لا أعتقد أن هناك كتاباً عربياً، (باستثناء القرآن الكريم) لقي ما لقي من الاهتمام والدراسة والبحث والنشر المتعدد مثلما نال كتاب «ألف ليلة وليلة» فقد طبع أكثر من ثلاثين مرة في القرن الثامن عشر في فرنسا وإنكلترة، ونشرت نحو ثلاثمئة طبعة بلغات أوروبا الغربية منذ ذلك الحين.. وهذا ليس مستغربًا عن كتاب قال عنه عميد الأدب العربي طه حسين: «هذا الكتاب خلب عقول الأجيال في الشرق والغرب قروناً طوالاً، والذي نظر إليه الشرق على أنه متعة ولهو وتسلية ونظر الغرب إليه على أنه كذلك متعة ولهو وتسلية، ولكن على أنه بعد ذلك خليق أن يكون موضوعاً صالحاً للبحث المنتج والدرس الخصب».
في حكايات ألف ليلة وليلة، يتداخل الزمان والمكان، مثله في ذلك مثل الحكايات الأسطورية التي تحكي قصصاً من التاريخ والعادات وأخبار الملوك وعامة الناس، والعفاريت والجن والمردة، وفيها قصص على ألسنة الحيوانات، وبيئات بلاد الرافدين وبلاد الشام في عهود مختلفة، حيث أن هناك ما يشير إلى أن هذه الحكايات قد أُلفت على مراحل زمنية وأضيفت إليها على مرّ الزمن مجموعات من القصص، بعضها له أصول هندية قديمة معروفة، وبعضها من أخبار العرب وقصصهم، وبعضها نسبت إلى بلاد فارس.
متى كتبت الليالي؟!
تجمع الدراسات على أن كتاب «ألف ليلة وليلة» قد وضع بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، بعد أن مرّ بمراحل عديدة من التطور وإعادة الصياغة والأسلوب حتى وصل إلينا بشكله النهائي المتداول، بعد أن أصابه كثير من التبديل والتغيير والتهويل والتكرار، وقد احتلت المرأة في هذا الكتاب مكانة كبيرة، وحيزاً بارزاً متعدد الجوانب، متباين الأبعاد، فتنوعت صورها، واختلفت اختلافاً بيناً، وهذا ليس غريباً، إذ إن الكتاب لا تجمعه وحدة المؤلف، ولا العصر، فهو يجمع أشتاتاً من صور المرأة على مرّ العصور، في مختلف البيئات، ففي الليالي صور كثيرة عن ملكات، وعن نساء عاديات، ميسورات وفقيرات، وقد استمدت الشخصيات من الواقع حيناً، ومن قصص الخيال أحياناً، وقد فاضت قصص الليالي في وصف النساء ومفاتنهن وأسلوبهن في المكر والدهاء والكيد والسحر والانتقام، والعجوز الشمطاء القادرة على جمع المحبين بطرق مشروعة أو غير مشروعة..
أكبر دور قامت به المرأة في «ألف ليلة وليلة» هو دور المرأة العاشقة، وهي في هذا الدور، كما تقول الدكتورة سهير القلماوي في كتابها عن ألف ليلة وليلة: «لا تختلف كثيراً عن القصص المتعددة، فالصورة العامة لهذا الدور هو لقاء وحب لأول وهلة أو نظرة، ثم فراق قد يتعدد، وقد يتعدد مفتعلاً، لمجرد إطالة القصة إذا ما دعا كل شيء فيها إلى النهاية».
لشهرزاد الدور الأهم
ويبقى لشهرزاد الدور الأهم والأقوى والأكثر سحرًا وقوة وتأثيرًا في الليالي، فقد اعتبرها النقاد وكتّاب الاستشراق الذين تأثروا بالليالي، رمز الشرف الجميل الساحر والبعيد المنال.. رمز الحكاية التي لا تنتهي.. المرأة القوية القادرة على تأجيل موتها وموت حكايتها التي تتجدد ليلة بعد ليلة..
تبدأ بها الليالي، من قصة الملك شهريار الذي يعلم بخيانة زوجته له، فيأمر بقطع رأسها، ونذر على نفسه أن يتزوج كل ليلة فتاة من مدينته، ويقطع رأسها في الصباح انتقامًا من النساء، حتى أتى يوم، لم يجد فيه الملك من يتزوجها، فيعلم أن وزيره لديه ابنة نابغة اسمها شهرزاد، فقرر أن يتزوجها، وتقبل بذلك إنقاذًا لرأس والدها ولبنات جنسها، وتطلب من أختها «دينازاد» أن تأتي إلى بيت الملك لتقص عليها، وعلى الملك قصة أخيرة قبل موتها في صباح ذلك اليوم، فتفعل أختها ما طلبت منها..
لقد قصّت عليهم شهرزاد قصة مشوقة لم تنهها، وطلبت من الملك أن يبقيها حيّة لتقصّ عليه البقية في الليلة التالية.. وهكذا بدأت شهرزاد في سرد قصصها المترابطة بحيث تكمل كل قصة في الليلة التي تليها، حتى وصلت إلى ألف ليلة وليلة.. بحيث أن الملك وقع في حبها وأنس إليها، وأبقاها زوجة له، وتاب عن قتل الفتيات، واحتفلت مدينة الملك بذلك لمدة ثلاثة أيام..
لقد استطاعت شهرزاد من خلال أسلوبها القصصي الساحر، وعالمها الأسطوري الأخاذ، المليء بالحكايات الجميلة والحوادث العجيبة، والقصص الممتعة والمغامرات الغريبة، أن تعبر بالملك من رحلة إلى أخرى أجمل، وجعلته مأخوذًا بصور الجمال الباهرة والأحداث المتداخلة، والسرد العفوي أحياناً، مما أثّر في نفسيته وغيّرها من الحالة العدوانية الانتقامية إلى حالة العفو والسمو والعدل والانشراح..
صحيح أن شهرزاد لا تشغل في الليالي، سوى موقع الراوية، ولكنها بقوة شخصيتها وأسلوبها، وقبولها التحدي، كي تنقذ بنات جنسها من بطش الملك، وهذا ما جعلها أثيرة ومحببة من قبل المستشرقين والباحثين والكتاب والأدباء الذين نهلوا من تراث ألف ليلة وليلة، فقد اختاروها من بين مئات الشخصيات التي تزدحم بها «الليالي»..
شهرزاد في الموسيقا العالمية
لقد أصبحت شهرزاد في كثير من الأعمال الأدبية والموسيقية العالمية والعربية رمزاً وكناية، صارت حيناً بطلة رومانسية، وحيناً منافحة عن وجود المرأة وكنايتها، وفي أحيان كثيرة صارت حكاية الحكاية نفسها، والعنصر القادر في حدّ ذاته على أن يفسّر أصل الفن، وبواعث الرغبات الإبداعية لدى المبدعين، حول هذه النقطة يقول الناقد إبراهيم العريس: «ليس من السهل، اليوم، إحصاء كل الأعمال الموسيقية والتشكيلية والأدبية والشعرية، ثم المسرحية والسينمائية التي كانت شهرزاد لا ألف ليلة وليلة، في حد ذاتها ملهماً لها، فهي تعد بالعشرات، وكلها عرفت كيف تعطي لابنة الوزير- الثرثارة- تلك
السمات الشاملة والمثالية، التي تمتزج فيها المعرفة بالحساسية، والذكاء بالدهاء، وحس التمرد، بالقدرة على أن تكون حنونة كل الحنان».
أهم من استفاد من حكاية شهرزاد في الموسيقا، الفنان الروسي ريمسكي كورساكوف (1844- 1908)، صاحب الإشراقات التامة، والمتتابعات الموسيقية ذات الألوان الشرقية الصريحة، الذي ألف عنها عمله الجبار عام (1888)، وتتكوّن من أربعة حركات موسيقية، بالمفهوم العلمي المتعارف عليه آنذاك، وقد قال عنها كورساكوف: إن لهذه السيمفونية صدى موسيقياً في حياتي، واعتمدت على حكاية شهرزاد والسلطان شهريار، الذي أدى يمين القسم بعد خيانة زوجته الأولى، وصمم بأنه سيقتل كل فتاة يتزوجها تأثراً لكرامته ولما حدث له.. وأخيراً يلتقي بالفتاة العذراء شهرزاد العاقلة الذكية والتي بدأت بسرد الحكايات...»
لقد ضمَّن كورساكوف سيمفونيته مجموعة جميلة من الألحان الرومانسية الشرقية، ذات الملامح العربية الساحرة، لتعبّر عن الفكرة الإنسانية، ولتعطي حكاية السرد الشرقية قيمة كبيرة جعلت من شهرزاد أهم أعماله انتشاراً وشهرة وتأثيراً.
كما قام الموسيقار الفرنسي «موريس رافيل» (1875 - 1937) بتأليف واحد من أهم أعماله الموسيقية، حملت اسم «شهرزاد» ويتألف من ثلاث قصائد شعرية كُتبت للغناء والبيانو..
شهرزاد الحكيم
في الأدب العربي كتب توفيق الحكيم في عام 1936، مسرحية من أشهر أعماله حملت اسم «شهرزاد» وقد ترجمت إلى عدة لغات عالمية، وقدمت في لندن عام 1955، ونالت إعجاب النقاد الفرنسيين والإنكليز، وتعد اليوم أحد أكثر أعماله اكتمالاً ودلالة.
اللافت في مسرحية توفيق الحكيم أن الشخصية الأساس هي شخصية شهريار، لا شخصية شهرزاد، ففي هذه المسرحية المؤلفة من سبعة مشاهد، نجد أنفسنا في المقام الأول في صحبة شهريار.. هذا الملك الشكوك، وقد بدأت شهرزاد تستحوذ عليه إذ راح يؤجل قتلها يوماً بعد يوم مبهوراً بحكاياتها، ومعارفها الواسعة، وبدرايتها بكل شيء، الماضي والحاضر والفنون والأدب والعلوم والشؤون الفقهية والاختراعات وطبائع البشر، ومن هنا كان لا بد لشهريار من أن يصحو ذات يوم متسائلاً عن «سر زوجته» العميق: إنها تعرف العالم كله وترويه من دون أن تكون جابت أنحاء هذا العالم، تعرف الماضي من دون أن تكون عاشته أو تبحرت في علومه، ثم إن هذه المرأة تعرف الملذات وحكاية الملذات كلها من دون أن يبدو عليها أنها عاشت أياً من تلك الملذات.. في كل مرة يسأل عن سرها أو عن أسرارها، تزداد حيرته أمام أجوبتها المتهربة والتي تضيف إلى الألغاز التي تكاد تدمره، ويتفاقم أمره فيلجأ إلى السحر والشعوذة وإلى السفر مما يزيد من عذاباته ويجد نفسه يسأل نفسه: من أنا؟ من أنا؟ فتجيبه شهرزاد: أنت إنسان معلق بين الأرض والسماء، ينخر فيك القلق، وقد حاولت أن أعيدك إلى الأرض فلم تفلح التجربة.
شهرزاد في الأدب العالمي
في التجربة الإبداعية العالمية، أصبحت شهرزاد شخصية شهيرة، وأصبح كل ما يحيط بها في الإطار من حوادث، ينبوعاً لتفجر الأدب الكبير الجديد، فهذا «الشاعر الألماني غوته» يكتب عن الليلة الثانية بعد الألف، حيث تأتي شهرزاد لزيارة الكاتب طالبة منه إنقاذها بقصة جديدة لأن الملك لم يعف عنها، وهذا هو الأمريكي «إدغار آلان بو» يتأثر بالسخرية التي أثارها «غوته» من تعميم هذا الأثر وكثرته فيؤلف قصة قصيرة على طريقته عن الليلة الثانية بعد الألف، حيث يقتل الملك شهريار شهرزاد في تلك الليلة لأنها استمرت تقصّ عليه، وقد اشتاق بعد كل هذه الليالي إلى أن ينام مطمئناً بعد أن سئم ومل.. ويأتي الكاتب الفرنسي «دورونييه» فيؤلف قصة حول شهرزاد بعد الألف ليلة، فيصور مقتل شهريار وتفرد شهرزاد بالحكم بعده وسأمها من القصر والبستان والبذخ الذي تعيش فيه، فتطلب هي بدورها قاصاً يسليها، وعقاب من لا يسليها قطع أذنيه، فيتصدى لها الكثيرون، وتظفر آخر الأمر بشاب جميل يأتيها في قافلة غريبة فتحبه، ولكنها تكتشف أنه قد خانها.
وعند الحديث عن الليالي وشهرزاد، لابد من الإشارة إلى الدور الكبير الذي قام به المفكر الجزائري جمال الدين بن شيخ (1930 - 2005) الذي كان يقيم في باريس ورحل عن عالمنا بعد أن أنجز مشروع عمره، وهو الترجمة الكاملة الرائعة لكتاب «ألف ليلة وليلة» فقدم أبطال الليالي للمجتمع الغربي بعيداً عن الدراسات والأبحاث القديمة، وأكد عوالم الأحلام والخيالات والرموز والقيم التي تلتقي وتفترق وراء ثوبها الفضفاض الممدود، وشخصياتها من شهرزاد وشهريار وقمر الزمان والسندباد والشاطر حسن وعلي الزيبق ودليلة المحتالة وعلي بابا وغيرها من الشخصيات العربية التي أصبحت عالمية، حملت المتعة والسلوى والبهجة والحبور إلى شعوب العالم قروناً بعد قرون، وما زالت قادرة على الفعل والمشاركة والتحرك بيننا حتى يومنا هذا.
المصادر:
ألف ليلة وليلة، تأليف: سهير القلماوي، إصدار دار المعارف بمصر عام 1966
فن الموسيقا، تأليف: فاضل جاسم الصفار، الدار العربية للموسوعات - بيروت الطبعة الأولى 1988.
وتبقى الثقافة: تأليف: د. علي القيم، إصدار وزارة الثقافة السورية عام 2010م.
الموسوعة العربية، المجلد الثاني، إصدار لجنة الموسوعة العربية - دمشق 2004.
الموسوعة الحرة، من ويكيبيديا (عن الإنترنت).
مسرحية شهرزاد لتوفيق الحكيم، إصدار دار المعارف بمصر 1962.
شهرزاد لموريس رافيل، لإبراهيم العريس، جريدة الحياة 31/1/2010.
شهرزاد، سيمفونية تأليف: رايمسكي كورساكوف (CD).
المصدر : الباحثون العدد 38 آب 2010