بتوجيه من السيد الرئيس بشار الأسد، رئيس الجمهورية، قام وفد برئاسة السيد فيصل مقداد، نائب وزير الخارجية، وعضوية عدد من معاوني الوزراء ومدراء بعض المؤسسات والمديريات ذات الطابع الاقتصادي والتجاري والصناعي، وعدد من الفعاليات الاقتصادية والصناعية، بزيارة رسمية إلى الجمهورية الإسلامية الموريتانية بين (19 و22) من شهر نيسان الماضي، وكان هدف الزيارة تعزيز العلاقات في مختلف المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية والثقافية والصناعية والإعلامية والتربوية والتعليمية.
زيارة موريتانيا الشقيقة فتحت المجال لنا للتعرف على جوانب مهمة من تاريخ وحضارة وثقافة وفنون هذا الشعب العربي الذي يحرص كل الحرص على الحفاظ على مورثاته الثقافية وعروبته المتجذرة في عمق التاريخ، في بلد مساحته أكثر من (مليون كيلو متراً مربعاً) وعدد سكانه نحو ثلاثة ملايين نسمة، وعاصمته (انواكشوط) التي تطل على المحيط الأطلسي، ويصل عدد سكانها نحو (مليون نسمة) وفق التقديرات الأخيرة، وكانت قبل خمسين سنة أو أكثر بقليل، مجرد تجمّع بشري بسيط، وصفت بأنها «ملتقى الرياح» الرملية، وأصبحت محل التقاء البحر والرياح الحارة، وبوتقة انصهرت فيها ثقافات تعيش جنباً في تناغم تام، يجسّد وحدة التنوّع في غاية الثراء، إنها مدينة تنظر بحزم وثقة إلى المستقبل الواعد.
زيارتنا إلى انواكشوط كانت قصيرة، ولكنها حافلة بالنشاطات التي تعكس الرغبة السورية في تعميق العلاقات مع إخواننا الموريتانيين، الذين لمسنا منهم كل الحب والتفاهم والتقدير لدور سورية الحضاري في لمِّ شمل العرب والمسلمين والدفاع عن آمال وحقوق وعروبة الأمة العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، وزيارتنا إلى المتحف الوطني الموريتاني في انواكشوط، فتحت أمامنا فرصة للتعرف على تاريخ وحضارة هذا البلد، منذ عصور ما قبل التاريخ، مروراً بحضارات المدن التي مرّت عليه، في مراحل مختلفة، وصولاً إلى صناعاته التقليدية وحياته المعيشيّة البسيطة، التي يمكن حصرها في الرعي وتربية الإبل والأغنام والماعز وصيد الأسماك، والتي يمكن استخلاص العبر منها، للمساعدة في مواجهة المستقبل بصورة أكثر فعالية، وإصرار على بناء الوطن وتطويره وتقدمه.
لقد ولدت انواكشوط مع ولادة موريتانيا المستقلّة عن الاستعمار الفرنسي، وقد تطورت من مركز صغير «معزول كالجزيرة الضائعة في المحيط» وكان عدد سكانها سنة 1970 نحو 8000 نسمة، وأصبحت الآن تضم أكثر من مليون نسمة، وتمتد على مسافة 28 كم من الشمال إلى الجنوب، و24 كم من الشرق إلى الغرب، وقد خلّف هذا النمو السريع، هجرات ريفيّة كبيرة لم تستطع الوسائل المادّية والبشرية للمدينة والدولة مواجهتها في مجالات الصحة والسكن والنقل والتعليم والخدمات العامة.. وهذا ما أدى إلى انتشار الأحياء الشعبية الفوضوية، التي أصبحت سمة مميزة لأكثر العواصم العربية التي شهدت في العقود الزمنية الأخيرة اتساعات غير مدروسة، وهامشيات لا حدود لها.
وهذا ما ترك أثره على انواكشوط التي لا تتسم بأي وحدة أو تناسق أو هوية عمرانية، فلا يوجد فيها شيء من النماذج التقليدية التي لا تزال قائمة في المدن التاريخية العربية، ولا حتى شنقيط، أو «ولاية» وهذا يحمّل القائمين على إدارتها وأمانتها مسؤوليات كبيرة.
أصل انواكشوط
ذُكرت في كتاب «50 عاماً من التحدي» الذي صدر بمناسبة المعرض الذي أقامته وزارة الثقافة والشباب والرياضة الموريتانية بين (13 شباط و5 آذار 2006) أربعة نصوص باللغة (البربرية) تشير إلى اشتقاقات أصل اسم انواكشوط على النحو التالي:
1- إذا كانت الطبقة المحتوية على الماء من بئر تحتوي أصدافاً، فإنها تسمى (أكشط) ومنها «أن أكشط» بمعنى المكان، الذي يوجد فيه «أكشط» التي حرّفت إلى «أنوكشط» التي أصبحت «انواكشط».
2- يقول محمد ولد أحمد يوره: أن «انواكشط» مشتقة من «كشط» بمعنى «دون آذان» أو «ذو الآذان المسدودة» وهي صفة يوصف بها الكثيب الذي أسس عليه مركز «كوبولاني».
3- لفظة «أكشذ» تعني نبتة ذات زهور صليبية تكثر في نواحي العاصمة، وهي مرعى جيد للإبل والماعز، وانواكشوط، ربما تكون تصحيف «حساني» لكلمة «ان أكشذ».
4- يقول حرس ثكنة «إنواكشوط» أن اسم مركزهم مشتق من لفظة «أنشوط» بمعنى «الهبوب» إشارة إلى الرياح التي تعصف بشدة في المنطقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه أي من هذه النصوص أو الاشتقاقات يمكن اعتمادها؟! في المناقشات التي تمت حول الموضوع من قبل «سينيت أكسوبيري» في المركز الثقافي الفرنسي في انواكشوط، يمكن القول: النص الرابع يمكن إلغائه وصرف النظر عنه رغم شيوعه لأنه لا علاقة له بانواكشوط، أما النصوص الثلاثة الأخرى، فالأول أهمها، ولا غرابة في ذلك إذا علمنا مدى انتشار الأسماء المأخوذة من أسس الآبار في المنطقة، فإن الطبقة المحتوية على الماء الطينية المالحة تسمى «غمش» ومنها سبخة «انر غمشة» شمال العاصمة، وإذا كانت الأرض صلبة وذات حجارة، فإنها تدعى «أجيني» ومنها اسم «انو إجلال» بالحسّانية، وهي البئر الواقعة على مسافة 20 كم شمال شرقي انواكشوط، وعليه يكون شرح انواكشوط: «المكان الذي إذا حفرت فيه بئر ظهر الماء في مستوى تكثر فيه الأصداف».
ولكن جريدة القلم الموريتانية لها رأي آخر، تقول في عددها الصادر عام 2000 «21 - 30 أيلول» رقم 292: «لا شيء يجري في انواكشوط فالمعنى الاشتقاقي اللفظة انواكشوط في لغة (أزناغة) مشتق من (أن واكشط) بمعنى بدون آذان، أو من قطعت آذانه» وأن قطع الآذان عادة كانت منتشرة لوشم الحيوانات، وكان الحيوان المقطوع الأذنين يوصف بأنه «انواكشوض» وكانت التسمية كذلك تنطبق على بئر بلا ركائز لحمل البكرة.
والطريف في التسميات ما قاله حبيب ولد محفوظ مؤسس جريدة القلم :«ما إن ولدت انواكشوط حتى أطلق اسمها على طابع من العصر الجيولوجي الإفريقي (انواكشوطي) الذي يمثل فترة بحرية تجاوزيّة، تشاهد بمحاذاة شواطئ السنغال وموريتانيا، وتتميز بهضبة بحرية يبلغ معدل ارتفاع رواسبها القصوى (5,3) أمتار، والسيماء المعهودة لهذه الفترة هي رمال بيضاء دقيقة تمثل تحول رمال كثبان ترسبت سابقاً، والحيوانات كثيرة وبخاصة في الشواطئ الرملية، والعمر المطلق لهذا الراسب 3000 سنة قبل الميلاد.
أما ما تقوله الجغرافية، فالأمر يختلف عند «آن مري أفريرو» الأستاذة في جامعة «تورسنين» في نواكشوط:
بعد خمس سنوات من إنشائها، توسعت انواكشوط بصورة فوضوية، ونشأت المخيمات على مشارفها، وأصبحت فيما بعد مساكن وأكواخاً من اللبن بالنسبة لأحسن القوم حالاً، ولم يتردد القادة آنذاك من إدانة «جرح البداوة» والإشادة بالتمدّن الذي يبدو ضرورياً من أجل ولوج التاريخ والدخول في الحداثة.
أما الباحث «أرميل شوبلين» فيقول: ما هي انواكشوط ؟ هي مدينة تعددّية يمكن ويتعين النظر إليها من زوايا متعددة، هي نقطة تلاقٍ بين البيض والسود، ونقطة تماس بين الصحراء والساحل، ونقطة اتصال بين المغرب وإفريقيا السمراء، ونتيجة لتمدّن محموم أصبحت مساحة يصعب تحديدها، إنها بيت عنكبوت لا يزال يمدد خيوطه، انواكشوط إقليم المحولين الذين يستثمرون فيه ويحتلونه، إقليم تكتنفه رمزية الحكم، وهي في الأخير الحيّز المكاني للمتمدنين الجدد الذين تؤويهم تحت ضغط الجفاف الذي يضرب الصحراء بصورة دائمة.
انواكشوط تتدرج في إقليم بدوي، إنها عاصمة فضاء متحرك بجوهره، إنها مرجع لشعب متنقل، مواد البناء بسيطة ومحدودة أساسها رمال البحر والصدف والجبس والتراب، وعندما بنيت كان هدف الحكومة الأول تشجير المدينة لحمايتها من الرياح والرمال، وتم غرس أشجار «بروزوبيس» على شكل حزامين شمال وشرق المدينة، وجنوبها أحيطت بسور من «البروزبيس» الممزوجة بأنواع أخرى من الأشجار.
كيف تطورت انواكشوط
لقد ظهرت الأبنية الأولى مع إطلالة عيد الاستقلال الوطني في (28 نوفمبر - تشرين الثاني 1960) وقد خصصت هذه البنايات لسكن الموظفين والمدعوين للاحتفال، وبعد ذلك جذب الجفاف الشديد العديد من الريفيين والبدو لسكن المدينة، فكانت سياسة المساعدة العاجلة (توفير السبل المائية - المواد الغذائية - إنشاء مقاطعات جديدة لتقريب الإدارة من السكان المنكوبين).
في الفترة الواقعة بين (1970-1975) تم اتخاذ إجراءات عديدة لإعطاء معنى حقيقي لاستقلال موريتانيا، مع إيجاد دبلوماسية نشطة كانت تتضمن مراجعة الاتفاقيات الموقعة مع فرنسا، وإنشاء العملة الوطنية (أوقية) وتأميم الثروات الوطنية (نحاس- ذهب- فضة- بترول- فوسفات- ثروات سمكية)، كانت انواكشوط، كما قلنا سابقاً مدينة صغيرة جداً، وتوسّعت وامتدت أطرافها، ولكنها لا تزال تحتاج لكثير من التنظيم والعناية والرعاية والاهتمام، الشارع الأول (شارع الكثيب) بني سنة 1959، والمطعم الأول افتتح سنة 1958، في مكان متواضع (مطعم غومين جيروم) ثم جاءت السينما بعد ذلك بقليل، كانت هناك سينما الصحراء في القصر، ثم جاءت سينما العاصمة، قرب فندق الهدى، ومع ذلك كانت المدينة مصممة على الحياة والتطور، فتم بناء المطار والمستشفى العام في سنة 1963، ثم مرفأ انواكشوط لاستيراد التموين والمواد الغذائية، لقد تطورت المدينة بصورة كبيرة جداً، ولكن بصورة فوضوية جداً، لم تُحترم الخطط العمرانية، كانت في التصاميم مساحات خضراء كبيرة ومطارح فيها بساتين ولكن كل ذلك لم يتحقق، مشكلة المياه، مشكلة كبيرة، عندما تم اختيار انواكشوط كموقع عاصمة، لأن بحيرة «إديني» كانت قريبة، وهي بحيرة تتجدد من السنغال، وكان من المفروض حسب الدراسات التي أجريت، أن تزود مدينة نواكشوط بالمياه، بافتراض أن سكانها سوف يكونون 200 ألف نسمة خلال الخمسين سنة القادمة، وعلى هذا الأساس وضعت أجهزة الضخ الأولى، ولكن التوقعات كانت مغايرة، فنسبة الأمطار التي كانت تتراوح بين (150-200) مم سنوياً هبطت سنة 1972 مع الجفاف، ونسبة الهجرة السكانية كانت أعلى بكثير مما توقعت الدراسات، الجفاف جعل الرعاة يتخلّصون من مواشيهم ويأتون إلى المدينة، لم يعد في إمكانهم البقاء في البادية بسبب نقص الأمطار، كان الناس يأملون أن يجدوا ما يعملون به، كانوا يأتون بإخوانهم وأمهاتهم وأعمامهم وخالاتهم وهكذا كان الجميع يتمركز في انواكشوط.
كانت المؤن تُجلب بالطائرة من «داكار» عاصمة السنغال، لذلك فقد أصبحت عادة استقبال الطائرة كل أسبوع، حدثاً مهماً ينتظره الجميع، وبما أن المدينة في الستينات وحتى السبعينات، كانت صغيرة ولا توجد فيها سيارات، فقد كانت التنقلات تتم سيراً على الأقدام، وجاء الجفاف ليقلب كل شيء مع النزوح الكبير لسكان الداخل ونشأة الأحياء الشعبية الأولى، فتسارعت سلبيات التخلّف، وبما أن الثقافة البدوية لا تزال ماثلة، وأن قواعد العمران كانت بعيدة عن الأفكار والعقليات، فقد أصبح كل إنسان يفعل ما يشاء دون قواعد، وانطلق سباق محموم للحصول على رقعة أرض صغيرة، لينصب فيها كوخاً، أو ليشيد فيها دارا ً صغيرة كيفما اتفق دون أية ضوابط أو حرمة لشوارع أو أرصفة.
ثقافة أهل موريتانيا
يقال إن موريتانيا هي بلد المليون شاعر، وعندما يحتك الإنسان بأهلها يجد أن هذا القول ليس غريباً عن هذا الشعب العربي العريق الممتّع بالرقة والأريحية والطيبة والنبل والكرامة، وهم بالفعل يحفظون الشعر العربي بكل ألوانه، ويقومون بنظمه بأساليب مختلفة، ومواضيعه ذات طابع حداثي، ومنحى رومانسي، رمزي، ولكنه ظل وفياً للغنائية العربية وإيقاعاتها الموسيقية مع تلوين في الصور بظلال (رومانسية- طبيعية) وتحوير في الأغراض التقليدية، إلى معالجة قضايا الأمة العربية والوطن وهموم المواطنين على اختلاف مشاربهم وأفكارهم، ونجد في الشعر الموريتاني الحديث ما هو أكثر تعمقاً في الحداثة، حيث تجاوز أعلامه النمط الخليلي، وعزفوا عن اللغة البدوية، وركنوا إلى توظيف المورثات والرموز الثقافية المحلية والعربية والإسلامية والإنسانية، مع تفاوت في التمكن من هذه التقنيات واستيعاب فنّياتها، ومن الجلي أن تلك الاتجاهات قد تتعايش في ديوان الشاعر الواحد، بل وفي النص الواحد أحياناً، دون غرابة أو نشاز، واللافت في الحياة الموريتانية، تلك الحرية الكبيرة الممنوحة للمرأة فلا يوجد تفرقة بين الجنسين، ولا نساء معزولات في البيوت، والاختلاط يتم في العمل وخارجه بشكل طبيعي، والزي النسائي المعروف باسم (الملحفة) والمصنوع من القطن والألوان المتعددة يناسب تماماً البيئة والصحة الجيدة، التي هي بقايا من عادة «لبلوح» في المراهقة التي تعد السمنة من مقاييس الجمال آنذاك.
لقد ذهبت إلى سوق المهن والصناعات التقليدية، بصورة خاطفة، فوجدت مدى الاهتمام والحرص على تطوير هذه المهن، والرغبة بنقلها إلى الأجيال الشابة لتكون بمثابة هوية ومصدر رزق وتجارة، ومن البديهي أن يكون تطور المجتمع في انواكشوط وما نتج عنه، من تغير في العقليات وحاجات البشر قد ساهم في بروز مجموعة من النساء الشاعرات والأديبات، والتاجرات والحرفيات وحتى الوزيرات (وزيرة الخارجية - وزيرة الثقافة) في الحكومة الحالية، وهناك نساء في مجلس النواب والاتحادات والنقابات المهنية والشبابية والرياضية والصناعات والإدارات العامة والمؤسسات المختلفة، وقد أثبتت المرأة الموريتانية وجودها بقوة في إرساء ثقافة حضرية تتجلى في تنوع الفن المعماري وتجميل المنازل والاهتمام المتزايد بالتشجير والبساتين، وإدخال مسلكيات وأنماط حياة جديدة في المجتمع الموريتاني.
وتظل الخيمة في الأشكال العمرانية
هذه زيارتي الأولى لنواكشوط، وقد وجدت نفسي في حيرة، لأنني أمام عاصمة مترامية الأطراف، العمارة فيها أفقية، والطرق المعّبدة قليلة، تتفرع عنها طرق رملية عديدة، لا وجود للأرصفة فيها، ورشات البناء موجودة فيها في كل مكان، حركة المرور كثيفة وحرة في الاتجاهين، وعربات تجّرها الحمير تشق طريقها بين السيارات، والماعز يسرح ويمرح بحثاً عن شيء يقتاته، حتى في الأحياء الغنية نوعاً ما.
ثقافة الخيمة القادمة من الصحراء، نجدها في كثير من الأشكال الحضرية ومعالم السكن في انواكشوط، حتى في قاعات قصر المؤتمرات التي عقدنا فيها اجتماعاتنا، وفي مناطق السكن المتواضعة، بشكلها الهرمي وأبعادها المعروفة البسيطة، فهي توجد على سطوح المنازل، أو في الساحة الأمامية من البيوت، وإن كانت الصالات تنافسها اليوم بشدة، ولكن الخيمة تبقى مرغوباً بها، لأنها ملائمة تماماً للمناخ الجاف والحار، وتمكّن شعائرها الجانبية القابلة للإماطة من التمتع بالنسيم البحري من أول العشّية، (كما حدث معنا عندما دعينا إلى عشاء في مطعم الخيمة في اليوم الأخير من زيارتنا) والخيمة من ناحية أخرى تمثل الحياة البدوية التي عرفتها الأجيال الموريتانية المتحضّرة قبل السبعينيات، وهي بالتالي أبلغ عبارة في أذهانهم المضيافة، التي هي قيمة أساسية في الثقافة البدوية، ومنذ بضع سنوات أصبح يُطلب من البنائين أن يشيدوا سطوحاً يعلوها سقف هرمي له أربعة جوانب من الخرسانة، يذكرهم بشكل الخيمة، وهذا الحل المعماري يجنبهم الجهود المتكررة التي يتطلبها البناء والتقويض للخيمة، مع توفير نفس المميزات من حيث الظل والتهوية، والأهم من ذلك أن رمز الخيمة هو إثبات الهوية البدوية لساكن هذه المنازل، وفي المساء يمكن للمرء أن يشاهد الحصر المبسوطة أمام الجدران المحيطة بالمنازل، يجلس عليها الناس للتمتع بالنسيم العليل، وأنس أهل الحي، وهذه عادة بدوية نقلت إلى المدينة، وفي بعض الأحيان، تتخذ الخيمة محلاً تجارياً حيث نشاهد خياماً صغيرة مضروبة هنا وهناك، إما في أسواق المدينة، وإما على قارعة الطريق المسفلتة، وتقوم الشركات باستخدام الخيام الورقية في حملاتها الدعائية في نقاط مختلفة من انواكشوط، كما أن مركز الأعمال الجديد أطلق عليه اسم «الخيمة سيتي سنتر» وهذا المكان يمتزج فيه التقليد بالحداثة، مما يدل على ثقافة حضرية تعتمد على تراث موروث، حيث نجد خصائص ووظائف الخيمة التقليدية عند البدو الرحل، هي محل تجارة عند الحاجة يجري فيها تبادل الحوارات والمداولات، وتقوم بمهام الاستضافة وإيواء الضيف، وهكذا مازالت الخيمة تحتفظ في المحيط الحضري بمكانتها المركزية في الوسط البدوي.
مدينة انواكشوط ليس فيها «مجالات طبيعّية» بالمعنى الصحيح، يوجد فيها بعض الأشجار المزروعة داخل أسوار بعض الأبنية، وغالبية الطرق لم تعبّد، والكثبان الرملية تلوح بوضوح على أبواب المدينة، كل هذا يولد الإحساس بوجود «الصحراء في قلب المدينة» ومما يميز انواكشوط عن غيرها من المدن، ذلك العدد الهائل من الحيوانات الداجنة، ويشكّل حليب الإبل ظاهرة مميزة ضمن منتجات البادية التي تأتي إلى المدينة، فهي جوهر الحياة في البادية، يضاف إليه تمور البادية التي تجنى بين شهري تموز وآب من كل عام، وهذه مع الماشية تجسد حضور البادية في انواكشوط التي مازالت رغم التقدم الحاصل فيها، تعيش بقوة على إيقاع البادية.
أدوات التراث البدوي مازالت حاضرة في مختلف مناحي الحياة الموريتانية، ففي انواكشوط نجد القرية التقليدية المصنوعة من جلد الماعز أمام بعض المنازل في متناول المارة، ومازالت الحصر التقليدية تتصدر واجهات الدكاكين وتحتل مكانها المناسب في البيوت والمنازل وجلسات الشوارع.
انواكشوط مدينة مازالت في طور النمو، وهي لا تتبع النمط العمراني للمدينة العربية، ولا النمط الإفريقي، وهويتها الحضارية يمكن أن تتشكل بعد عشرين أو ثلاثين عاماً، عندما تتخلص من الفوضى العارمة، وعندما يتعلّم الناس كيف يدجّنون أفكارهم وعاداتهم البدوية مع نمط الحياة في المدينة، حينذاك ستتغيّر الملامح، وستتبدل العادات الاجتماعية والحياة الاقتصادية، وسوف تختلف نظرة الذين يعتقدون أن الأشجار تجلب البعوض؟!.
المصادر:
1- مشاهدات وآراء من الزيارة إلى انواكشوط بين (19 و20 نيسان) 2010م.
2- أجيال القصيدة الموريتانية، محمد كابر هاشم، انواكشوط 1430هـ/2009م.
3- إنواكشوط عاصمة موريتانيا - دار نشر سيبيا 2006 - وزارة الثقافة والشباب والرياضة - موريتانيا - انواكشوط.
4- مشروع محاربة الفقر في أحياء انواكشوط، 1996.
5- نشرات وأفلام وثائقية عديدة، عن موريتانيا، إصدارات متنوعة.