. ثم أخذ عرب الحجاز خطهم من الأنباط: وجاء الإسلام وفي قريش من يقرأ ويكتب.
وفي ظل الإسلام اهتم الرسول الأعظم محمد (ص) بأمر الكتابة وأدرك قيمتها لتكون عوناً عظيماً في نشر الدعوة الإسلامية ويعدّ الخط العربي جزءاً من التراث الحي للأمة العربية والإسلامية.
والخط العربي من أهم الفنون التي ورثناها عن الأجداد، ويعد الهوية الفنية لها.
ويرتبط فن الخط العربي بلغتنا: فهو الأداة الناطقة لها، وبالخط العربي دوّن أئمة الفكر العربي والإسلامي تراثنا المجيد بمؤلفاتهم.
ولا نظن أمة من الأمم تداولت الكتابة وعنيت بها، فجعلت منها فناً دقيقاً مفصل القواعد ثابت الأسس مقرَّر الضوابط مثل أمة العرب.
بعد الخط فن الكتابة
هذا هو هدف الكتابة وغاياتها ومعناها الدفين فالعلاقات الكتابية لا تؤدي وظيفة كتابة اللغة وحسب وإنما هي إعمال فنية.
وفن الخط يستطيع أن يعبر بالخطوط المتوازنة ,أرفع وأعمق ما يهز قلب الإنسان من فرح، أو حزن، أو يأس، ذلك هو السحر الذي يسعدنا به الخطاط.
وفن الخط هو أولاً وأخيراً فن الكتابات البديعة والجميلة، وفن الخط يعبر عما تعبر عنة الفنون الأخرى، كالموسيقى مثلاً.. فالموسيقي (يعزف لحناً رائعاً) والخطاط يكتب (نصاً بديعاً) وفن الخط: بصياغته المتفردة لخطوطه الرئيسية والفرعية في وحدة متناغمة منسجمة.. كما يؤلف الموسيقي ألحانه أنغاماً، وهكذا يضع فن الخط بخطوطه أنغاماً متداخلة متعانقة تثير في المُشاهد الإعجاب والحماسة.
وعلى الرغم من هذا الطابع الروحاني الفكري لفن الخط، فلا يجوز إغفال طابعه المادي.. فما زال التجار يفاخرون باستخدام محاسن الخط في الدعاية لسلعهم.
الخط ملكة إبداعية
الخط العربي هو الفن الإبداعي الذي توج الحضارة العربية والحضارات الإسلامية الأخرى، وهو مختلف عن الخطوط الأخرى، ويمتاز عنها، في تجاوزه لمهمته الأولى وهي نقل المعنى، إلى مهمة جمالية أصبحت غاية بذاتها، وهكذا أصبح الخط العربي فناء مستقلاً، ولقد أجمع الكتّاب والمؤلفون في الشرق والغرب على أن الخط العربي فن إبداعي لم ينل عند أمة من الأمم. أو حضارة من الحضارات ما ناله عند العرب والمسلمين من العناية به والتفنن فيه، فاتخذوه أولاً وسيلة للمعرفة ونقل الأفكار، ثم ألبسوه لباساً قدسياً عندما جعلوه مجوداً جميلاً بكتابة آيات القرآن الكريم.
يقول إخوان الصفا في رسائلهم:
( إن أجود الخطوط وأصح الكتابات، وأحسن المؤلفات ما كان مقادير حروفها لبعضها من بعض على (النسبة الأفضل). ولأن الخط ملكة إبداعية، فلقد تنوعت أشكاله حسب اجتهادات وابتكارات كبار الفنانين الخطاطين مثل المحرر وابن مقلة وابن البواب والمستعصمي وغيرهم من الخطاطين المبدعين الذين رسخوا الخط بأنواعه وأشكاله وجعلوا له قيمة جمالية مستقلة وتعمقوا بأسراها وفلسفتها، فكانت قواعد منشورة ورسائل مكتوبة لكبار الخطاطين وقد تضمنت هذه الرسائل آراء ومفردات كثيرة خاصة بفن الخط.
الخط العربي إعجاز في الإجادة والإبداع
لم تتجلَّ عبقرية الفنان العربي والمسلم في ناحية من نواحي الفن بقدر ما تجلت في الخط الذي اتخذ منه عنصراً زخرفياً ابتكره ذهنه الخلاق وابتدع هذا الفنان العنصر الزخرفي، فأتقن الابتداع وابتكره فأجاد وأحسن الابتكار، ولم يتبوأ الخط العربي تلك المكانة في الفن طفرة واحدة، بل أخذ سبيله إليها مرحلة بعد مرحلة حتى وصل أوج النضوج وتمشياً مع سنة التطور والارتقاء، أخذ الفنان يدرك ما في الحروف العربية مما يصلح لأن يكون أساساً لزخارف ما كاد يرسمها حتى بعثت في نفسه شعوراً من ارتياح المتفنن إلى أثره الجميل.
في الخط العربي قيم جمالية ترتبط بقيم عقائدية
ولقد احتلت الكتابة العربية منزلة عظيمة ومكانة كبيرة عند العرب والمسلمين تتقرب من التقديس، فقد ارتبطت الكتابة روحياً بقدسية (القرآن الكريم).
ولعل أول مظهر من مظاهر الفن والجمال التي عنى بها العرب بعد إسلامهم كان في تجميل الخط وتجويد آيات القرآن الكريم.
والخط العربي عنصر من العناصر التي استعملها الخطاط العربي والمسلم في موضوعاته فقد كان التبرك بكتابة الآيات القرآنية أمراً لا يكاد يخلو منه عمل فني في مسجد أو منارة في الأقطار العربية والإسلامية في أرجاء المعمورة نظراً لخصائص الخط التي تتيح له التعبير عن قيم جمالية ترتبط بقيم عقائدية تجعله متميزاً عن أي عرض إنتاجي آخر.
وفي الخط العربي بالذات تسمو قيمة الشكل بقيمة المضمون حيث, يكتسب الشكل في التكوين الفني قيمته المتعالية والمتسامية من " تعالي" وسموِّ المضامين البليغة والخالدة التي اتجه الخط العربي ولا يزال إلى التجويد الفني السامي في التعبير البصري عنها عبر أداء خط الآيات القرآنية والمقولات السديدة والبليغة وروائع الأعمال الأدبية ولذلك يحاول الخطاطون تأكيد دورهم التاريخي في تقديم الخط العربي تقديماً مبدعاً يزاوج بين أصولية الخط التراثية الملتزمة وبين الاتجاه التجريدي في الفن التشكيلي الحديث.
المفهوم الجمالي أو الفني في الخط العربي
يمكن تعريف الخط العربي على أنه فن رسم صور الحروف الهجائية والتعبير عن الشكل والمضمون بأصول وقواعد هندسية زخرفية تشكيلية.
ويعد الخط نوعاً من أنواع الفنون التشكيلية وبخاصة عندما يحلق في مجال التكوين الفني للكلمات المكتوبة.
والخط يعد أيضاً ضرباً من ضروب الفنون التشكيلية التي لها دور في بلورة الانفعالات والارتقاء بالرؤية الجمالية.
ولقد شاع استخدام الحرف في الفن الحديث في لوحات الفنانين التشكيليين المعاصرين، لتحقيق مناخ زاخر بالإمكانيات الرمزية والزخرفية في آن واحد وهذا يضيف إلى الفن بعداً جديداً.
تناغم الحروف العربية في اللوحة التشكيلية
يعد فن الخط جزءاً من التراث للأمة العربية وهو من أهم الفنون الجميله التي ورثناها عن الأجداد ويعد الهوية الفنية الخالصة لها.
ويرتبط الخط بلغتنا وتطورها الثقافي ويرجع إليه الفضل في تماسك العرب ووحدتهم، وبالخط حفظ تراثهم وعن طريقه سجل هذا التراث وحفظ من الضياع وبفضله عرف العالم ما شارك به الفكر العربي في بناء الحضارة الإنسانية وإن فن الخط في الحقيقة هو فن الدقة والإبداع دون منازع.
الاتزان والتناسب في بنية الحروف العربية
يعد الخط مظهراً من مظاهر جمال الفنون العربية وقد تبارى الكتاب في تحسينه والتفنن في زخرفة حروفه لأن الفنان العربي والمسلم وجد فيها المرونة والمطاوعة وفن الخط يقبل التماشي من شكل جميل إلى شكل أجمل ومن حسن إلى أحسن وباتساق جمالي.
ولقد عنيت بغداد بتجويد الخط العربي والتفنن بتراكيبه وهذبت أوضاعه وظل الخطاطون فيها محافظين على قواعد الخط وأصوله.
والخطاط البغدادي (ابن مقلة) بلغ بالخط مرتبة عالية ونبغ نبوغاً عظيماً, وهو الذي وضع القواعد المهمة في تطوير الخط العربي وقياس أبعاده وأوضاعه.
ونسب ابن مقلة جميع الحروف إلى الألف التي اتخذها مقياساً أساسياً ،ويعد ابن مقلة الوزير المهندس الأول للخط المنسوب فقد أوجد طريقة للكتابة قررت للخط معايير يضبط بها وهو الذي رأى في تجويده وتصحيحه أن يجري على نسبة فاضلة.
معنى الفن
الفن عامل أساسي في الإنسان، فالفن والإنسان لا يفترقان فلا فن بلا إنسان ولا إنسان بلا فن، ودافع الفن في الإنسان قديم قدم الإنسان، لذلك نراه يتعقب بزوغ فجر الفنون ويوضحها بالصورة واللحن والمسرحية والأدب لأنه نتيجة مهارة وإتقان, فالفن على مختلف ألوانه وأشكاله معين فياض لا ينضب يغذي أعلام المجتمع وثقافة البشر، ويحقق أمل الإنسان الذي ينشده من صور الحياة والطبيعة
والفن في مختلف صوره ما هو إلا نوع من التعبير عن الطبقات في العقل بما يحتويه من رغبات ونزعات مختلفة قد أصابها الكبت والحرمان فلم تجد مجالا للإشباع في الحياة اليومية فتحولت في حياة الفنان إلى شعر ونثر ورسم أو رقص أو موسيقي، والفن يمتاز بقيمته الوجدانية الفائقة وهذه القيمة مشتقة من ارتباطه بالوجدانيات العميقة للفنان ونبوغه فيها، والفن هو حركة الذات الإنسانية في المجتمع بوسائل اللفظ واللون والنغم والحركة والشكل وبالوسائل المختلفة، والفن تعبير عن كل جميل وتعبير خالص عن جوهر الإنسان وذاته الإنسانية.
عناصر الفن والقيم التشكيلية
لا يخلو أي عمل فني تشكيلي من بعض العناصر التشكيلية وهي: الخط والمساحة واللون والظل والنور وملامس السطوح والحيز.
وأن علاقة هذه العناصر بعضها بالبعض الآخر، وما تشتمل علية من إيقاع..هي التي تعطي للعمل الفني صفة الجمال, ذلك لأن الطبيعية نفسها لا تخلو من هذه العناصر وبروز بعضها في أشياء الطبيعية هو الذي يعطيها جمالها الذاتي، وهي تخضع لقانون إلهي رياضي في تكوينها.
ولنأخذ فن الخط مثلاً باعتباره أحد العناصر الأساسية في فنون الكتاب أو المخطوطات وربما يكون عنصراً ذا أهمية بارزة فيها حيث يخضع فن الخط بلا شك للقيم التشكيلية السائدة في الوسط الفني، وعلى هذا الأساس فإن العناصر المتميزة فنياً للتكوين في الخط العربي هي عناصر تشكيلية خطية تأخذ هويتها الفنية من خصوصية النظام الخطي وأصوله وقواعده بالدرجة الأساس.
مفهوم الإبداع وخصائصه
ارتبط مفهوم الإبداع بالأعمال الخارقة التي تقترن بالغموض وتستعصي على التفسير حتى من قبل أولئك الذين أتوا بها.
والإبداع مفهوم من مفاهيم علم النفس المعروف يضم سمات استعدادية معرفية وخصائص انفعالية تتفاعل مع متغيرات بيئية لتثمر ناتجاً اعتيادياً تتقبله جماعة في عصر ما لفائدة أو تلبية لحاجة قائمة.
وقد عرَّف الباحثون الإبداع. وكل باحث له نظرة خاصة في هذا المضمار وهذه التعاريف كثيرة ومتنوعة منها: الإبداع إنتاج شيء ما على أن يكون هذا الشيء جديداً في صياغته. والإبداع قدرة الفرد على إعطاء الأفكار الجديدة والنادرة واكتشافها واستعمالها.
نحو تربية جمالية سليمة
تحرص المجتمعات المتطورة على تربية أجيالها تربية جمالية رصينة انطلاقاً من الأهمية الكبرى التي تنطوي عليها في خلق جيل جديد واع مستنير يمكنه التفاعل مع الحياة وإدراك مظهرها الجمالي عبر ذوق فني إنساني رفيع.
يقول (بيكون): الفن هو الإنسان مضافاً إلى الطبيعة، لذلك فالفن يتغلغل في الحياة بكل تفاصيلها ويمثل النزعة الإنسانية في التعبير عن كوامن الإنسان الشعورية والعاطفية والحسية كنشاط خلاق يصب في عالم الأخلاق والخير والجمال فلو تصورنا الحياة بغير لمسة فن وبدون مسحة جمال فأي حياة تكون حياتنا؟ وأي شي حينئذ يمتعنا ويبهجنا ويدخل النشوة والسرور إلى نفوسنا؟
إن لتذوق الجمال والقدرة على الاستجابة للمؤثرات الجمالية استجابة تجعل المشاعر الإنسانية تهتز لها ونستمتع بها ونعيش بها فالتذوق إذن يمثل نبضات التفاعل بيننا وبين الحياة وإدراك علاقاتها بنوع من الوعي والفهم والحس الجمالي في كل ما نرى أو نسمع أو ندرك, وكل تذوق تصحبه متعة، والإنسان الحي هو الذي تتحول حياته إلى تذوق ومتعة ولا يفوته موقف إلا وعالجه بحس الفنان وحكمة الفيلسوف وتأمل العالم فيضفي على خبرته حيوية وقيمة دائمة.
والعمل الفني مهما اختلفت تعريفاته وتفسيراته هو في النهاية تجسيد لإثارة أو انفعال وترجمة لخبرة يمرّ بها بأسلوب يتوفر فيه البحث عن علاقات بين عناصره سواء كانت لفظاً أم لوناً أم خطاً أم نفخاً أم حركة أم شكلاً في صيغ جمالية لها وحدتها وطابعها المميز.
الحرف العربي عنصر تشكيلي
إن جميع الأشكال الفنية المتطورة في الحضارة العربية والإسلامية هي تعبير واع عن نظرة الفنان العربي المسلم عبر الفن من زخرفة أو عمارة أو رسم أو أية فنون صناعية وزخرفية أخرى.
وتعتبر ممارسة الحرف عموماً في التشكيل الفني محاولة للعودة إلى القيم الحقيقية في الفن وذلك بعد أن حققت النزعة التجريدية آخر أشكال التطور الفني الذي بدأه فنان العصر الحديث من حيث إنجاز حريته في مجال تكوين العلاقات الموضوعية للعمل الفني واكتشاف بعض الفنانين العرب والمسلمين إمكانية الكتابة العربية لتصبح من جديد ينبوعاً لإلهام تشكيل رائع، وإن الحرف أو مجموعة الحروف (الكلمة) يمكنها أن تعطي ولادة لتوليفات تشكيلية ممتازة.
فالتعبير بالحرف إذن هو في صلبه محاولة مشروعة أو تطور تاريخي للفن تخطى الواقع السطحي ذي البعدين كمناخ طبيعي للعمل الفني.
ولقد استعمل الحرف في كثير من الأعمال الفنية عنصراً من عناصر التشكيل في اللوحة أو المنحوتة أو أي عمل وقد وجدنا ذلك في أعمال الفنانين العراقيين منهم شاكر حسن آل سعيد وجميل حمودي والدكتور قتيبه الشيخ نوري والفنان فائق حسن وجواد سليم ومحمد غني حكمت ومديحه عمر وغيرهم.
وشاهدنا الحرف يستخدم في التعبير في أساليب متنوعة في أعمال الفنانين العرب في كافة الأقطار العربية. ولقد ظهر الحرفيون (والمقصود بالحرفيين هم الرسامون الذين جعلوا من الحرف العربي منبعاً لإلهامهم وموضوعاً شكلياً للوحاتهم. ونستطيع أن نرصد ظهور الحرفيون في البلاد العربية ابتداء من منتصف الخمسينات: في المغرب وتونس ومصر وسورية والعراق وغيرها.
وكانت محاولات متفرقة في البداية لكنها لم تلبث أن أصبحت اتجاهاً عاماً شائعاًَ عند الكثيرين في السبعينات إلى حد أنها اتخذت شكلاً منظما في العراق عندما قام عدد من الفنانين الحرفيين بإقامة معرض لأعمالهم في بغداد تحت اسم (الفن يستلهم الحرف) وأطلقوا على أنفسهم (جماعة البعد الواحد) وطبعوا كتباً عرضوا فيها وجهة نظرهم في هذا المجال وقد أثارت هذه الكتب العديد من المناقشات على صفحات الصحف العراقية وغيرها من البلدان العربية.
المصدر : الباحثون 35 - أيار 2010