ثنائية تطارد بعضها منذ أقدم الأزل، تجتمع في الصورة تفترق في الجوهر، أثارت عبر جميع الحقب الزمنية الجدليات الكبرى، وأنجبت سؤالاً خطيراً: مَن يحكم مَن، المال الذي يثقب القانون أم القانون الذي يطارد المال أينما حلّ، وإلى أيِّ صندوق ارتحل؟، وحينما نعلم أن السياسة تنجب القانون، ومسؤولة عنه، وفي ذات الوقت تؤسس محاوره، وتشريعاته، وتوجهاته، مجيِّرة إياه لخدمتها، وتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، أما المال المشكِّل للاقتصاد بقوته وقواه متعددة الجوانب، وعند تمركزه وامتلاكه يتم ترتيبه عمودياً / شاقولياً، أي طريقة جمعه، وأقصد: لا يمكن لك أو لأي أحد كان أن يجمع المال أفقياً، فنظرية التراكم هي أن يتراكب فوق بعضه كي يتراكم، وينجز المستطيلات المكعبية متخذة شكل الهرم في المجموع، يجثم فوقها مالكها بعين الحارس لها أولاً، والمتطلع إلى ارتفاعه أكثر ثانياً، بينما السياسة فهي كلامية قانونية، أيّ خطأ فيها يؤدي إلى ضياع الموجود الإنساني، ومن ثم ضياع ما يملك، ومهما حاول أيُّ إنسان فهمها لا يستطيع، بكونها متدحرجة وزئبقية، تتكيف مع الظروف من خلال أسرارها، فلا يُعرف لها مسار ولا نهاية لخيوطها، وفي النتيجة تجدها محكومة ضمن العقل الإنساني من أجل خدمة المال.
هنا نتوقف لنبحث في هذه الثنائية، هل تلتقي كي تنجب، أم تبقى تطارد بعضها؟ فالأول وبشكل دائم يحاول مطاردة المال، والثاني يبحث وبشكل دائم عن الثغرات فيه، أو إيجادها من أجل النفاذ منها، والابتعاد من خلالها عنه .
هل صحيح أن من يمتلك المال ويتحكم به؛ لا تقلقه القوانين ولا يهتمّ لواضعيها؟ والسؤال الثاني: إلى أيهما تميل الذات الإنسانية أإلى المال أم إلى القانون المؤسّس من القاعدة والسلوك؛ المنضوي تحت الجمل الأخلاقية؟ كيف حُرّم ولماذا حُلل؟ والطبقات الاجتماعية ماذا تعني لنا، هل أنشأتها السياسة أم التكوين الديني؟ وإذا كانت السياسة والدين والجنس ( تابو ) القانون ونظمه وشريعته، أوجده الإنسان؛ كيف أنجزه، ولمن ومن أجل من، أليس كل هذا من أجل المال، والمال وضع القوانين كي يقود، ويحتمي، ويحمي، ويظهر ويختبئ، وينشئ السيطرة والقوة والإرادة، ويتمتع بالشخصية، والفوقية والتسلّط، والإله ونظم التحكّم المادية والمعنوية، ومن نظرة إلى ذلك التاريخ العميق نجد أن قابيل قتل هابيل من أجل الجنس ونوع الثروة، على الرغم من امتلاكه للمال المقارن، أي: التوازن الاقتصادي القادم من المال مع أخيه الإنسان، ومنه نجد أن المال هو الشهوة واللذة، لذلك تكمن به الخطورة، وحينما نتواصل شارحين لمفهوم القانون والمال، نعلم مَن يحكم مَن، السياسي احتاج للقانون فأنجزه كي يخدمه، وفي ذات الوقت من أجل محاسبة الانحراف،
هنا تنشأ معادلة اختلاط الصح بالخطأ، والسياسي المستقيم بالسياسي المنحرف، والاقتصادي الحقيقي: الصناعي أو الزراعي أو التجاري المنتج، والاقتصادي الباحث عن التمتّع بالمال، وهذا هو الذي يعتبر نواة لكلا الطرفين السياسيين، فالأول يحاول ربط الطبقات الثلاث، أي: وحدة البناء من القاعدة إلى القمة، والثاني يبحث عن الضرورة، فالتشجيع يكون أكبر مع السياسي المنحرف، بكون القانون أُنجز من قِبل الأول، أما السياسي المنحرف فيساعد على خرقه أو إيجاد المنافذ من خلاله، وهذا ما يناسب المال أكثر، ودائماً يتم دعم السياسي المنحرف، واختيار الأشخاص المطلوب تحويلهم إلى سياسيين من شرائح اجتماعية مركبة، تعيش حالات قلق، فمن الصور مثلاً: شخص غير ناجح في إدارة الأسرة، وله قضايا تخصّ الاحتيال وتصدير شيكات بلا رصيد، واعتداء على الغير، والتسبب بإفلاس أصدقاء أو شركات، وعليه دعاوى مختلفة في القضاء وكثيراً ما أُنذرَ أو اعتُقل بقيادة سيارة بسرعة عالية، وانتهازه للظروف الطارئة وتكبُّره على القانون .
من صنع المحرم والمقدس؟، بالتأكيد هو إنسان لم يكن ضعيفاً ولا فقيراً؛ بل كان غنياً فكرياً، فاهماً عارفاً مالكاً سيداً قابضاً، وأيضاً حاضراً من خلال أي طبقة من الطبقات الثلاث؛ التي لا رابع لها، فلم يأتِ من الغيب ولا من الوراء ولا من الأمام؛ بل من الإنسان في مجموعه: النباتي والحيواني والجمادي والمائي، إنما حدث هذا بعد أن ارتقى وتربّع على كمال القمم القادمة من البناء المادي، والذي لم يكن ليظهر لولا تراكم القيم المادية التي لم تكن تعرف الروح بعد، فإذا جمعته ووقفت عليه رفعك، والعكس أي أنك ترفعه، وتختبئ تحته، يخفيك فيتناثر، حيث تذروه الرياح، والطبع الإنساني ميّال في سياسته الاجتماعية إلى من يمتلك المال، وما قيل فيه لخير دليل، نستعرض بعضاً منه قائلين : 
رأيت الناس قد مالوا ... إلى من عنده مالُ
ومن ما عنده مالٌ ... عنه الناس قد مالوا
رأيت الناس قد ذهبوا ... إلى من عنده ذهبُ
ومن ما عنده ذهَبٌ ... عنه الناس قد ذهبوا
رأيت الناس منفضة ... إلى من عنده فِضة
ومن ما عنده فِضّة ... عنه الناس مُنفضة
وحينما نتأمل المعاني، ونمتلك روح فهمها نصل إلى ما لم يصله المتقطعون والعابرون من الحياة، وفيها دون دراية وتأمل، فما معنى ما نسير به إلى المعاني؟ وإن من أبدعَ جمل الأفكار والعقائد وأوجد نظريات الخضوع والتبعية والاندفاع؛ ليصل إلى النتيجة الحتمية التي تُخضع السياسة للمال، فكيف يخضع القانون للسياسة، والسياسة للمال ومن هو المسؤول عنه؟.
القانون قادم ككلمة: سومرية- كلدانية- أشورية- آرامية- سريانية أوجدها في الأساس حمورابي العظيم، حين وضع شريعته من خلال العصا المستقيمة؛ التي كان يشير بها إلى الصح والخطأ ضمن مجلسه، ولم يقصد الضرب بها أو أن تكون أداة للتأديب؛ إنما هي أداة مادية تحمل دلالات القواعد والمبادئ؛ التي يجب أن ينضوي تحتها الجميع، ولذلك شكّلها.. نحتها على شكل مسلة مسمارية، نقش قوانينه عليها، وتكونت شريعته من مجموعة قوانين؛ أظهرت عقوبات لمن يخترقها، ركزت على السارقين، والمارقين ومن يتلف الممتلكات وحقوق المرأة، وحقوق الأطفال وحقوق المستخدمين والموظفين، حاسب القاتل وفرَّق بين الموت الطبيعي والتخطيط للموت، وعالج الإصابات، وفرَّق بين الضحية والسجان، وجلس على عرشها ونشرها بين أفراد المجتمع، كانت غايته نزع الخوف من قلوب المستضعفين، وبثها في أصحاب المال المتسلّطين والمستغلين، استخدمها الآشوريون وانتقلت إلى اليونان واعتمدت ( KANUN ) ومصدرها قانون؛ التي تعني الخط المستقيم عكس الخط المنحي أو المنحرف أو المنكسر، وأيضاً تضمُّ معاني الاستقامة والصراحة والنزاهة ضمن العلاقات الإنسانية، ومنه كان تواجد مجموعة القواعد الناظمة له، تخصُّ مجتمعاً وأمة وأمماً، ومن يخرج
عنه يسمى خارجاً عن القانون، وإذا كان المال في القانون هو الحق ذو القيمة المالية؛ أياً كان هذا الحق عينياً شخصياً، أم حقاً من الحقوق الصناعية والأدبية والفنية، حيث يعتبرونه مالاً: من " مالَ إليك "، وفي اللغة يُعرف بأنه كل ما يقتنى ويحوزه الإنسان بالفعل من موجودات، عدا ما يطير في السماء، وما يسبح في الماء، وما لم يتم السيطرة عليه في الطبيعة .
الإنسان أوجد السياسة، وهي بدورها تمسكت بالمال الذي أوجد القانون من أجل حماية الإنسان، وبالتالي حماية ما يمتلكه، وكي يدير شؤونه بالاعتماد على القانون والسياسة في آن؛ نجد أن الإنسان القديم هو مبدع أفكار الجمع من أجل أن يحدث اللّمع، كيف يحصل هذا؟، وأيضاً ماهية القدرة على استحصاله ووضعه في الحصالة القادمة من الحصيلة، أي: جمْع الإنسان النهائي، وحينما ندقق في هذا الحصيلة ونفتش آليات ورودها وتراكمها نستحضر قانون تفتيشها، فلا يمكن أن نرتبها دون أن نعرف طرق جمْعها، ونعي كمية الصح فيها والخطأ، أي ما ورد منها من طرق الحلال، وما وفد إليها بالتلاعب، والغش، والاحتيال، والنصب، والمخالفة، وهذا كله قدم إما نتاج السيطرة والقوة التسلطية المالية، وإما نتاج الفكر السلبي غير المؤمن بالحقوق والقانون الناظم لتلك الحقوق، فهل نؤمن بتبادل الحقوق، أم أن القوة تمنعنا من تحقيقها؟ .
أسئلة كثيرة ينجبها العقل الإنساني، ويمتنع عن أجوبتها العقل البشري، لماذا أجيب أن العقل الإنساني قانون، والعقل البشري مادي ( مال )، فالبشر تسلّط والإنسان اعتراف، والبشر ذكورة والإنسان رجولة، فأين نحن من هذه المعاني والمفاهيم والتفاسير؟،
نحاول أن نبدأ قصةً إنسانيةً نبتعد بها عن جملة العقائد الروحية الناظمة للحياة البشرية، وغايتها تحويل البشر إلى إنسان، حتى الوضعية والثقافية منها؛ حاولت إيجاد نظم تقترب بها من إلغاء الصراع الطبقي، وحاولت أيضاً إلغاء ذلك الصراع، وإيجاد نظرية السواسية والإيثار والاعتراف بالوجود، وأنه موجود مِن أجل مَن، وأننا جميعنا على خلق ولكنّ جميعها لم تفلح، أسأل جميعنا لماذا؟
مَن يصطاد مَن، المال أم القانون؟ وخلال عصر النهضة ألم يصطد المال الأفكار؟، نصب لها الشراك وأوقعها ضمن شبكته، محققاً معها نظم التطور، وكان منه وبه إحداث الحداثة، والحداثة تقتضي مسح ما مضى، أي: إبداعات الحروب والإيمان بأن العمر الفني للمادة السابقة قد انتهى، وينبغي مسحها، ويتم ذلك بوضع أصابع من الديناميت رخيص الثمن في الأساسات، ومن ثم التمتع بالانهيارات التي ستحدث، لتعود إلى الصفر المراد أن يبنى عليه، وتلك رؤية نيرون: الأرض المحروقة والاستمتاع بجمال النار الشيطانية، وهنا بيت القصيد، والمفتاح الذي يدور في تلك الأقفال الموصدة، مَن يحكم مَن القفل أم المفتاح؟ وإذا كان القفل هو القانون وبه ثقب للمفتاح، والمفتاح هو المال، عليه يكون المال " المفتاح الموصد الذي يطّلع على الأفئدة " لا يوجد قلب؛ بل ثقب، وإلاّ لا يمكنه العمل، وحينما ندقق في المضخات المادية، نجد لها ثقب (منهل) من أجل إفراغ الهواء، وبدون هذا الثقب لا تعمل، وهذا هو المفتاح، أي: المال الذي يضخ المال، ليعمل القلب أي: ليتحرك القانون، ويتفعّل وينجز الأفعال بالسلطات التي تمنحه الأوامر .
العقل الإنساني لونه أخضر يشبه الطبيعة، والطبيعة فيها شريعة الغاب، وبما أنه إنسان امتاز عن باقي الموجودات الحية بالعقل والخوف، واعترف بأنه أشد المخلوقات هلعاً، وأيضاً عرف أنه لا يستطيع بمفرده أن يمتلك كل شيء، أو أن يسيطر على الموجود بمفرده، وأن هناك إنساناً آخر بجانبه، يراقبه يتابعه بدقة، وخوفاً من أن يستبيحه الآخر فيما امتلك؛ اخترع الباب، والصندوق، والقفل، والمفتاح من أجل ما يملك، وخوفاً على ذاته لا من الوحوش الجائعة؛ بل من الإنسان الذي بجانبه، وهنا يكمن بيت القصيد الذي حاول ألاّ يدخله الإنسان بعقله، فحينما يستخدمه يقيده وطبعه ميال إلى التملك، فعندما وُزِّع العقل على المجموع الإنساني ارتضى كل واحد واقتنع بعقله، أما عندما وُزعت الأرزاق لم يقتنع أحد برزقه القادم من اجتهاده، وتمنى أن يمتلك رزق الدنيا بأكمله، لذلك كانت ضرورة إيجاد القانون لحماية العقل الإنساني من العقل الآخر، ومن ثم استعماله ضد الآخر؛ كي يمتلك القدرة على استباحته أيضاً متى شاء ولحظة تطور الشهوة والاشتهاء .
القانون ثابت، بعد أن نُقش على مسلة حمورابي وخالد ضمن العقل الإنساني، وبشكل أدق الكثير من بنوده الأخلاقية لا يستطيع أياً كان تجاوزها، مهما بلغت ثروته المالية، أو قوته السياسية؛ لكنه يقدر على الالتفاف حولها، دون زعزعتها أو النَّيل منها، وفي اعتقادي الجازم أنه يخافها ويهابها، بكون شعوره وهو يمرُّ عبرها يعرف ويعترف لذاته أنه يخالفها، وأنها تراقبه، وأن قصص التظلم دخلت التاريخ من بابه الواسع، فكانت عبرة لمن يعتبر .
لقد خفتت أنوار عصور الإبداع والاختراع والتنافس الشريف، والتي أُنجزت خلالها القوانين الناظمة لأسس جمع المال وتراكمه، حيث كان في تلك العصور الاهتمام بالعقل؛ صاحب الفكر والأفكار والجهد والاجتهاد، وتم إظهار كلِّ شيء من الإبداعات في تلك العصور، نظراً للحاجة الماسة إليها، ومن خلالها تولدت جمل السلوك الأخلاقية، حيث ساد الاحترام بين الإنسان وأخيه الإنسان، وما نراه اليوم، ومع مرورنا تحت مسميات العصور الحديثة "استهلاك"، والاستهلاك يعني زيادة الجوع وتطور الشهوة إلى كل شيء؛ من خلال تجاوز الإرث الإبداعي والاختراعي، إذ وصلنا إلى قدرة ابتلاع بعضنا الإنساني لجميعنا، وإذا توفرت إرادة التدقيق ومقاربة الماضي مع الحاضر نستخلص الفارق، ونرى حجم المأساة التي نحن نتواصل من خلالها، حيث الصورة الحالية تحمل رسوم التسابق بين من يحصل ويحصد الكمَّ الأكبر من المال: البورصات أسواق المال ومؤشراته الاقتصادية، مَن يسبق مَن للسيطرة على النفط - الغاز- الذهب- المعادن- والغاية حكم العالم والسيطرة عليه .
سياسةٌ تمتلك قانون شريعة الغاب، شكلها تنافسٌ شريف، ومضمونها ابتلاع البعض للكل، وهذا ما يجري ما بين الصغار والكبار، ما بين المتخلّف والمتقدم، والنامي والباحث عن النمو، والمتسلّق والصاعد.
المصدر : الباحثون العدد 36 - حزيران 2010